دراسات إسلامية
بقلم: الشيخ عبد الرؤوف خان الغزنوي الأفغاني(*)
المدارس الإسلامية الأهلية في شبه القارة الهندية والباكستانية تستقبل في شهر شوّال عامًا دراسيًّا جديدًا حسب نظامها، فتقوم أوّلًا باختبار الطلاب الجدد الراغبين في الالتحاق، ثم تستعرض أحوالَ الطلاب القدامى من جديد، وبعد ذلك تهتمّ بتوفير التسهيلات التعليميّة والسكنيّة والغذائيّة للطلاب، وتبدأ الدراسة بعد منتصف شهر شوّال، فتضيق الفصولُ الدراسية والغرف السكنية بالطلاب لكثرتهم، ويتخرّج كلَّ عام عددٌ كبير من الطلاب في هذه المراكز الدينية.
ولاشكّ في أن هذا الإقبالَ الكبيرَ للطلاب على المراكز الدينية، وتقديمَ تلك التسهيلات المتنوّعة لهم ظاهرةٌ تَسُرُّ الإنسانَ المسلم إذا ألقى عليها نظرةً عابرةً، أمّا إذا تعمّق وتفكّر في تأريخ هذه المدارس وأهدافها السامية، وقارن بين ماضيها وحاضرها وَجَد بجانب سروره ما يُقْلِقُه من جانبٍ آخر؛ فإن الأهداف المطلوبة لاتترتّب في هذا الزمن على هذه المدارس ترتُّبَها عليها في الماضي مع توفير التسهيلات العصريّة في أفنيتها ووضع الترتيبات الجديدة في ساحاتها؛ حيث يتخرّج كلَّ عام آلافٌ من الطلاب ويُكمِلون دراستَهم في هذه المدارس الدينية؛ ولكن إذا بحثتَ فيهم عمن يقوم بالتدريس قيامًا ناجحًا تعبتَ، وإذا طلبتَ من بينهم داعيةً إلى الله مخلصًا موفَّقًا أَعْياكَ طلبُكَ، وإن تفحَّصْتَ في هذه الجموع الحاشدة عن كاتبٍ إسلاميٍّ يُتَوَقَّع منه أن يقوم بخدمة الدين عن طريق قلمه، ويُوقِظَ به قلوبًا نائمةً ما وصلتَ إلى منشودك إلاّ بصعوبة، وقد لاتصل إليه مع تحمّل المشقة في الفحص عنه.
وإذا أمعنَّا النظرَ في تأريخ هذه المدارس الأهلية منذ بداية نشأةِ أُمِّها «دار العلوم ديوبند» في عام 1283هـ إلى نهاية القرن الرابع عشر الهجري وجدنا أنها خرَّجتْ شخصياتٍ عبقريَّةً وعلميَّةً قد قاموا بخدمات جليلة في ميادين مختلفة من التدريسِ والتأليفِ والدعوةِ إلى الله وإصلاحِ الأمّة ودحضِ الأباطيل والجهاد في سبيل الله. والمراجعةُ إلى مآثِرِ حياة أمثال سماحةِ الشيخ/محمود الحسن الديوبندي (المعروف بشيخ الهند)، والمحدّثِ النبيل العلاّمة/محمد أنور الكشميري، وحكيمِ الأمّة الشيخ/أشرف علي التهانوي، وشيخِ الإسلام السيد/حسين أحمد المدني، وسماحةِ الشيخ الداعية/محمد إلياس الدهلوي ومعاصريهم – رحمهم الله- تُثْبِتُ ذلك.
