إلى رحمة الله

بقلم: رئيس التحرير

nooralamamini@gmail.com

وصلتُ مسقط رأسي قريـة «هربوربيشي» Harpur Beshi مكتب البريد ومركز الشرطة «أورائي» Aurai مديرية «مظفربور» Muzaffarpur ولاية «بيهار» Bihar بالهند، قادمًا من «ديوبند» Deoband مقرّ عملي مارًّا بدهلي – عاصمة الهند – يوم الخميس: 27/جمادى الأخرى 1434هـ الموافق 9/مايو 2013م.

       وكان الغرض من الرحلة قضاءُ فرصةٍ من الوقت سعيدةٍ في صحبة الوالدة – رحمها الله تعالى وأدخلها فسيح جناته بفضله ومنّه وكرمه – كالعادة كلّ عام في مثل هذا الوقت؛ لأنّها – رحمها الله – كانت تعاني منذ سنوات من أجل الشيخوخة أمراضاً عديدة يجري علاجُها منها دون أن تنال معافاةً كاملةً منها. ومنذ نحو سنة بدأت تعاني ضعفَ الذاكرة، فكانت لا تعرف بعضَ الأوقات حتى المعارفَ والأقاربَ؛ ولكنها كانت تعرفهم بالأسامي والهويّات في أوقات لاحقة؛ لكنّها رغم هذه الأمراض والعوارض الكثيرة، كانت تفي بحوائجها البشريّة دونما استناد إلى أحد، وكانت تمشي دونما اتّكاء على عصًا أو عكازة، وكانت تتجوّل في الحيّ وتطوف ببيوتات أعضاء الأسرة والأقارب على قدميها دون مساعدة من أحد، ولم تستلقِ على الفراش ولم تكن طريحةَ السرير قطّ تحتاج إلى خدمة أحد أو مساعدته.

       وكنتُ كلما أحضر القريةَ سنويًّا، آخذ بالوالدة – رحمها الله – إلى بعض الأطباء المشاهير النطاسيين في مدينة «مفظربور» ففي هذه المرة هي الأخرى قرّرتُ أن أذهب بها إلى المدينة، حتى يتمّ إحراءُ الفحص الطبّي الكامل لها، لكي يتمّ التوصّل إلى الأمراض الجديدة التي تكون قد أصابتها؛ ولكنه حَدَثَ أنه حالت دون ذلك عوائقُ من شدّة نزول المطر يومًا، وإخلاف الوعد من قبل سائق السيّارة يومًا؛ حيث لم يحضر بالسيّارة رغم إعطاء وعد مُؤَكَّد بذلك بتحديد الوقت واليوم.

       ثم تواعدتُ مع سائق، فأعطاني موعد الساعة 6 من الصباح الباكر من يوم السبت: 14/رجب 1434هـ الموافق 25/مايو 2013م، وقد حضر السائقُ بالسيّارة في الميعاد المُحَدَّد؛ ولكنه حدث أنّ الوالدة – رحمها الله – تعرّضت لحمى وقُيَاء منذ نحو الساعة الواحدة والنصف من الهزيع الأخير من اللّيل، وصحوتُ من النوم أنا وابنتي – التي كانت قد صحبتني إلى القرية من «ديوبند» في رحلتي هذه – من شدّة ما كانت تَتَأَوَّه، وقلت لابنتي أن تُنيل جدّتَها حبةً من الكروسين (Crocin) تُتَنَاول لدى الإصابة بالحمّى ووجع الجسم، فزالت الحمى؛ ولكن الوجع ولاسيّما فيما تحت الكتف اليسرى لم يَزُلْ، فظلّت تشكوه حتى الساعة 6 من الصباح، فظِلْتُ أنا وابنتي يغمزانِ رجليها ويديها وكتفيها وكلّ جسمها الذي ظلّت تقول: إنه تحطّم كلِّيًّا؛ ولكن التحطّم لم يَزُلْ وإنما كانت تشعر ببعض الراحة من التحطّم، وظلّت تقول: «اللهمّ ادْعُنِي إليك، اللهمّ ادْعُنِي إليك» وظلّت تكرر الكلمة مرّات لا تُحْصَىٰ، كما لم تخفّ وطأةُ القُيَاء، حتى حضرت السيّارة على الميعاد، فقال الناسُ ولاسيّما الأقاربُ: يما أن السيّارة قد أتت على الموعد، فالأحسن أن يُذْهَب بالشيخة الوالدة إلى المدينة التي يمكن فيها فحصُها الطبيّ وتشخيصُ الأدواء التي تعانيها، ومن ثم وصفُ الأدوية الصحيحة لها وعلاجُها بحضور أطباء متخصصين بارعين لديهم خبرة علاجيّة طويلة.

