الفكر الإسلامي
بقلم: الدكتور رشيد كهوس (*)
يُؤَرَّخ «للفكر الإسلامي الحديث» من النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي إلى نهاية الدولة العثمانية في النصف الأول من القرن العشرين، هذا الحدث الذي أثر تأثيرًا كبيرًا على الفكر الإسلامي وتوجهاته.
ومنذ سقوط دولة آل عثمان، شهد العالم الإسلامي انقسامات، وبدأ الاستدمار الغربي ينفذ حثيثا إلى مناطق كثيرة من العالم المسلم الذي تفككت أوصاله، وأخذ أشكالاً وصورًا متعددةً وفق خطةٍ ماكرةٍ مدروسةٍ كانت نتيجتها انقسام العالم المسلم إلى مناطق نفوذ، ثم بدأ يخطط للقضاء على الشخصية الإسلامية، و في هذه الأثناء كان لابد من تقييمٍ جديدٍ للأوضاع التي تمر بها أمة الإسلام.
وكل هذه الأحداث مهدت لانطلاق حركةٍ فكريةٍ إسلاميةٍ حديثةٍ – في هذه الفترة من بداية القرن 19 الميلادي- وظهر ما يسمى «بالاتجاه الفكري الإسلامي المقاوم للاستدمار» ويطلق عليه كذلك: «حركة الإصلاح والتجديد الديني»، ومن أبرز رجالاته في هذه الفترة السيد «جمال الدين الأفغاني» [1254هـ – 1838م/1315هـ-1897م]، الذي صال وجال في البلاد الغربية وأدرك ما يكيده هناك الغرب من مكائد ومؤامرات للأمة المسلمة، كما طوف في بلاد مسلمة كثيرة؛ لكنه ساءه حالها وما تمر به من أزماتٍ ماديةٍ وفكريةٍ وسياسيةٍ؛ حكوماتها منخورةٌ يتلاعب بها المستدمر الغربي، وأوضاعها مزرية، والفرقة تعشش في جسدها، أضف إليه انتشار الجهل والظلم فيها، وفقدان الحرية… حاز كل هذا في نفسه، مما جعله يبذل كل جهده ووقته ونشاطه في الإصلاح والتجديد.
ومن رواد هذا الاتجاه الشيخ محمد عبده [1266هـ-1849م/1323هـ-1905م] تلميذ الشيخ جمال الدين الأفغاني، حيث تأثر به تأثرًا شديدًا وحمل معه هذا المشعل، وكان لمحمد عبده تلاميذ؛ أبرزهم الشيخ رشيد رضا (1865-1935م). ومن رواده رفيق عبده في الثورة العرابية: عبد الله النديم [1845-1896م] داعية الإصلاح الدينيّ، وثائر على الظلم الاجتماعيّ والاستبداد السياسيّ والتسلّط الأجنبيّ. وزامنهم المصلح السوري عبد الرحمن الكواكبي [1265هـ-1848م/1320هـ-1902م]، الذي دعا إلى إصلاح المجتمع الإسلامي والحكومة المستبدة.
أما السودان جارة مصر فقد ظهر فيها ما يسمى «بالثورة المهدية»، تزعمها محمد المهدي بن عبد الله بن فحل (1843- 21/يونيو م1885)، وانتصر فيها على جيوش الحكم «التركي – المصري»، والجيوش البريطانية التي ساندته. وقد حققت أول حكم وطني سوداني يستند على الشريعة الإسلامية كمرجعية أساسية، باجتهادات فقه التنزيل على الواقع السوداني، وقد جمع هذا التيار بين الصوفية والوهابية، وكانت له بعض الانحرافات الفكرية.