ثم المراجعةُ إلى وقائع حياة من بعدهم أمثال فضيلة الشيخ/محمد زكريا الكاندهلوي (المعروف بشيخ الحديث)، وفضيلة الشيخ المقرئ/محمد طيّب – مدير الجامعة الإسلامية «دارالعلوم ديوبند» سابقًا – وفضيلة الشيخ الداعية المفكّر السيد/أبي الحسن علي الندوي، وفضيلة الشيخ المفتي/محمد شفيع – مؤسس جامعة «دارالعلوم كراتشي»-، وفضيلة الشيخ العلاّمة السيّد/محمد يوسف البنوري – مؤسّس «جامعة العلوم الإسلامية- علاّمه بنوري تاؤن» في كراتشي-، وفضيلة الشيخ الجليل/عبد الحق – مؤسس «دارالعلوم الحقانيّة- أكورا ختك» في نواحي بشاور-، وفضيلة الشيخ المفتي/محمود – رئيس جمعية علماء الإسلام في باكستان سابقًا-، وفضيلة الشيخ المفتي/محمود حسن الكنكوهي – رئيس دار الإفتاء بالجامعة الإسلامية «دارالعلوم ديوبند» سابقًا-، والعالم الزاهد التقي الشيخ/مرغوب الرحمان – مدير جامعة «دارالعلوم ديوبند» سابقًا-، وسماحة الشيخ الأديب الأريب المفضال/ وحيد الزمان الكيرانوي – أستاذ الأدب العربي والمدير المساعد بجامعة «دارالعلوم ديوبند» سابقًا-، والذين عاشوا في زمنهم – رحمهم الله- دليلٌ آخر على ذلك.
ثم مشاهدةُ نشاطات سماحة الشيخ المحدّث/ سعيد أحمد البالن بوري – رئيس هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية «دارالعلوم ديوبند»-، وسماحة الشيخ/نعمة الله الأعظمي – أستاذ الحديث بها-، وسماحة الشيخ/رئاسة علي البجنوري – أستاذ الحديث بها-، وفضيلة الشيخ السيد/أرشد المدني – أستاذ الحديث بها ورئيس جمعية علماء الهند-، وفضيلة الشيخ المفتي/أبو القاسم – أستاذ الحديث بها ومديرها-، وفضيلة الشيخ/نورعالم خليل الأميني – أستاذ الأدب العربي بها، ورئيس تحرير مجلّة «الداعي» العربية الشهرية-، وسماحة الشيخ المحدّث/محمد يونس الجونفوري – شيخ الحديث بالجامعة الإسلامية «مظاهر علوم» سهارنبور-، وفضيلة الشيخ المحدّث/سليم الله خان – مؤسّس الجامعة الفاروقية في كراتشي ورئيس وفاق المدارس العربية في باكستان-، وسماحة الشيخ الجليل/محمد تقي العثماني – صاحب التصانيف الشهيرة، وشيخ الحديث بجامعة «دارالعلوم كراتشي»- وأمثالهم – بارك الله في حياتهم وجهودهم- دليلٌ ثالث على ذلك.
ويبدو أن سببَ الهبوط المتزايِد يومًا فيومًا في هذه المدارس الدينية الأهلية من بداية القرن الخامس عشر الهجريّ إلى يومنا هذا هو الاقتصارُ على أسباب التعليم الصوريّة وإهمالُ العواملِ الحقيقية المؤثّرة في تكوين طلاّب العلم؛ فيُهتَمُّ اهتمامًا بالغًا بإنشاءِ المساكن المريحة، وتعمير الفصول الدراسية المتسعة، وتوفيرِ الكتب الدراسية وكتب المراجعة، وإنشاءِ المكتبات الفسيحة، وتقديمِ وجباتِ الطعام الشهيّة وما إلى ذلك من الأسباب الصورية الأخرى، ويُهْمَل تعميرُ أفكارهم، وتزكيةُ أخلاقهم، وتعويدُهم على تحمّل المتاعب لطلب العلم، وتحريضُهم على التفرُّغ له وعلى تنظيم الأوقات والاحتفاظ بها، وتشويقُهم إلى الاقتداء بسلفهم الصالح، وتبعيدُهم عن المعاصي وأسبابها. ولنذكر فيما يلي عددًا من العوامل الحقيقية المؤثّرة في تكوين طالب العلم:
العامل الأوّل: الإخلاص وتصحيح النية
لابدّ لطالب العلم قبل كل شيء من أن يهتمّ بتصحيح نيته وإرادتِه وجهَ الله تعالى بطلبه للعلوم الدينية، وأن يكون مخلصًا في جميع أعماله البارزة والخفية، ولذا كان سلفنا الصالح كالإمام البخاري وغيره – رحمهم الله- يستحبون افتتاحَ كتبهم بحديث النبي – ﷺ- الصحيح المتَّفَقِ عليه «إنما الأعمال بالنيات»، يقول الإمام النووي في مقدّمة كتابه الشهير «المجموع شرح المهذَّب» ناقلًا عن الإمام أبي سليمان الخطّابي: «كان المتقدمون من شيوخنا يستحبّون تقديمَ حديث الأعمال بالنيات أمامَ كل شيء يُنْشَأ ويُبْتَدأ من أمور الدين لعموم الحاجة إليه في جميع أنواعها».