       وقد صَحِبَتْها إلى «مظفربور» زوجةُ ابنها الأوسط «منظور عالم» ورجلٌ من أهل الحي يجاور بل يلاصق بيتُه بيتي اسمه «صغير أحمد» الذي يكبرني في السنّ قليلاً فهو مثل أترابي منذ الصبا، يعاونني في كل شأن من شؤون حياتي لدى حضوري إلى القرية و لدى وجوده بها في فرصة الفراغ من عمله في مصنع الصلب الذي يعمل به. أما أنا فلم أسعد بصحبة الوالدة إلى مدينة «مظفربور» في رحلتها هذه التي كانت في الواقع رحلةً من دنياها إلى آخرتها؛ لأني ما إن وصلتُ القريةَ في رحلتي هذه من «ديوبند» إليها حتى أصابني جرحٌ غائرٌ في خِنْصِر رجلي اليسرى، أقعدني عن التحرك والمشي.

       في الساعة الحادية عشرة ضحى هَاتَفَنِي السيّد «صغير أحمد» من مدينة «مظفرفور» أننا عرضنا أختي الكبرى – يعني والدتي – على الطبيب المسلم الخبير «عقيل ممتاز» الذي حقنها بالغلوكوز المائع الذي وضع فيه من الدواء ما يمنع القُيَاءَ، وأن عمليّة الحقن جارية منذ أكثر من نصف ساعة، وقد أخذنا موعدًا لدى طبيب آخر متخصص في الأمراض العقلية، وهو موعد الساعة 12 من الضحى، وخلال ذلك سننتهي من عمليّة الحقن التي يقوم بها هذا الطبيب. وكنتُ في انتظار أنه سيُهاتِفُنِي في الساعة 12:30 أنه قد انتهى من عرض الوالدة على الطبيب الثاني هو الآخر، وأنّه اقترح كذا من الحمية وكذا من الأدوية إذ هَاتَفَ ابنتَه على رقم جوّالها: ان أَخْبِري فورًا مولانا بأن والدته قد تُوَفِّيَت خلال هذه الدقائق القليلة التي مضت؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم. وكان عندها لديّ ضيوفٌ من العلماء كنتُ أتحادث معهم، إذ فاجأتني البنتُ بصوت مُتَهَدِّج حزين للغاية بأن الشيخة فلانة قد توفيت كما هَاتَفَنِي والدي الآن. وقع هذا النعيُ الحزينُ عليّ كالصاعقة، فتَعَطَّلَ عقلي وفقدتُ رشدي، ولم أقدر حتى على التأوّه وإبداء ما أَلَمَّ بي من الحزن القاتل الذي لم أعهده في حياتي. وكان لديّ عندها مع الضيوف شقيقُ السيّد صغير أحمد الأصغر السيّد «ظفير أحمد» – الذي احتلّ منذ سنوات مكانةَ عمدة القرية – الذي نهض من عندي لتوّه، وصَرَخَ بأعلى صوته في الحيّ حتى أَوْصَلَ الخبرَ إلى جميع سكانه، وبالتالي إلى سكّان القرية كلِّها، ثم تمّ الإعلان بذلك من على منارة الجامع بمكبر الصوت فانتشر في القرية وتعدّاها إلى قرى المسلمين العديدة شيئًا فشيئًا، ثم عكف على اتخاذ ترتيبات للتجهيز والتكفين والدفن..

       وكان يرى أن تقام صلاةُ الجنازة في الساعة 8 من اليوم التالي: الأحد: 15/رجب = 26/مايو، حتى يسهل على جميع من تسامعوا بالنعي حضورُ صلاة الجنازة وتشييعُ الجثمان من الأقرباء وذوي الصلات والمحبين والمعارف وعامّة المسلمين ممن يرغبون في ذلك؛ ولكني قلتُ له: إني أرى إقامةَ الصلاة على الميت ومواراة الجثمان اليوم إذا تمكّنتَ من اتخاذ اللازم لذلك. قال: سيكون ما ترى، فتولّى هو بنفسه وعن طريق شباب نشيطين إجراءَ الاتصال بالأقرباء وذوي الصلات في مختلف القرى عن طريق الهواتف الجوالات كما قام بجميع ما يجب القيام به في مثل هذا الوقت العصيب؛ فجزاه الله خيرًا؛ لأني عدتُ لا أتمالك نفسي من شدة الحزن الذي نزل علي من الموت المفاجئ للوالدة – رحمها الله تعالى – حتى عدتُ لا أتلقّى البلاغات التليفونية والإجابة عن التساؤلات.

