الفكر الإسلامي
بقلم: عبد العزيز بن ناصر السعد
قال الله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ 43 وَمَا آتَيْنـٰـهُم مِن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ 44 وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنـٰـهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ 45 قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ [سبأ: 43-46].
من هذه الآيات البينات يتضح أن الموعظة الموجهة إلى مشركي قريش كانت بسبب اتهامهم لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- بالكذب تارة وبالسحر تارة أخرى دون تفكير أو تدبر، شأنهم في ذلك شأن الذين يتبعون أهواءهم وآثار آبائهم ومتبوعيهم دون دليل.
وقد أقام الله – عز وجل- هذه الموعظة العظيمة التي من أخذها بجميع مقوماتها فلا بد أن يصل إلى الحق وهو في الآية كون النبي –صلى الله عليه وسلم- رسولاًمن عند الله – عز وجل-، ونذيراً لهم بين يدي عذاب شديد، وليس كما يزعمون ويرددون دون وعي ولا نظر بأنه ساحر أو كاذب أو مجنون، ﴿مَا بِصَاحِبِكُم مِن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ ولكي يحصل الانتفاع بهذه الموعظةالعظيمة فلابد من الأخذ بجميع المقومات التي قامت عليها هذه الموعظة وهي:
– القيام لله تعالى: [أَن تَقُومُوا لِلَّهِ] والتجرد في طلب الحق.
– مراجعة النفس والخلوة بها أو مع شخص ثانٍ [مَثْنَى وَفُرَادَى] .
– التفكر والاجتهاد فيما يقوله المخالف [ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا] .
وتظهر أهمية هذه المقومات في كلام علماء التفسير – رحمهم الله تعالى-. يقول الشوكاني في (فتح القدير) حول قوله تعالى ﴿إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ﴾ : أي أحذركم بواحدة وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه وأوصيكم بخصلة واحدة وهي ﴿أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى﴾. وهذا تفسير للخصلة الواحدة أو بدل منها أي هي: قيامكم وتشميركم في طلب الحق بالفكرة الصادقة متفرقين اثنين اثنين وواحدًا واحدًا؛ لأن الاجتماع يشوش الفكر، وليس المراد القيام على الرجلين؛ بل المراد القيام لطلب الحق وإصداق الفكر فيه ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ في أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- وماجاء به من الكتاب، فإنكم عند ذلك تعلمون أن ﴿مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ﴾ وذلك لأنهم كانوا يقولون: إن محمداً مجنون، فقال لهم: اعتبروا أمري بواحدة وهي أن تقوموا لله وفي ذاته مجتمعين ومتفرقين، فيقول الرجل لصاحبه هلم فلنصدق هل رأينا بهذا الرجل من جنة أي جنون أو جربنا عليه كذباً ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه وليتفكر ولينظر. فإن في ذلك ما يدل على أن محمداً –صلى الله عليه وسلم- صادق وأنه رسول من عند الله – عز وجل- وأنه ليس بكاذب ولا ساحر ولا مجنون اهـ.
ويقول النسفي في تفسيره: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ﴾: أي بخصلة واحدة وقد فسرها بقوله ﴿أَن تَقُومُوا لله﴾ الآية على أنه عطف بيان لها. وقيل: في محل الرفع والمعنى: إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم وهي ﴿أَن تَقُومُوا لله﴾ أي لوجه الله خالصة لا لحمية ولا لعصبية بل لطلب الحق. ﴿مَثْنَى﴾ اثنين اثنين، و ﴿فُرَادى﴾ فرداً فرداً ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ في أمر محمد وما جاء به، أما الاثنان فيتفكران يعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه وينظران نظرة الصدق والإنصاف حتى يؤدي النظر الصحيح إلى الحق. وكذلك الفرد يتفكر مع نفسه بعدل وإنصاف وبعرض فكره على عقله. ومعنى تفرقهم مثنى وفرادى أنّ الاجتماع مما يشوش الخواطر، ويعمي البصائر ويمنع الروية ويقلل الإنصاف فيه ويكثر الاعتساف، ويثور عجاج التعصب ولا يسمع إلا نصرة المذهب اهـ.