العامل الثاني:الورع والتقوى
من العوامل المؤثّرة في تكوين طالب العلم الأخذُ بالتقوى والورع، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾ الآية (البقرة:282)، ويقول: ﴿يَآ أيُّهَا الَّذِيْنَ اٰمَنُوْا إِنْ تَتَّقُوْا اللهَ يَجْعَل لَكُمْ فُرْقَانًا﴾ الآية (الأنفال:29) قال العلاّمة محمد بن علي الشوكاني في تفسيره «فتح القدير» تحت اٰية سورة البقرة المذكورة: «وفيه الوعدُ لمن اتقاه أن يعلِّمه، ومنه قوله تعالى: ﴿إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا﴾، وذكر نحوَه العلاَمةُ ابن كثير في تفسيره وذكر بهذه المناسبة اٰية ثالثة أيضًا ﴿يَآ أيُّهَا الَّذِيْنَ اٰمَنُوا اتَّقُوا اللهَ واٰمِنُوا بِرَسُوْلِهِ يُؤتِكُم كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ويَجْعَلْ لَّكُمْ نُوْرًا تمشون به﴾ الآية (الحديد:28).
ويُنشِد الإمام أبوعبدالله محمدبن إدريس الشافعي(المتوفّى عام204هـ رحمه الله).
شكوتُ إلى وكيع سوءَ حفظي
فأرشَــدَني إلى ترك المعاصـي
وأخبَرَني بـــأن العِلم نـــور
ونـور الله لايُهـــدى لِعاصي
(ديوان الشافعي- تعليق: محمد عفيف الزعبي)
فعلى طالب العلم أن يكون ملتزِمًا بأداء الصَّلوَات الخمس بالجماعة ومتقيّدًا بجميع الفرائض وأحكام الشريعة، وأن يكون محافِظًا على سنن النبي – صلى الله عليه وسلم- في هيئته وملبسِه ومأكلِه ومقالِه ومجالَسَتِه بل في جميع نواحي حياته، وأن يكون مجتنِبًا ظاهرَ الإثم وباطنَه، وأن يكون تاركًا مالايعنيه، وأن لايكدِّر عينَيْه باستخدامهما في الشهوات من سوء النظر إلى الأماردِ والأجنبيّاتِ والمشاهدِ المحرّمة إمّا مباشرةً أو عن طريق الاٰلات الجديدة من التلفاز والإنترنِت وغيرهما، وأن لايعكِّرفَمَه ولسانَه بأكل لحوم إخوته المسلمين عن طريق الغِيبة المحرَّمة، وأن لايوسِّخ أُذُنَيْه بالاستماع إلى الأغاني واللَّواغي، وأن لايفسِد قلبَه وذهنَه بالأفكار الفاسدة؛ فإذن سيكون له شأنٌ بإذن الله تعالى.