       في الساعة الواحدة ظهرًا وصل الجثمانُ من مدينة «مظفربور» بيتي الذي ازدحم فورًا بالأناسيّ من الرجال والنساء في القرية، وانتشر النعي عن طريق الجوّالات فتسامع به المعارف في شتى الأمكنة البعيدة في أرجاء البلاد فواصل الحضورُ والغائبون تقديمَ التعازي. ورغم أني عدتُ مُحَطَّماً من الداخل؛ ولكني تعاملتُ بالهمة والصرامة وألقيت نظرةً على جثمان الوالدة – رحمها الله تعالى – فكان الوجهُ ناضرًا، كأنها حيّة بل كأنها صارت أكثر نضارةً مما كانت عليه في حياتها، فسُرِرْتُ جدًّا؛ لأنّ ذلك كان مُبَشِّرًا بأنّ ربّها رحمها وأكرمها وأنه تعالى سيعلي درجتهَا ويُسْكِنُها بحبُوحَةَ جنانه ويغفر جميع زلاّتها التي لايخلو منها فرد من البشر؛ ولكني سأظلّ متحسرًا على أنني لم أتحدث معها في آخر عهدها بالحياة، حتى ألتمس منها أن يعفو عن جميع ما صدر مني نحوها ممّا يكون قد آذاها، وإن كنتُ قد التمستُ ذلك منها في ماضي الأيّام أكثر من مرة.

       وكان موعدُ إقامة الصلاة قد قُرِّرَ بالساعة الخامسة والنصف بعد صلاة العصر مباشرة؛ ولكنها أُخِّرَت قدر خمس عشرة دقيقةً انتظارًا لحضور بعض من اتصلوا من العلماء أنهم في الطريق إلى القرية. وقد حضر الصلاةَ وتشييعَ الجثمان مُعْظَمُ سكّان القرتين المتصلتين: «هربوربيشي» و «بيج ناتهـ بيشي» إلى جانب حيّ «أُسْرِي» من قرية «نياغاؤن» إلى جانب الضيوف الوافدين من شتى القرى القريبة والبعيدة، وكان الحضور – ولله الحمد – كثيرين، حتى قالوا: إنّ مثل هذا العدد الكبير لايحضر صلاة الجنازة في القرية عادةً، إن ذلك كان شيئًا غير عاديّ.

       وقد انتهينا من تورية الجثمان قبيل صلاة المغرب، وبما أني كنتُ مصابًا بالجرح الغائر في خنصر رجلي اليسرى، فكنت لا أقدر على المشي فوَصَلَ بي إلى المقبرة وعاد بي منها نجل السيد «صغير أحمد» الأصغر «شهزادي» فجزاه الله خيرًا. وذلك بدراجته الناريّة التي وظَّفَها كثيرًا اليوم لتوفير مُسْتَلْزَمَات التجهيز والتكفين والتوصّل إلى الأقرباء وذوي الأواصر، كما وَظَّفَها قبلُ وبعدُ لتحقيق كثير من الحوائج التي احتجتُ إليها خلالَ إقامتي بالقرية.

       عدتُ إلى البيت بعد دفن الوالدة في المقبرة التي تضم رفات الأجداد، فوجدته مُظْلماً، رغم أن النور الكهربائي الذي أرسله القائمُ على مُوَلِّد الكهرباء كان أقوى من جميع الأيّام، وكلما اشتدّ ظلامُ الليل اشتدت الوحشة في البيت الذي كان اليوم غاصًّا برجال وسيدات نزلوا اليوم ضيوفاً من شتى القرى للمساهمة في مشاركة الحزن.. وما أمضيتُ ليلة أشدّ ظلاماً وتوحشًا من هذه الليلة في حياتي؛ حيث كنتُ أشعر بالوحدة رغم كثرة الضيوف. وظلتُ طَوَالَ الأيام الاثني عشر التي أمضيتُها في وطني بعد وفاة الوالدة – رحمها الله تعالى – أشعر كأنها لم تمت، وإنماهي حيّة اختفت، وهي ستدخل عليّ، وها هي ذِهْ تدخل عليّ من هذا الباب ومن ذلك الباب، لأن بيتي له بابان: باب في الشمال وباب في الجنوب.