هذا عن المشرق الإسلامي. أما في الغرب الإسلامي وفي ليبيا بالتحديد فقد ظهرت حركة إصلاحية ذات سمت إسلامي – ووجدت في السودان كذلك- تأسست في مكة المكرمة عام1837م على يد الشيخ محمد بن علي السنوسي المستغانمي الإدريسي الحسني [1202هـ- 1787/ 1276هـ -1859م]. وتميزت هذه الحركة عن غيرها من الحركات الإصلاحية الإسلامية، خاصةً فيما يتعلق بوسائلها وأهدافها الأكثر عمقًا وفعالية. ومن زعماء هذه الحركة أسد الصحراء المجاهد الليبي عمر المختار [1275هــ-1856م/ 1350هـ -1931م] الذي قاوم الاحتلال الإيطالي.
أما في الجزائر فكانت نهضة الأمير عبد القادر الجزائري (1222هـ -1807م= 1300هـ -1883م)، وحركته الفكرية الواسعة، فهو مجاهدٌ كبير، ومن علماء الشريعة وعلوم العربية، ومن كبارِ رجال التصوف، إضافة إلى تأسيسه دولة الجزائر الحديثة – بعد أن بويع أميرًا-، ورائدِ مقاومتها ضد الاستدمار الفرنسي بين [1832 و 1847م].
أما في المغرب الأقصى فكانت هناك نهضة فكرية وحركة إصلاحية دينية من أبرز روادها الشيخ المربي محمد بن عبد الكبير بن محمد الكتاني [ت1327هـ-1909م] الفيلسوف المسلم المتفتح العقل الذي قاوم الاستدمار الفرنسي والفكر الغربي، وقام بنهضة إصلاحية فكرية ودينية وسياسية.
ووالده الشيخ عبد الكبير بن محمد الكتاني [ت1333هـ] رائد الإصلاح الديني والسياسي بالمغرب.
والشيخ محمد بن جعفر الكتاني [1273-1345هـ] صاحب كتاب: «نصيحة أهل الإسلام بما يدفع عنهم داء الكفرة اللئام»، قدمه للحسن الأول موضحا فيه انتكاس أحوال البلد وكيفية الخروج من الأزمة المغربية.
أضف إليهم العالم المجاهد الكبير محمد بن عبدالكريم الخطابي [1882-1963م]، الذي ربى جنوده تربية إيمانية جهادية، تحت شعار: «الإيمان والإيمان وحده»، بعيدًا عن أي طائفية أو قبلية أو حمية الجاهلية… وجمع القبائل، وقاد مئات الجيوش لمقاومة الاستدمار الإسباني والفرنسي، فنصره الله نصرا مؤزرا، وحرر مناطق شاسعة في الريف. وكان «ماوتسي تونغ» الزعيم الصيني معجبا به. ولا يزال اليساريون والثوريون من كل جنس ومِلة يتحدثون عن جهاده ويعُدُّونه مخترع حرب العصابات الحديثة.
وعليه يمكن القول أن الحركة الفكرية الإسلامية الحديثة كانت بسبب تضافر جهود مفكري هذه الأمة في المشرق الإسلامي والغرب الإسلامي والعالم الإسلامي بأسره، ولم تكن محصورة في شخصٍ واحدٍ أو اثنين، وإن تميز شخص ما بدور فعال في هذه الحركة الفكرية.
أما الفترة التي جاءت بعد نهاية دولة آل عثمان في النصف الأول من القرن العشرين، وبعد قيام الدولة العربية الحديثة في النصف الثاني من القرن نفسه، فيطلق عليها «الفكر الإسلامي المعاصر».
ومن الأهمية بمكان القول بأنه لا يمكن فصل حركة الفكر الإسلامي الحديث عن حركة الفكر الإسلامي المعاصر، لكون الأخيرة امتدَادًا للأولى مع ما فيها من تجديد وإصلاح وتغيير.
(*) أستاذ بكلية أصول الدين بـ«تطوان» جامعة القرويين، المغرب.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، شعبان 1436 هـ = مايو – يونيو 2015م ، العدد : 8 ، السنة : 39