ويقول الشيخ السعدي (في تفسير الكريم المنان) في تفسيره لهذه الآية: أي أعظكم بخصلة واحدة أشير عليكم بها وأنصح لكم في سلوكها وهي طريق نصف لست أدعوكم إلى اتباع قولي ولا إلى ترك قولكم من دون موجب لذلك وهي ﴿أَن تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى﴾ أي تنهضوا بهمة ونشاط وقصد لاتباع الصواب وإخلاص لله – عز وجل- مجتمعين ومتباحثين في ذلك ومتناظرين وفرادى كل واحد يخاطب نفسه بذلك فإذا قمتم لله مثنى وفرادى واستعملتم فكركم وأجلتموه وتدبرتم أحوال رسولكم هل هو مجنون فيه صفات المجانين من كلامه، وهيئته ووصفه، أم هونبي صادق منذر لكم؟ فلو قبلوا هذه الموعظة واستعملوها لتبين لهم أكثر من غيرهم أن رسول الله ليس بمجنون، لأن هيئته ليست كهيئة المجانين وخنقهم واختلاجها.. فكل من رأى أحواله وقصده استعلام هل هو رسول الله أم لا؟ سواء تفكر وحده أومع غيره؛ جزم بأنه رسول الله حقاً وتبين صدقه. اهـ.
ويقول سيد قطب – رحمه الله تعالى- حول ظلال هذه الآية: وهنا يدعوهم دعوةخالصة إلى منهج البحث عن الحق ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ﴾ الآية، إنها دعوة إلى القيام لله – عز وجل- بعيداً عن الهوى … بعيداً عن المصلحة، بعيداً عن ملابسات الأرض.. بعيداً عن التأثر بالتيارات في البيئة والمؤثرات الشائعة في الجماعة، بعيداً عن الهواتف والدوافع التي تستشجر في القلب فتبعد به عن الله تعالى. دعوة إلى التعامل مع الواقع البسيط لا مع القضايا والدعاوي الرائجة ولا مع العبارات المطاطة التي يبتعد القلب والعقل عن مواجهة الحقيقة في بساطتها، دعوة إلى منطق الفطرة الهادي الصافي بعيداً عن الضجيج والخلط واللبس والرؤية المضطربة والغبش الذي يحجب صفاء الحقيقة، وهي في الوقت ذاته منهج في البحث عن الحقيقة، منهج بسيط يعتمد على التجرد من الرواسب والمؤثرات، وعلى مراقبة الله – عز وجل- وتقواه وهي ﴿وَاحِدَةٍ﴾ إن تحققت صح المنهج واستقام الطريق: القيام لله لا لغرض ولا لهوى ولا لمصلحة ولا لنتيجة.. التجرد.. الخلوص.. ثم التفكر والتدبر بلا مؤثر خارج عن الواقع الذي يواجهه القائمون لله المتجردون.. ﴿أَن تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى﴾ مثنى ليراجع أحدهما الآخر ويأخذ معه ويعطي في غير تأثر بعقلية الجماهير التي تتبع الانفعال الطارئ، ولا تتلبث لتتبع الحجة في هدوء، وفرادى مع النفس وجهاً لوجه في تمحيص هادئ عميق. ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ فما عرفتم عنه إلا العقل والتدبر. وما يقول شيئاً يدعو إلى التظنن بعقله ورشده. إن هو إلا القول المحكم القوي المبين اهـ.
وبعد هذه النقول من بعض كتب التفسير حول هذه الآية نستطيع الآن توضيح مقومات هذه الموعظة العظيمة وشروط الانتفاع بها بما يلي:
الشرط الأول: ﴿أَن تَقُومُوا لله﴾:
إن هذا الشرط هو الأساس لكل عمل، وبدونه يفسد العمل، ولا يوفق فيه صاحبه ولا يبارك له فيه، فالقيام لله – عز وجل- هو المنطلق لصحة العمل إذا اقترن ذلك مع المتابعة فيه للرسول –صلى الله عليه وسلم-. فالإخلاص في البحث عن الحق والصدق في طلبه شرط أساسي للوصول إلى ذلك الحق، وعندما يغيب الإخلاص ينعدم الانقياد إلى الحق حتى ولو كان مثل فلق الصبح، لأن من تعلق قصده بغير وجه ربه – عز وجل- ثقل عليه الانقياد للحقوق قصرت همته عن بلوغه والعمل به. فوجب على من أراد معرفة وجه الحق في أي أمر أن يخلص قصده ونيته لله – عز وجل- وأن يتجرد لاتباع الحق عند ظهوره، ولو على لسان مخالفه، وأن يعلم أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. ولكن قد يكتنف القائم لله – عز وجل- بعض الملابسات والظروف التي قد تغطي على الحق أو تلبسه بالباطل، فيقبل الباطل ظاناً أنه الحق وذلك بسبب بعض الظروف المحيطة به لذلك؛ فإنه لامناص من توفر باقي الشروط للانتفاع بموعظة الله – عز وجل- ومنهجه السوي في الوصول إلى الحق المنشود.