العامل الثالث: التفرّغ لِطلب العلم وبذل قصارى الجهد فيه
ينبغي لِطالب العلم أن يستلزِمَ التفرُّغ لِطلب العلم ويبذُلَ قصارى جهده فيه، ويعكُفَ عليه عكوفًا كاملًا، ويحترزَ عن إنشاء العلاقات المعوِّقة لِطلب العلم، وعن توطيد الروابط غير اللازمة عن طريق الاٰلات الجديدة كالهاتف الجوّال وغيره أو بشكل مباشر، وأن يتباعدَ عن المُلْهِيات والمُغْرِيات، وأن يصبرَ على الشدائد والمشكلات، يقول ابن فارس:
إذا كان يؤذيك حرُّ المصيف
ويبسُ الخريف وبــردُ الشتا
ويُلْهِيكَ حسنُ زمان الربيع
فأخذُك للعلم قل لي متى؟!
وقد ترك أبو هريرة – رضي الله عنه- أسوةً حسنةً لِطلبة العلم؛ حيث لازم رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم- واتخذ الصُّفَّةَ منزلًا، وقطع العلاقاتِ الأخرى، واحترز عن الأشغال المانعة لِطلب العلم، فأصبح أكثرَ الصحابة روايةً عن النبي – صلى الله عليه وسلم-؛ حيث روى خمسةَ اٰلافٍ وثلاثَ مئةٍ وأربعةً وسبعين حديثًا (ذكر السيوطيُّ هذا العددَ في تدريب الراوي، ص:216ج:2)، مع أنه لم يتيسّر له طولُ صحبة رسول الله – صلى الله عليه وسلم-؛ حيث أسلم في العام السابع الهجريّ (ذكره ابن حجر في تهذيب التهذيب، ص:290ج:12) ويدلّ على تفرّغه الكامل لِطلب الحديث والعلم ما يأتي:
«عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: إن الناس يقولون أكثَرَ أبوهريرة، ولولا اٰيتان في كتاب الله ما حدّثتُ حديثًا، ثم يتلو: ﴿إنَّ الَّذِيْنَ يَكْتُمُوْنَ مَا أَنْزَلنَا مِنَ البَيِّنٰتِ وَالهُدَى﴾ إلى قوله ﴿الرَّحِيْم﴾ إن إخواننا من الأنصار كان يَشغَلهم العَمَلُ في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يَلْزَم رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم- بشِبع بطنه ويحضُر مالايحضُرون ويحفَظ مالايحفَظون» (رواه البخاريّ في صحيحه في كتاب العلم تحت باب حفظ العلم ص:22ج:1).
ويدلّ على صبر أبي هريرة – رضي الله عنه- على الشدائد ما رواه البخاري في صحيحه عنه – رضي الله عنه- أنه قال: «لقد رأيتُني وإني لأَخِرُّ فيما بين منبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم- إلى حجرة عائشة مغشيًّا عليّ، فيجيءُ الجائي فيضع رجلَه على عنقي ويُرى أني مجنون، ومابي من جنون، مابي إلاّ الجوع» (صحيح البخاري -كتاب الاعتصام ص:1089،ج:2).
وقد عَامَل – صلى الله عليه وسلم- ذات مرّة أبا هريرة – رضي الله عنه- معاملةً ممتازةً، ووَقَفَ منه موقفًا خاصًّا وعجيبًا بسبب حرصه على حفظ الأحاديث وتفرّغه للعلم وصبره على الشدائد،يقول أبوهريرة – رضي الله عنه-: «قلتُ يا رسول الله! إنى أسمع منك حديثًا كثيرًا أنساه، قال: ابسُط رداءَك فبسطتُه فغَرَفَ بِيَدَيْه ثم قال: ضُمَّ، فضمَمْتُه فما نسيتُ شيئًا بعدُ» (رواه البخاري في كتاب العلم ص:22ج:1).
