دراسات إسلامية

بقلم:     الأستاذ/ سيد محبوب الرضوي الديوبندي رحمه الله

(المتوفى 1399هـ / 1979م)

ترجمة وتعليق: محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري(*)

نفحات «دارالعلوم» على إفريقية الجنوبية والشرقية:

       لقد تبينتَ في الصفحات السابقة أن «دارالعلوم» احتلت مكانةً عاليةً في العالم الإسلامي منذ نشأتها الأولى، وتجاوز صيتها آسيا إلى «أوربا» و«إفريقية»، ولم تنحصر نفحاتها في ربوع الهند. وستؤكد النظرة الخاطفة على التقارير الدورية أن «دارالعلوم» كانت تحتضن الطلاب الوافدين من شتى ولايات الهند بجانب الوافدين من «كابل» و«إيران»، و«بلخ» و«بخارى»، «الصين» و«الشام» و«الحجاز»؛ ليستفيدوا علم القرآن والحديث. فهذا طالب بخاريٌّ – بلديُّ الإمام البخاري(194- 256هـ = 810-870م) – هَجرَ بلاده ومسقط رأسه يتجه إلى «ديوبند» لينصرف إلى تحصيل تراثه العلمي العتيد، وذاك قدم من «الموصل» و«الحجاز» وبالضبط من المدينة المنورة التي يصل إليها خريج «دارالعلوم» ليوثق صلته بمدرسته الأم ومنهله العذب المورد.

       تضاعفت نفقات «دارالعلوم» مع اتساع نطاق إفاديتها ونفحاتها، وارتفع عدد أنصارها والمتعاونين معها أكثر فأكثر. وبدأ فاعلو الخير من المسلمين في دول العالم يساهمون في نشاطاتها ويمدون يد العون إليها. فأرسل مسلمو «جنوب إفريقية» مبالغ باهظة بمناسبة حفلة توزيع الجوائز على الطلاب الفائزين التي عقدتها «دارالعلوم» عام 1328هـ و أخذ ذلك في اتساع مع مرور الأيام مذ ذاك. فكان لـ«دارالعلوم» متعاونون وأنصار كثيرون في مناطق كثيرة من «جنوب إفريقية» أبرزها: دربن (Durban) وناتال (Natal) وترانسفال (Transvaal) وتوسع ذلك بدايةً من جنوب إفريقية إلى شمالها.

عام 1338هـ ، وإطلاق سراح

شيخ الهند وعودته من«مالطة»:

       أسلفنا في أحداث عام 1335هـ ذكر اعتقال شيخ الهند، وسنأتي على ذكر نزوله في الحجاز واعتقاله في «مالطة» في موضعه بإذن الله تعالى. ونوجز اعتقاله وإطلاق سراحه هنا:

       «تم ترحيل شيخ الهند مع أصحابه في22/جمادى الأخرى عام 1338هـ من «مالطة» تحت رقابة عسكرية، و أنزلوهم في «سيدي بشير» و«سويز» قرابة شهرين. وغادر «سويز» إلى «مومباي» في5/رمضان المبارك، ووصلت السفينة إلى «مومباي» في 20/رمضان، فما إن وصلت إليها حتى أخبروه بأنه قد أطلق سراحه وسراح أصحابه معه، ورفع عنه الحظر فاستقبلته لجنة الخلافة في «مومباي» بعقد حفلٍ موسع. فأقام شيخ الهند فيها إلى23/رمضان، و وصل الشيخ إلى «دهلي» في 24/رمضان، ومنها إلى «ديوبند» صباح 26/رمضان، ونزل على محطة سكة الحديد بـ«ديوبند» في الساعة التاسعة صباحاً، وشهدت المحطات التي مر بها في طريقه إلى «ديوبند» ازدحامًا وتواجدًا مكثفاً من البشر، وقابله في محطة «ديوبند» سيل من الناس لايحصون عدًا ولاحسابًا. وكانت «ديوبند» قد تلقت خطابات تبشر بمغادرته لـ«سويز» إلى «مومباي» وأنه سيصل إليها – مومباي- في 20/رمضان – كما أسلفنا-؛ ولكن لم يكن أهلها على علمٍ بأنه تم إطلاق سراحه، كما عمي عليهم كذلك إمكانية الاجتماع به ولقاؤه في «مومباي» من عدمه، ورغم ذلك كله توجه الشيخ محمد أحمد (1279-1347هـ =1862-1928م) هو أبناؤه وبعض أقارب شيخ الهند وأصحابه المخلصين إلى «مومباي»، وتفيد التقارير الدورية في الجامعة عن مقدم شيخ الهند بما يلي:

       «أعظم الأحداث في هذه السنة وأزهاها عودةُ شيخ الهند محمود حسن الديوبندي إلى «مومباي»، ومنها إلى مسقط رأسه «ديوبند» بعد ما أطلق سراحُه من الأسر – الذي امتد على خمس سنوات –في «مصر» و«القاهرة» وجزيرة «مالطة». وهو أهم الأحداث في تاريخ «دارالعلوم». كان اليوم السادس والعشرون من رمضان عام 1338هـ اليوم المبارك الذي يشهد أهل القلوب الهائمة في «ديوبند» هذا المنظرالذي شرح صدورهم وأثلج أفئدتهم وأقر عيونهم بعد مدة ناهزت خمسة أعوام. ولايكاد يقادر ذلك الإخلاصَ والحبَ والفرحَ مما استقبل به الناس شيخَ الهند إلا من رأى ذلك المنظر الميمون بأم عينيه. وكان أول شيء بدأ به شيخُ الهند حين انطلق من محطة «ديوبند» أن دخل المدرسة وجلس على سرير في الصالة الكبرى لدارالحديث – التي لم يكن قد تم تسقيفه بعدُ ثم أحدق به من كل جانب الراغبون في زيارته ولقائه، وقام على الأقدام أو صعد إلى سطح المدرسة كلُ من لم يتمكن من رؤيته لبعده عنه مكانًا، وأطال شيخ الهند والناس كلهم الدعاء ثم توجه الشيخ إلى «دارالمشورة»، فلبث بها مليًا ليتوجه إلى منزله.

إنشاء سكن طلابي جديد:

       شهدت «دارالعلوم/ديوبند» ارتفاعا ملحوظاً في عدد الطلاب منذ بضعة أعوام سابقة بشكل مستمرٍ، فقد بلغ عددهم في عام 1337هـ(361) طالبًا، ووصل في هذا العام إلى(601) طالب. وضاقت غرف السكن الطلابي على هذا العدد، الأمر الذي دفع نصفَ عدد الطلاب إلى المبيت في مختلف مساجد المدينة ومنازلها. مما حال دون انصرافهم إلى الدراسة ونيل قسط من الراحة النفسية، كما عاق ذلك دون الإشراف عليهم وتربيتهم على المستوى المطلوب. أضف إلى ذلك أن الطلاب -الذين كانوا يسكنون في السكن الطلابي- كان عددهم يفوق كثيراً القوةَ الاستيعابية للسكن الطلابي. فكان ضيق المكان المخصص لسكنهم مبعث قلق واضطراب بشكل مستمر، وكل ذلك يُشعر المسؤولين الضرورةَ القاصية إلى إنشاء غُرف إضافية، وكان مشروع إنشاء سكن طلابي جديد في الشمالي الغربي الجنوبي من «دارالحديث» قيد الدراسة. ونحمد الله تعالى على أن اتجهت إلى ذلك أنظاربعض فاعلي الخير من منطقة «أمرتسر»، وتم تأسيس هذا السكن الطلابي المقترح على نفقة منهم. فهذه الغرف التي تم إنشاؤها على مراحل في السنوات اللاحقة تشكل ذكرى تستحق التقدير والتثمين لعناية المسلمين الهنود وبسط أيديهم في الإنفاق على الأعمال الدينية، وبلغت سعة كل غرفة من هذه الغرف إلى ثمانية طلاب، وتتقدم كلاً منها شرفاتٌ ويتقدمها فناء أخضر جميل، بني على جوانبها الثلاثة السكنُ الطلابي وفي الجانب الشرقي منها مبنى «دارالحديث» العملاقة الناطحة للسحاب، الذي يعتبر أول بناء من نوعه على أرض الهند، والفناء واسع ومترامي الأرجاء، تم عمل حديقة تحتضن أنواعا من الأشجار ذوات الأزهار والأنوار. وجعلوا فيها بنيات الطريق فتحولت إلى بستان ذات منظر خلاب مكون تحت قلعة من القلاع. ثم أقيم «بوابة ظاهر» قبالة دارالحديث فيما بعد، التي تشكل ذكرى صلة الملك الأفغاني محمد ظاهر شاه(1)، والذي لاينساه التاريخ.