الشرط الثاني: ﴿مَثْنَى وَفُرَادَى﴾:
والالتزام بهذا الشرط يقضي على عامل مهم من العوامل التي تغطي الحق أوتشوه وجهه، وذلك في مثل الأجواء الجماعية والجماهير الجاهلة والتي غالباً ماتتصف بالغوغائية والتقليد الأعمى واتباع كل ناعق من رؤوس الضلال، مما قد يؤدي بطالب الحق المخلص إلى اتباع الأكثرية من الناس متهماً نفسه وظاناً أن الحق مع الأكثرية، دون أن يدري أن هذه الحركة الغوغائية قد غطت الحق، وضيعت معالمه، فاشتبه مع غيره، خاصة عند من قلت بصيرته وقل نصيبه من هدى الله – عز وجل- وهدي رسوله –صلى الله عليه وسلم-، وهذا ما حدث من اتهام قريش للرسول –صل الله عليه وسلم- بشكل جماهيري غوغائي، وقولهم ساحر وكاهن ومجنون.. الخ، فوعظهم الله – عز وجل- أن يقوموا لله ويخلصوا وجوههم له ويبتعدوا عن هذه الأجواء ويرجعوا إلى أنفسهم، حيث يقف الإنسان مع نفسه أومعه صاحبه ويصحب ذلك التفكير العميق والتدبر لحال الرسول –صلى الله عليه وسلم-، فلابد أن يصلوا إلى الحق والهدى وهو ما جاء في ختام الآية ﴿مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾. ونخرج من هذه الآية بفائدة سيأتي تفصيلها في ثنايا البحث إن شاء الله، وهي أن القاصد للحق أو الباحث في مسألة خلافية كبيرة أو صغيرة عليه أن يتجنب المناظرة في جو جماعي؛ لأن المناظر يكون أقرب إلى ترك رأيه إذا تبين أن الحق في خلافه إذا كان التفكير مع شخص واحد، بخلاف حال الجماعة فقد يعز عليه الاعتراف بالخطأ أمام مؤيديه أو مخالفيه المجتمعين حوله، والله تعالى عليم بمسارب نفوس خلقه، خبير بطبائعهم فلذلك وعظهم موعظة من يعلم حالهم ويعلم مايصلحهم ويهديهم إلى صراطه المستقيم ومنهجه القويم ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَاللَّطِيفُ الخَبِيرُ﴾.
الشرط الثالث: ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾:
وهذا الشرط هو الوسيلة الأساسية للوصول إلى الحق بعد الالتزام بالشرطين السابقين، فالتفكير والعلم وإعمال الرأي هو المتمم لهذا المنهج الإلهي للوصول إلى الحق وتبين الهدى من الضلال، وهذا الشرط يقودنا إلى قضية هامة ألا وهي قضية العلم الشرعي، ومعرفة دين الله – عز وجل-، وإقامة الدليل والبرهان على ما يعتقد أنه الحق، وإذا كان الكفار الذين خوطبوا مباشرة بهذه الآية ووجهت إليهم هذه الموعظة العظيمة ما كان عندهم علم شرعي وليس عندهم الدليل فيما يعتقدونه فلذلك كان المطلوب منهم التفكير بحال الرسول –صلى الله عليه وسلم- وإقامة الدليل على ما يتهمونه به، إذا كان الأمر بالتفكير مع الكفار بهذه الصورة فإن الأمر بالنسبة لطالب الحق في المسائل الشرعية والعقائدية والفكرية فلا بد أن يكون مؤهلاً من الناحية العلمية لبحث هذه المسألة، ودراسة أوجه الخلاف حولها، وإلا لم يكن للتفكير فائدة كمن يحارب بغير سلاح ولا عدة، وقد كان عند كفار مكة من العلم بأحوال الرسول –صلى الله عليه وسلم- وصفاته وصدقه وأمانته ما يكفي، ولو أنهم فكروا في ذلك لقادهم ذلك إلى الإذعان والانقياد للحق الذي جاءهم به الرسول –صلى الله عليه وسلم- وكذلك الحال لكل مختلفين أو متناظرين إذا لم يكن لديهم علم بما يختلفون فيه فإنه لا فائدة من التفكير؛ لأن أداة التفكير الأساسية هي العلم بحال القضية المختلف فيها فالمقصود إذن بالتفكير هنا هو البحث عن الأدلة الشرعية والتحقق من ثبوتها ودلالتها على المراد، كما يدخل في العلم أيضاً العلم بحال القضية المختلف حولها وملابساتها.. الخ. فالجاهل بذلك كله لا يستطيع الوصول إلى الحق لفقده الأدوات الموصلة إليه، فلذلك نجد مثال هؤلاء يوجههم التقليد الأعمى دون فكر أو نظر.