العامل الرابع: توقير المعلِّم والخضوع له
من العوامل التي تؤثّر في تكوين طالب العلم توقيرُ الشيخ واحترامُه والخضوعُ له، فعن عبادة بن الصامت – رضي الله عنه- أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: «ليس من أمتي من لم يُجِلَّ كبيرَنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لِعالِمِنا حقَّه» (رواه أحمد في مسنده برقم 22654- قال الهيثميّ: إسناده حسن). وعن أبي هريرة – رضي الله عنه- مرفوعًا وعن عمر – رضي الله عنه- موقوفًا أنه قال: «تواضعوا لِـمَنْ تعلَّمون منه» (رواه البيهقي وصَحَّحَ وقْفَه على عمر).
وروى الحاكم في المستدرك على الصحيحين عن ابن عباس – رضي الله عنه- قال: «لما قُبِض رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم- قلتُ لِرَجُلٍ من الأنصار: هلمَّ فلنسأل أصحابَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجبًا لك يا ابن عباس! أَتَرى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- من فيهم؟ قال: فتركتُ ذاك وأقبلتُ أسأل أصحابَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وإن كان يبلغني الحديثُ عن الرجل فآتي بابَه وهو قائلٌ فأتوسَّد ردائي على بابه يسفي الريح عليّ من التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عمّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ماجاء بك؟ هلا أرسلتَ إليّ فاٰتيك؟ فأقول: لا أنا أحقّ أن اٰتيك، قال: فَأَسأَلُه عن الحديث. فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى راٰني وقد اجتمع الناس حولي يسألوني، فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني (المستدرك، ص:188، ج:1).
ويقول الإمام النووي في النوع الثامن والعشرين من كتابه «التقريب» مبيِّنًا اٰدابَ طالبِ الحديث: «وينبغي أن يُّعظِّم شيخَه ومن يسمع منه، فذلك من إجلال العلم وأسباب الانتفاع» ولنعم ما نقله العلاّمة/عبد الرَّؤوف المناوي (المتوفّى عام 1031هـ- رحمه الله-) في كتابه «فيض القدير» (ص:273،ج:3) عن أحد الشعراء:
إن المعلّــم والطبيب كلاهمــا
لاينصحـــان إذاهمــا لم يُكْرَما
فاصبر لِدائك إن جفوتَ طبيبَه
واصبر لِجهلك إن جفوتَ معلِّما
ويحكي فضيلة الشيخ المقرئ/صدّيق أحمد الباندوي (المتوفّى عام 1418هـ-رحمه الله-) في كتابه «اٰداب المتعلّمين» (باللغة الأرديّة) تحت عنوان «احترام الشيوخ» عن شيخه صاحب الفضيلة/عبد الرحمان الكامل بوري – رئيس هيئة التدريس في الجامعة الإسلامية «مظاهر علوم» بسهارنبور سابقا- (المتوفّى عام 1385هـ-رحمه الله-) أنه كان يقول: لمّا أردتُ الرحلةَ من بلدي «أتك» إلى مدينة «سهارنبور» للدراسة في جامعة «مظاهرعلوم» التقيتُ قبل الرحلة بمشايخي في بلدي لأستودعهم إلاّ شيخًا واحدًا لم أتمكّن من لقائه وقد كنتُ درستُ عليه في المرحلة الدراسية الابتدائية، فلمّا وصلتُ إلى «سهارنبور» وبدأتُ الدراسةَ أصبحتُ لاأفهم شيئًا مع أنني كنتُ أُعَدُّ من الأذكياء فيما بين زملائي، ففكّرتُ في سبب هذه المعاناة العلميّة فأرشَدَني الله تعالى إلى أن أكتبَ رسالةً إلى شيخي الذي لم أتمكّن من لقائه واستيداعه في بداية هذه الرحلة، وأعتذرَ إليه، وأطلُبَ منه العفوَ والدعاء، ففعلتُ، فردّ عليّ وكتب في رسالته: «كنت أظنّ أنك استصغرتَني فلم تلتقِ بي ولم تعتنِ بشأني، ولكنّه قد تبين من رسالتك أن الأمر لم يكن كذلك، وكتب في نهاية رسالته جُمَلًا دعائيّة»، فَفَتَح الله عليّ، ووفّقني فيما بعدُ لتدريس «جامع الترمذي» بسبب احترام الشيوخ: (تعريب: كاتب السطور).