       وبما أن الخبر كانت قد نشرته صحف أرديّة يوميّة في اليوم التالي: الأحد: 15/رجب = 26/مايو، فوصل إلى أنحاء البلاد، ولاسيّما المدارس والجامعات الإسلاميّة الأهليّة، فاتّصل بي العلماءُ والصلحاءُ وطلاّبُ العلم بعدد لا يُحْصَى أنهم اهتموا بتلاوة القرآن الكريم، وإهداء الثواب إلى الفقيدة؛ فجزاهم الله خيرًا في الدنيا والآخرة.

       ومن حسن الصدفة أن ابني الأكبر المفتي أسامة نور القاسمي – المتخرج من جامعة ديوبند الإسلامية الكبرى والباحث في قسم اللغة العربية في جامعة دهلي العصرية الحكومية – كان قد سعد بأداء العمرة لأول مرة في حياته قُبَيْلَ إقامة الصلاة عليها في القرية، فسعد بالإكثار من الدعاء والتضرع إلى ربه لكي يغفر جدته ويعلي درجاتها في جنة الفردوس.

*  *  *

       وقد كانت الوالدة – رحمها الله – لدى وفاتها في 80 الثمانين من عمرها؛ لأنها وُلِدَت – حسب الوثيقة الرسمية – في 5/3/1933م (7/ذوالحجة 1351هـ) وكانت أصغر شقيقاتها الأربع، ولم يكن لها شقيق، وإن كان لها أبناء أعمام كثيرون كانوا يحبونها حبَّ الشقيق لشقيقته، وكانت كالنساء من الجيل القديم لم يُتَحْ لها أن تتعلم كما يُتَاحُ اليومَ لنساء الجيل المعاصر أن يتعلمن؛ ولكنها كانت قد حفظت مسائل الصلاة والصيام والدين العامّة، التي التزمتها في حياتها، وكانت سليمةَ دواعي الصدر، فلم تكن تعرف الدهاءَ والمكرَ والحزمَ السلبيَّ والذَّرَابة، فكانت تسخط بشدة على كلّ من تستاء منه من الكلام البذيء؛ لأن ذلك رمز على أنها كانت عفيفةَ النفس طاهرةَ الذيل، وكانت تصارح السيدات اللاتي يلتقينها ويحتككن بها بما تستاء منه من قبلهنّ، ولا تخفيه في نفسها؛ لأنها لم تكن طويلة الأمعاء مثل كثير من السيّدات. إنّها عاشت لحدّ كبير الشقاءَ الماديّ، و واجهت سمومًا قاتله – وليست لافحة فقط – في سبيل تربية أولادها، ولم يكن بوسعنا أن نؤدي أيَّ ثمن نحو ما أَنْفَقَتْه من خيرة أرصدة حياتها الثمينة لِتُقَوِّمَ أقدامَنا على مسار الحياة. وذلك بإخلاص لايوصف، وحبّ لايُقَدَّر بثمن، وحنان لا يوجد مثالُه إلاّ في حنايا صدر الأمّ الحنون مثلها.. إنها كانت حقًّا مثالاً للصبر والشكر، والجدّ والمثابرة، ومواصلة الجد والكدّ إلى عتبة حصاد النجاح. وكانت متساميةً عن كل ما تُعَابُ به الكسولةُ من تأجيل عمل اليوم للغد، وكانت معجونةً طينتُها بالنظافة إلى جانب نزاهة القصد وطهارة الأخلاق. إن سيدات القرى والأرياف يتعودن في الأغلب الغيبةَ والنميمةَ والبراعةَ الماكرةَ في التحريش بين القرينات والجليسات؛ ولكن البراءة من هذا الداء كانت واسطةَ العقد في لآلئ الصفات الحميدة التي كانت تزدان بها الوالدة – رحمها الله تعالى – . إن هذه الخصلة القبيحة هي التي تقوم بدور أساسي أكبر في هدم القيم، وإفساد المجتمع، وتحطيم المثل الإنسانية ولاسيّما في المجتمع القرويّ.