وإذا كان الله – عز وجل- قد بين لنا في كتابه الكريم منهجاً للوصول إلى الحق فيما اختلف فيه، فإن هذا المنهج وذلك الطريق السوي يمر أحياناً عبر أنواع من الحوار والمناظرة لابد منها، فالمتتبع لمنهج الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في الدعوة إلى الله وحده يجد أن أكثرهم قد وقف مع قومه موقف المناظرة وإقامة الحجة والنصح، وتبين الحق من الباطل، والصبر على ذلك، مع شدة رفضهم للحق وعنادهم وتعنتهم، ولكن مهمة البلاغ والدعوة إلى الله – عز وجل- تستلزم شيئاً من ضبط النفس والتحمل حتى يتم البلاغ على أكمل وجه. ولكثرة الخلاف الواقع بين طوائف المسلمين اليوم، وخاصة بين الطوائف إلى أهل السنة؛ فإنا نقدم هذه الكلمات التي نحسب أن فيها إشارة إلى الطريقة المثلى في الحوار والمناظرة المؤدية بإذن الله – عز وجل- إلى الاجتماع والائتلاف في حدود منهج السلف وأصول الشريعة، وقد اتضح من الآية السابقة التي هي موضع البحث أصول للحوار نطرحها بهذه المناسبة ونضيف عليها ما وقع عليه الفكر والنظر من آداب الخلاف، وقبل ذكر هذه الأصول يحسن التقدمة لها بأهمية هذا الموضوع، وبعض التعريفات والوقفات السريعة.
أهمية هذا الموضوع:
إن الإلمام بآداب الحوار والاختلاف أمر مهم ينفع صاحبه في حياته كلها، وبخاصة الداعية إلى الله -عز وجل-، وهذه الجوانب المفيدة كثيرة نقتصر منها على ما يلي:
1- من المعلوم أن مهمة الداعية إلى الله – عز وجل- هي بذل الأسباب في هداية الناس ودلالتهم إلى الخير، ولابد أن يواجهه في ذلك التواءات النفوس وخلافهم معه في الرأي، فإذا لم يكن لديه من الإلمام بآداب الحوار والاختلاف الشيء الكافي لكي يصبر ويستمر في دعوته فقد ينفر الناس منه وهو يسعى لجمعهم وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.
2- إن أهمية الإلمام بآداب الحوار والاختلاف ترجع للظروف الملحة في هذا العصر الذي يعد عصر تعدد الجماعات الإسلامية والفرقة الموجودة بينهم، وذلك لأن الإلمام بذلك يساعد في تقارب القلوب وتفهم الأفكار مما يكون له الأثر في تضييق هوة الخلاف والتماس العذر للعاملين في الدعوة الإسلامية، وهذا يؤدي إلى الوحدة المنشودة.
3- كما يفيد تفهم هذه الآداب أيضاً في معالجة وجهات النظر المختلفة التي تكون بين أفراد المجموعة الواحدة، بل أفراد العائلة الواحدة لأن فقد هذه الآداب يضخم المشاكل ويجعل من الحبة قبة كما يقولون.
الفرد بين الجدال والحوار:
الجدال: مصدر جادل وهو المناقشة على سبيل المخاصمة، ومقابلة الحجة بالحجة.
والحوار: الجواب. حاوره محاورة وحواراً جاوبه وراجعه. فهو مراجعة في الكلام بين طرفين أو أكثر دون ما يدل بالضرورة على وجود خصومة بينهما، وقد يكون الجدل والحوار بمعنى واحد إذا خلا الجدل من العناد والتعنت للرأي كما ذكر تعالى في سورة المجادلة حيث قال: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ فسمى الله سبحانه وتعالى مجادلة المرأة للرسول –صلى الله عليه وسلم- ومجاوبته لها محاورة، والله أعلم. وعلى أية حال فالحوار كلمة غالباً ما تستعمل في المناظرة الهادئة التي يسود عليها الألفة والبحث عن الحق. والجدال غالباً ما يكون جوه صاخباً وقد ينشأ عنه خصومة وعناد.