عام 1339هـ ، ووفاة شيخ الهند:

       لم يمض على إطلاق سراح شيخ الهند من سجن «مالطة»، ومقدمه إلى الهند إلا عام واحد، وأهلَّ عام 1339هـ حتى قضى الشيخ نحبه، تلك الفاجئة التي جعلت قلوب الناس عاليها سافلها، فتقول التقارير الدورية: «لقد زادت عودة شيخ الهند ديوبند رونقًا وبهاءً لايخطران بأذهان مَن جاء بعدُ، وكثر زوارها وقاصدوها كثرةً تذكِّر مجالس الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي (ت1323هـ = 1908م) والشيخ محمد قاسم النانوتوي (1248-1297هـ = 1832-1880م) رحمهما الله تعالى. وما أروع أخلاقه الحسنة التي كان يتحلى بها مع الناس، فرغم ما لقي من المتاعب في الرحلة الطويلة، بجانب صيام النهار وقيام الليل لم يرض لنفسه أن يقطع جزءًا من وقته ليعطيها حقها من الراحة والقرار معتزلًا عمن قصده لزيارته ولقائه مِن أصحابه وخاصةً من قطع الشقة البعيدة لهذا الغرض. فربما انفض عنه الضيوف ذوو الذكاء والفهم، أو يخليه ونفسه – وبإلحاحٍ شديد- بعضُ خدمه حين يستشعر حاجته إلى الراحة».

       وكان الشيخ ينوي الشروع في إلقاء دروس «صحيح البخاري» إلا أن كثرة زواره وازدحامهم لم يكن ليدعه ينصرف إلى عمل علمي أوتدريسي، وبما أن «دارالعلوم» تبدأ عامها الدراسي اعتبارًا من شهر شوال، ويُعقد فيه اختبارات التقييم للراغبين في الالتحاق بها، تمنى الناس كلهم أن يتم افتتاح هذه الاختبارات ودروس الحديث الشريف على يد شيخ الهند، إلا أن زواره لم يدعوه يبدأ دروس «سنن الترمذي» كعادته؛ إذ عرض له بعض الأسفار والرحلات التي لم يجد بدًا من القيام بها، ثم ألم به المرض اعتبارًا من عيد الأضحى حين رجع من رحلاته، فبدأ يعالجه أطباء «ديوبند» بمن فيهم شقيقه الأصغرالطيبب محمد حسن – من أطباء المدرسة العالية بديوبند-. وفي الوقت نفسه زاره وفد من مدينة «علي كره» يطلب منه أن يقوم بافتتاح «الجامعة الملية»(2)، وحَالَ أصحابُه وخَدَمُه دون هذه الرحلة نظراً لشدة وطأة المرض عليه، إلا أنه كره أن يرد طلب مسلمي «علي كره»، فعزم على السفر في حين كان يعجز أن يتقلب في فراشه إلا بمساعدة أحد أصحابه، وصحبه عدد منهم في هذه الرحلة، بمن فيهم الشيخ العلامة العثماني (ت1369هـ =1989م)، والشيخ محمد طيب(1315-1403هـ = 1897-1983م) – رئيس الجامعة اليوم(3)-، وازداد ضعفاً في الرحلة إلى «علي كره»، وتردى وضعه الصحي مرجعَه إلى «ديوبند» ترديًا خيف معه عليه، فنقل إلى «دهلي»، حيث بدأ بمعالجته ومداواته كل من مسيح الملك الطبيب أجمل خان(4) والطبيب مختار أحمد الأنصاري(5)، وشاع الخبر بوضعه الصحي الحرج قبل وفاته بيوم فشد كل من الشيخ الحافظ محمد أحمد (1279-1347هـ =1862-1928م) – رئيس الجامعة حينئذ – والشيخ حبيب الرحمن (ت1348هـ / 1929م) – ومساعد رئيس الجامعة – والعلامة أنورشاه الكشميري (1292-1352هـ = 1875-1933م) وغيرهم رحالهم، وكان شيخ الهند يلبي داعي الأجل في الوقت الذي غادر هؤلاء «ديوبند» وذلك يوم الثلاثاء 18/ربيع الأول في بيت الطبيب الأنصاري في منطقة «دريا غنج» [دهلي].

       ونقل جثمانه إلى «ديوبند» وصلى الناس عليه فيما مربه من المحطات في جموع حاشدة، ووصل جثمانه إلى محطة «ديوبند» في جو مماثل للجو الذي استقبله الناس مرجعَه من سجن «مالطة»، ولايختلفان إلا أنهم يكادون يطيرون فرحاً وسرورًا في الأولى، ولايقرون قرارا أسفاً وهماً في الثانية، وتأخر وصول جثمانه إلى منزله كثيرًا لأجل الزحام الذي حال دونه، وصُلِّي عليه من الغد في ساحة «مولسرى» بدار العلوم، ودفن في المقبرة القاسمية والقلوب ملؤها الأسى والحزن والعيون دامعة، نوَّر الله تعالى مرقده. ورثى شيخَ الهند أصحابُه وتلامذتُه ومسترشدُوه بقصائد باللغات الثلاث العربية والأردية والفارسية.