       وكانت تحب الفقراءَ والمساكينَ، فما إن كان ينادي سائلٌ ما بالباب، حتى كانت تسارع إليه بحفنة مما في البيت من الرز أو الحنطة أو العدس، أو الفلوس، وكانت تلقيها في كيسه. وكانت تهتمّ كثيرًا بتقديم الأضاحي في عيد الأضحى وإطعام الفقراء يوم 15/شعبان من كل سنة، وكانت لا تأسف على فوت صدقة وفعل خير كما كانت تأسف إذا فاتها هذان العملان.

       وكانت تُمَيِّزها عن مثيلاتها صلةُ الأرحام والعطفُ واللطفُ ورقّةُ القلب وحبُّ ذوي القربى حبًّا جمًّا، فكان يُقْلِقُها إصابةُ أحد منهم حتى ولو بشوكة، أما إذا مرض منهم أحد، أو فُجِعَ هو بموت ذي صلة، أو أصيب بحادث و لو كان تافهًا، فإنها كانت تُمْضِي في بيته وقتًا طويلاً قد يمتد على اليوم والليلة، تشاطره وأهلَه الحزنَ، وتواسيه بكل ما كانت تعرفه من أساليب المواساة، وتساهم في تخفيف الألم. إنني تعلمت من والدتي معنى القرابة في أسمى وأشمل دلالاتها، فتعاملت بهذا المعنى مع الأقرباء جميعًا، حتى عَدِمْتُ الفرقَ بين أبناء الأب وأبناء العم، وتعاملتُ به حتى مع الذين «يعرفون جيدًا» الفرقَ بين أبناء الأب وأبناء العم، ويتعاملون به حرفيًّا، كأنهم يموتون من ساعتهم إذا لم يتعاملوا به!.

       وكانت الوالدة لا تعرف الكذبَ، فضلاً عن الافتراء والبهتان، كما كانت لا تعرف الثرثرةَ وفُضُولَ القول الذي يُؤَدِّي حتمًا إلى الخصام وتبادل الشتائم، على حين أن بنات حواء يمتزن بهذه الصفة في الأغلب، ولاسيّما في القرى والأرياف لطبيعة كثرة الفراغ وقلة الشغل اللتين هما تُـمَيِّزَانِها عن المدن والقرى الجامعة التي يشتغل فيها كل إنسان بشكل قد لا يجد فرصة للتجالس والتحادث والتلاقي.

       وكانت صارمة جدًّا في شأن صناعتي وتربيتي وتخريجي، فكان يُعْجِبُها كلُّ شيء يساعد على بنائي، وكان يُسِيئُها كلُّ شيء يؤدّي إلى هدمي، فكانت تحاول كثيرًا أن تُجَنِّبَنِي كلَّ سلوك يهدمني عاجلاً أو آجلاً، وكنتُ أخاف في طفولتي حتى كلَّ إشارة من طرفها. و«هذه الطاعة» أو «تقوى الأم»هذه أفادتني كثيرًا في بناء الذات وصقل الصفات وإثارة المواهب الكامنة فيّ. وقد استجاب الله تعالى كلّ ما دعته وتمنته لي حسب «طموحها» وعلى مستوى تفكيرها البسيط. فكلما كنتُ أخرج من بيتي للمدرسة أو الجامعة – على مدى سنوات دراستي – كانت تُوَدِّعني بقولها: بُنَيَّ! لا تنسَ مبالغة الاجتهاد في الدراسة». وكانت تُكَرِّر الجملةَ نفسَها في كل ما كانت تُوَجِّهه إليّ من الخطابات التي كانت تمليها عن طريق من كانوا يعرفون كتابتَها في القرية ممن يُعَدُّون على الأصابع، وكانت الخطابات التي كانت تُوَجَّه عن طريق البريد هي وسيلة الاتصال وحدها أيّامئذ. وكانت هذه الجملة الصادرة من أعماق قلبها وحرقة نفسها تفعل فيّ دائمًا فعلَ السحر أو فعلَ القوة الكهربائية، وكانت تملؤني طموحًا وحماسًا ورغبة في الدراسة لا تُقَاوَم، وكانت نفسي الأمّارة بالحسنات واللوّامة على السيئات تقول لي: لئن لم تبالغ في الاجتهاد في الدراسة فستكون خادعةً لأمّك؛ لأنها تظنّ أنك تتوفّر على الدراسة، وتكون أنت لا ترغب فيها. والحقُّ أن الفضل في تخريجي على ما تخرجت عليه إنما يرجع إلى جملة والدتي هذه التي كانت نابعة من قلبها المكلوم.