ما هي نتيجة الحوار؟
ليس شرطاً للحوار الناجح أن ينتهي أحد الطرفين إلى قول الطرف الآخر ويتفقان على موقف واحد فهذا نجاح لاشك فيه. وإنما يعتبر الحوار ناجحاً أيضاً إذا توصل الطرفان إلى أن كل قول يقوله أحدهما هو صحيح. أو في الإطار الذي يسعه الخلاف، أما فشل الحوار فيكون عندما يتشبث كل طرف برأيه ويُخَطِّىء الطرف الآخر.
بعض الآيات والأحاديث الواردة في آداب الحوار وحسن المناظرة:
قال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً﴾.
-﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ﴾.
-﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾.
-﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾.
-﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾.
-﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾.
-﴿لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوٰهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾.
-﴿فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾. والآيات في ذلك كثيرة.
أما الأحاديث النبوية فمنها:
– «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» .
– «الكلمة الطيبة صدقة» .
– «تبسمك في وجه أخيك صدقة» .
– «وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟» .
– «الكبر بطر الحق وغمط الناس» .
– «الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق الناس بها» .
– «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا» .
– «ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» .
– «إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق مالا يعطيه على العنف، ومالا يعطي على سواه» .
والأحاديث في ذلك كثيرة.
والآن وبعد هذه التعريفات والآيات والأحاديث التي تشير إلى الآداب الإسلامية في المعاملة مع الناس ومحاورتهم نأتي لتفصيل أصول الحوار في ضوء الآية الكريمة التي كانت منطلق هذا البحث وهي قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾.
وكما تمت الإشارة في تفسير هذه الآية وما يتعلق بها أنها تعتبر منهجاً قويماً لمن أراد الوصول إلى الحق، ولأن الحوار المقصود منه الوصول إلى الحق فإن هذه الآية الكريمة ترسم لنا بمقوماتها الثلاثة أصول الحوار الصادق، وذلك فيما يلي:
الأصل الأول: الإخلاص لله -عز وجل- والتجرد الكامل قبل الحوار وأثناءه …وبعده ﴿أَن تَقُومُوا لله﴾.
الأصل الثاني: العلم بحقيقة واقع القضية المطروحة من الناحية الشرعية والواقعية ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾.
الأصل الثالث: اعتبار مراعاة ظروف الحوار والمحاورة ﴿مَثْنَى وَفُرَادَى﴾.
الأصل الأول: الإخلاص لله – عز وجل- والقيام له وحده ﴿أَن تَقُومُوا لله﴾:
ويدخل تحت هذا الأصل عدة متعلقات نذكر منها ما يلي:
أ – تصحيح النية قبل الدخول في الحوار: وذلك بمساءلة النفس عن الغرض من الحوار هل هو إرادة الحق فحسب، أو أن هناك أغراضاً أخرى كحب الظهور وإفحام الخصم أو أن يرى الناس مكانه، فإذا كانت هذه الأغراض موجودة فليحجم المحاور عن الحوار حتى تتجرد نيته تماماً لله – عز وجل- وأنه يريد الحق ولو ظهرعلى لسان الطرف الآخر.
ب – حسن الاستماع والاهتمام بكلام الطرف الآخر: فالمتحدث البارع مستمع بارع فلابد من حسن الاستماع والانتباه لما يقوله الطرف المقابل وعدم مقاطعته وتركه حتى ينتهي ويدون أي فكرة تطرأ أثناء كلامه حتى يفرغ تماماً وهذا من التواضع وإعطاء الأهمية لكلام الآخرين حتى لا يحصل العجب بالنفس وأنه الذي ينبغي أن يستمع له وأن غيره ليس عنده ما يستحق ذلك، كذلك على المحاور المخلص أن يراعي الوقت أثناء حديثه فلا يستأثر بالكلام كله بل يعطي الفرصة المكافئة للطرف الآخر حتى لا يحصل العجب بالنفس المنافي للإخلاص أو الاحتقار للطرف الآخر، وكذلك لأن المستمع لا يستطيع أن يركز في سماع من يحاوره دون مقاطعة له أو انشغال عنه أكثر من ربع ساعة وبعد ذلك يكل الذهن ويقل التركيز وكما يقال: (إذا أردت أن ينفض الناس من حولك ويسخرون منك فتكلم بغير انقطاع ولا تعطي لأحد الفرصة في الحديث).