*  *  *

الهوامش:

(1)  الملك محمد ظاهر شاه (1332-1428هـ/1914- 2007م) آخر ملوك «أفغانستان»، نصب ملكاً في 8/نوفمبر 1933هـ، وهو في التاسعة عشرة بعد أن اغتيل والده الملك «محمد نادر شاه» في وقت لاحق أمام عينيه. ولد «محمد ظاهر شاه» في «كابل»، ودخل المدرسة الابتدائية «حبيبية» عام 1920م، وسافر إلى «فرنسا» عام 1924م مع والده عندما عين بها سفيرًا لأفغانستان، واستمر في دراسته هناك أيضا، وعاد إلى «أفغانستان» يوم 15/أكتوبر 1929م عندما عاد أبوه ملكا على أفغانستان. تولى الحكم في عام 1933م بعد اغتيال والده وهو بعمر التاسعة عشر. كانت فترة حكمه في الخمسينات والستينات فترة انتعاش اقتصادي لـ«افغانستان» لم يسبق لها مثيل، ودعم التعليم وشجعه بقوة وأمر ببناء المدارس في جميع أنحاء البلاد. وفي عهده بني العديد من المطارات مثل مطار «كابل» الدولي ومطار «قندهار» الدولي والعديد من المطارات الأخرى في جميع أنحاء البلاد، وافتتح في عام1967م «حديقة حيوانات» كابل. للاستزادة من ترجمته راجع: ع: http://en.wikipedia.org/wiki/Main_Page (المترجم)

(2)  جامعة إسلامية تابعة للحكومة الهندية أسست عام1920م في «علي كره»، ثم نقلت إلى «دهلي» عاصمة الهند، ولاتزال – دهلي- مقرها. (المترجم)

(3)  أي حين كتابة هذه السطور(المترجم).

(4)  محمد أجمل خان بن الطبيب محمود خان(1284-1345هـ /1868-1927م): طبيب ومصلح اجتماعي، انحدرت عائلته من «هرات» برفقة الإمبراطور بابر، وظلت على صلة ببلاطه في عهده، حفظ القرآن الكريم، ثم درس  العربية والفارسية كما تعلم الطبّ على شقيقه الأكبر: الطبيب محمد واصل خان، وتوسع فيه توسعًا اشتهر به في طول البلاد وعرضها، تعين طبيباً للنواب في «رام فور» عام 1892م، رأس المؤتمر الطبي في عام1906هـ ، ولقبته الحكومة الهندية عام1908م بـ«حاذق الملك»، وأسس عام 1912هـ الجامعة الطبية المعروفة، وتعين مديراً عاماً للجامعة الملية الإسلامية في «دهلي»، ورأس الحفلة التي وافقت على حركة العصيان المدني، التي قادها حزب المؤتمر الهندي، وكان من الدعاة البارزين المتحمسين إلى توحيد صفوف المسلمين والهندوس وجمعهم على رصيف واحدٍ، وكان لآرائه ثقل عظيم في السياسة الهندية. له كتب في موضوع الطب بجانب موضوعات أخرى. وله أعمال دون ذلك. للاستزادة من ترجمته راجع: http://en.wikipedia.org/wiki/Main_Page (المترجم)

(5)  الطبيب مختار أحمد أنصاري(1296- 1354هـ/1880-1936م) أحد الزعماء البارزين في الهند، رأس المؤتمر الوطني والعصبة الإسلامية في الهند خلال حركة تحريرها من أيدي الاستعمار البريطاني، شارك في تأسيس الجامعة الملية الإسلامية (Jamia Millia Islamia) وشغل منصب رئيسها (Chancellor) عام 1928- 1936م). ولد في مديرية «غازي فور» في ولاية أترابراديش، درسَ في مدرسة «فكتوريا»، والكلية الطبية (Madras Medical College) وعمل في(London Lock Hospital) و(Charing Cross Hospital in London) وعين أمينا عاماً لـ (AICC). للاستزادة من ترجمته راجع: http://en.Wikipedia.org/wiki/Main_Page (المترجم)

*  *  *

*  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، شعبان 1436 هـ = مايو – يونيو 2015م ، العدد : 8 ، السنة : 39


(*)    أستاذ التفسير والأدب العربي بالجامعة.

Related Posts