الجدير بالذكر أن سماحة الشيخ/عبد الرحمان الكامل بوري – رحمه الله- كما أصبح مدرّسًا للحديث بالجامعة الإسلامية «مظاهر علوم» ورئيسَ هيئة التدريس بها بتوفيق الله تعالى وبأخذه بالعوامل الحقيقية لِطلب العلم كذلك صار محلّ ثِقَةٍ لِكبار أهل العلم والتقوى، وقد أجازه العالم الزاهد حكيم الأمّة سماحة الشيخ/أشرف علي التهانوي (المتوفّٰى عام 1362هـ-رحمه الله-) بالبَيْعة قبل أن يبايعَه قائلًا: إن شرطَ الإجازة هي الأهليّةُ لاالمبايعة.
وكذلك يحكي فضيلة الشيخ المقرئ السيد/ صديق أحمد الباندوي- رحمه الله- في الكتاب السالفِ ذِكرُه عن شيخه وشيخنا سماحة المفتي/محمود حسن الكنكوهي – رئيس هيئة الإفتاء في الجامعة الإسلامية «دارالعلوم ديوبند» سابقًا- (المتوفّٰى عام 1417هـ-رحمه الله-) أنه كان يقول: لـمّا أراد شيخُ الهند العلاّمة/ محمود الحسن الديوبندي (المتوفّٰى عام 1339هـ-رحمه الله-) أن يحجَّ بيتَ الله بعد وفاة شيخه العلاّمة الإمام/محمد قاسم النانوتوي – مؤسّس جامعة ديوبند الإسلامية- (المتوفّٰى عام 1297هـ-رحمه الله-) ذهب إلى منزل زوجة شيخه ووقف بباب المنزل قائلا: يا أمّي! من فضلِكِ أعطيني نَعْلَيْ شيخي فأُعطِيَهما فوَضَعهما على رأسه وبكى قائلًا: إنني لم أستطع أن أقوم بخدمة شيخي حق القيام في حياته، ولعلّي أَستَدرِك بهذا العمل شيئًا ممّا فاتني من خدمته. (تعريب: كاتب السطور).
والمعروف لدى كلِّ مطّلِعٍ على وقائع شيخ الهند أنه كان يخدم شيخَه النانوتوي خدمةً لانظيرلها، ويحترمه احترامًا بالغًا، فلُقِّب فيما بعد بشيخ الهند بإكرام الله له وإعزازه لدى خلقه وبعواطفه الطيِّبة نحوَ شيوخه والقيام بخدمتهم واحترامهم، حتى لقّبه بعضُ تلاميذه مثل حكيم الأمة الشيخ/أشرف علي التهانوي بشيخ العالَم.
فهذه العوامل هي العناصر الأربعة الأساسية لتكوين طالب العلوم الدينيّة، فينبغي أن يُّهتَمَّ بها اهتمامًا بالغًا، وأن تُؤخَذَ بعين الاعتبار أخذًا جليًّا، وفقنا الله جميعًا لما يحبه ويرضاه.
* * *
(*) أستاذ سابقًا بالجامعة الإسلامية دارالعلوم ديوبند – الهند
وأستاذ حاليًّا بجامعة العلوم الإسلامية كراتشي – باكستان.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الثاني 1437 هـ = يناير – فبراير 2016م ، العدد : 4 ، السنة : 40