ج – مراقبة النفس أثناء الحوار: جرت العادة عند أكثر المتحاورين أن يركزوا انتباههم على الطرف الآخر يحصرون الملاحظات على فكرته وطريقته في الحوار، دون أن يراقبوا أنفسهم بنفس المقياس، فينسى الإنسان نفسه ونوازعها ونبرات صوته وطريقته في الرد مما يكون له أثر سيء على الحوار. ولاشك أن الإخلاص في الحوار يجعل الإنسان ينتبه لنفسه وعيوبه أكثر من غيره، وضعف الإخلاص يحدث في النفس عجباً وشعوراً بأنها فوق الملاحظات.
د – التسليم بالخطأ: الإنسان بشر يخطىء ويصيب، فمن الطبيعي أن يخطىء المحاور في مناقشاته وحواره مع غيره، والإخلاص لله – عز وجل- يفرض عليه التسليم بالخطأ عندما يتبين له وجه الصواب، بل يشكر لصاحبه فضله في تبصيره له بالخطأ.
هـ – الحذر من الكذب والغموض واللف والدوران: قد يلجأ المحاور إلى الأساليب الغامضة بل الكذب أحياناً إذا أحس بضعف حجته، أو أنه يريد أن يلبس على الطرف الآخر ويوهمه بما ليس له حقيقة، وهذه صفة ذميمة يرفضها الإخلاص لله تعالى والخلق الكريم، بل إن الحوار المبارك هو الحوار الصادق الذي يطمئن كل طرف فيه إلى الآخر، وإذا طرح سؤال لا يريد أحد الطرفين الإجابة عليه فيعتذر عن الإجابة، ولا يلجأ إلى الغموض واللف والدوران لأنه إذا فقدت الثقة بين الطرفين فقد فشل الحوار.
والأمانة: لابد من الأمانة في العرض والنقل واحترام الحقيقة وأن لاتقطع عبارة عن سابقتها أو لاحقتها عند الاقتباس لتخضعها لخدمة فكرتك فهذا نقص في الدين والإخلاص لأنه أخو الكذب فضلاً عن أنه يُعرِّض من هذه صفته للسخرية وعدم الثقة به لتلاعبه بالنصوص.
ز – الإنصاف: من الإنصاف أن يبدي المحاور إعجابه وثناءه على الأفكار الصحيحة والأدلة الجيدة وحسن الاستدلال والمعلومات الجديدة التي يوردها الطرف الآخر ويسلم بها وأن يذكر الطرف الآخر الإيجابيات والحسنات التي تتمثل فيه أو في فكرته وإن ظهر معها جوانب سلبية، كما أن من الإنصاف وضع النفس موضع الطرف الآخر والظروف المحيطة به والتي أدت به إلى الرأي المخالف.
ح – وضع الخطأ في حجمه الطبيعي وتجنب الشماتة: عند وضوح خطأ الطرف الآخر يجب أن يشعر بأن الخطأ ميسور التصحيح حتى لا يداخله الشيطان وتفقده الدعوة من جراء خطئه كما أن تواضع الطرف المصيب أمر مهم حتى لا يداخله الشيطان في شعر بالتعالي على الطرف الآخر أو يشمت به وبفكرته الخاطئة، فالمسلم المخلص يقصد من الحوار إظهار الحق ولو على لسان مخالفه.
ط – على كل طرف في الحوار تجنب الهزء والسخرية وكل ما يشعر باحتقار أحدهما للآخر أو ازدرائه لفكرته أو وسمه بالجهل أو قلة الفهم أو التبسمات والضحكات التي تدل على السخرية.
ي – تجنب ضمائر المتكلم أثناء الحديث: حتى لا يدخل الشيطان إلى النفس فيقع فيها العجب والغرور، ينبغي تجنب إدخال ضمائر المتكلم أو ضمير الجماعة في الحديث كتكرار (نحن، أنا، عندنا … الخ) مع ما فيها من المضايقة للطرف الآخر.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، شعبان 1436 هـ = مايو – يونيو 2015م ، العدد : 8 ، السنة : 39