       وكان كثيرٌ من أترابي وزملائي، كانت تقول لهم أمّهاتُهم هذه الجملةَ نفسهَا أو مثلَها، ولا تزال الأمهاتُ يقلنها أو مثلَها لأبنائهن، فمن يستمع منهم لها يتخرج مُؤَهَّلاً، ومن لم يستمع يَضِعْ سدىً ويضلَّ الطريقَ، ويَهِمْ في مسارات الحياة. إن محالفة توفيق الله للإنسان وخيانته له يتجلّيان في سعادته وشقائه تجلّيًا لا يتجلّيانه في مشهد من مشاهد حياته. وقد صَدَقَ الشاعرُ العربيُّ العبقريُّ الذي يُعَبِّر عن حقائق الحياة في شعره وهو المتنبئ (أبوالطيب أحمد بن الحسين الجعفي الكندي 303-354هـ = 915-965م) عندما قال في مَدَحِ «كافور الإخشيدي» (المتوفى 357هـ/967م):

مَدىً بَلَّـغَ الأُسْتَاذَ أَقْصَـــاهُ رَبُّــــه

وَنَفْسٌ لَــه لَـمْ تَــرْضَ إلاَّ التَّنَاهِـيَا

دَعَتْهُ فَلَبَّاهَا إلَى الْـمَجْــدِ وَالْعُـــلاَ

وَقَدْ خَالَفَ النَّاسُ النُّفُوسَ الدَّوَاعِيَا

       في شتى محطّات الحياة لم تُسَاعِدْني إلاّ أدعيةُ الوالدة التي كانت تصدر من أعماق قلبها وتلقى إجابةً من ربّها؛ فكم من طُرُق مسدودة انفتحت، وكم من أبواب مُغْلَقَة فُتِحَتْ على مصراعيها، وكم من كُرَب شديدة انفرجت، وكم من مرات رأينا الظلامَ يتراكم ويتكثف إذ أَسْفَرَ الصبحُ وانبلج النورُ وأشرقت جميعُ السكك والزقاق والنواحي المترامية في طريقي، وحَسِبْتُ أن هناك يدًا خفيّة تمارس «الكرامات». ولم تكن هذه اليد الخفية إلاّ أدعية الوالدة – رحمها الله تعالى – التي كانت تصدر من قلبها بل من أصل كل شعرة في جسمها. إن سلسلةَ هذه الأدعية المباركة السعيدة الوارفة الظلال قد انتهت اليوم بموتها – رحمها الله رحمة و اسعة – لكن بركاتها اللامتناهية ستمتد من هذه الدنيا الفانية إلى دار الآخرة، وستكون ذريعةَ نجاه ورقيِّ درجات فيها بإذن الله عزّ وجل الذي لايعزّ عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء.

       ولم تكن – رحمها الله – طويلةَ الأماني كثيرة الأحلام، وقد اختصرت جميع أمانيها في أن يكون أولادها وأولاد أولادها سعداء في الدنيا والآخرة، إنها كانت تصلي الخمس وتصوم رمضان وتتصدق بفضول أموالها وتذكر الله بما تحفظ من الأوراد والأدعية والتسبيحات، وتظل تفكر في باقي أوقاتها في مصير أولادها وذراريهم، وتدعو لهم بلغتها الأم، حتى كانت تستعجل العودة إلى وطنها في القرية، عندما كنت أستصحبها إلى ديوبند؛ حيث أعمل بجامعتها الإسلامية الأهلية الكبرى؛ لأن التفكير في أولادها في القرية يرغمها إلى العودة عاجلاً إليها تاركةً وراءها جميعَ التسهيلات التي كنت أُوَفِّرها لها في «ديوبند» مما كانت غيرَ ممكنة في وطنها في القرية البائسة المفلسة في جميع الأسباب المدنية والحضاريّة.

       وكانت تحبّ كثيرًا وطنهَا في القرية والمناطق المتصلة بها، ولم أَرَ مثلَها من تحب حبَّها وطنَها وما يجاورها من الأمكنة. إن حبّ الوطن طبيعةٌ مركوزةٌ في الإنسان وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – والصحابة – رضي الله عنهم – يذكرون مكة المكرمة بعد هجرتهم إلى المدينة المنورة، يذكرون حتى بعض الشجيرات التي كانت تنبت بها ولا تنبت بالمدينة المنورة؛ ولكني وجدت الوالدة –  رحمها الله – شديدةً مُبَالِغَةً في حبّها لمسقط رأسها، يُعْجِبُها كلُّ شيء فيه ويسيئها الثناءُ على غيره من الأماكن مهما كانت مدنًا متقدمة وبلادًا متحضرة، حتى كانت تغضب على من يثني لديها على غير وطنها ولاسيّما إذا فضّله عندها عليه.

       كانت الوالدة – رحمها الله – قد أَرْمَلَتْ قبل وفاتها بستة وأربعين (46) عامًا بالقياس إلى السنوات الهجرية، وبخمسة وأربعين (45) عاماً بالنسبة إلى الأعوام الميلادية؛ حيث انحسر عنها ظلّ زوجها في 1388هـ/1968م فشقّت طريقَها في الحياة من الصخور الصمّاء وحفرت بيدها البئر التي شربت منها، وصاغت بيدها الكأس التي تناولت بها الماءَ منها، وكانت الطينَ الذي منه صَنَعتِ الكأسَ، وقد جاهدت في سبيل أن تُعَلِّمنا المشيَ ثم الهرولة على درب الحياة، وغَذَّتْ أرجلَنا بتلك القوة والهمة اللتين تساعدان طوال الحياة على المشي فالهرولة والتحرك الفاعل المثمر على مسارات الحياة كلّها. إن الجدّ والتحرك الدائم كان قيمةً كبيرةً أصيلةً في حياة الوالدة – رحمها الله – قد تعلّمنا منها أن العمل والتحرك الدائم يضفي على الحياة المعنى؛ وأن الكسل والقعود يسلبها هذا المعنى، فلم نُصَبْ قطّ باليأس والإحباط، وإنما غمرتنا دائمًا إشراقةُ الأمل، وطلعةُ الأحلام العزيزة. ربما وجدتُ بعضَ الأقران والزملاء قد كسبوا بعضَ الرِّهَانَاتِ بالدهاء وبالتفنن والشطارة؛ ولكنّ حظّي قال لي: إنك لن تكسبه – بعض الرهانات – إلاّ بالجدّ والعمل الذي تعلمتَ درسَه من والدتك.

       وقد تعلمتُ من الوالدة – رحمها الله – ممارسة العمل قبل وقته لحدّ ممكن، حتى يتأتى متكاملاً مثمرًا مُسْتَوْفَىَ ويعطي النتائج المتوخاة بشكل مطلوب، فقد كانت لدى رحلتي إلى المدرسة أو الجامعة في مدينة بعيدة أخرى تسهر الليلَ كلَّه، تُعِدّ الزادَ، وتُجَهِّز الأغراضَ، وتُهَيِّئُ كلَّ شيء أحتاج إليه في السفر أو في المدرسة أو الجامعة، وتوقظني من النوم مُبَكِّرًا بدراسة النجوم التي كانت تعلم أنها تكون في مكان كذا وقت السحر، وتقول لي: قم واستعدّ وارتحل وإلاّ فإن الحافلة الأولى تفوتك إلى المدينة التي منها تركب القطار إلى المدينة التي فيها المدرسة/ الجامعة. إنّها كانت تكون دائمًا مُتَأَهِّبَةً قبل الموعد تَأَهُّبًا أقصى لكلّ عمل ذي بال. إن مثلها تكون «عظيمة» في مجالها؛ لأنّها تجتنب دائماً أي تقصير في أداء أيّ مسؤوليّة.

       رحمها الله وأنزل على قبرها شآبيب رحمته، وأدخلها فسيح جناته، ولا حرمنا أجرها، ولا فتننا بعدها، وأفاض علينا بركاتها، وغفرلها جميع زلاّتها، وأسعدنا في الدارين ببركة دعائها الذي دعته لنا في حياتها.

(تحريرًا باللغة العربية في الساعة 5 مساءً من يوم الإثنين: 7/شعبان 1434هـ = 17/يونيو 2013م)

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، ذوالقعدة 1434 هـ = سبتمبر – أكتوبر 2013م ، العدد : 11 ، السنة : 37

Related Posts