الأدب الإسلامي
بقلم : أديب العربية معالي الشيخ الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر
الرياض ، المملكة العربية السعودية
الأحلام التي سوف أتعرض لها هنا، وأعطى نماذج لها، يدور حولها الشك في أنها مختلقة، ولم يَرَهَا نائم، وإنما اخترعت لهدف، والأهداف قد يحدسها الإنسان، وقد لا يكون الشك في أنه من المستحيل أن تقع؛ ولكن لتكرر وقوعها، وتماثل مجاريها، واقتصارها على أناس بعينهم، وفي مواقف متشابهة، حتى لتكاد القصة الثانية أن تكون مثل الأولى، والثالثة مثل الثانية، وهكذا حتى يصل العدد إلى ما يؤكد أن الأمر تأليف لقصص لم تحصل، وأحلام لم يرَها أصحابها.
وقد ركَّزتُ أكثر ما ركَّزت على كتاب: “تاريخ بغداد” للخطيب البغدادي، لما فيه من تراجم، توافرت في بعضها ظاهرة هذا النوع من الأحلام، ولاختصاصها بطائفة من الناس، وفي زمن معين، وأحيانًا لهدف مكرر.
وهذه النصوص، وهي متماثلة، يمكن أن تقسم إلى أقسام، اعتمادًا على بعض الجوانب المختلفة فيها، فقد يرتكز القسم على الهدف ونوعه، وهل هو لإضافة فضيلة لمن رئي في الحلم، أو لدفاع عنه أمام تهم كانت قائمة وقت حياته، أو لاتخاذ وسيلة لمدح أحد أو ذمه.
وهذه النصوص عن الأحلام كأنها مثل بقية نصوص النحل، تعالج أمور الناس، وهم أموات، مثلما كانت تعالجها، وهم أحياء: دفاع أو هجوم، رفع مقام أو خفضه، نظرة عالية، أو نظرة متدنية.
ولعل اهتمام الناحلين لهذه الأحلام جاء من منطلق ما ورد من أن الأحلام ورد فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:
“رؤيا المسلم جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة”(1).
فهذا يعطي الرؤيا قوة تفسح لها الطريق للقبول.
والأحلام التي نحن بصددها تروى غالبًا عن أناس لهم صلة بالعلم والدين، قربًا منه أو بعدًا، وهي في الغالب تعطي الصفة التي يشتهرون بها عند الناس عفة وطاعة، أو استهتارًا ومروقًا؛ فالحلم جيء به ليؤكد ما عرف في اليقظة، أو جيء به لينقضه.
وقد يكون الحلم في أول رؤية له بصيغته المثبتة صحيحًا، و وقع حقيقة؛ ولكن اتخاذ هذه الصيغة قاعدة تتبع في كل حلم هي التي أوجبت الشك؛ لأنها تأتي وكأنها نص حفظه من أراد أن يراه، فرأى في نومه الحلم بهذه الصيغة نفسها.
ومن الصيغ المكررة الصيغة الآتية:
“قال محمد بن فضيل بن عياض:
رأيت عبد الله بن المبارك في المنام، فقلت: أي الأعمال وجدت أفضل؟
قال: الأمر الذي كنت فيه.
قلت: الرباط والجهاد؟
قال: نعم.
قلت: وأي شيء صُنِع بك؟
قال: غفر لي مغفرة ما بعدها مغفرة، وكلمتني امرأة من أهل الجنة، أو امرأة من الحور العين”(2).
هذه إحدى الصيغ المتكررة في الأحلام، رويت هذه الرؤيا عن رجل صالح، يرجى له خير، وهي في الوقت نفسه تُلمز إلى سبب المغفرة، وهو الرباط والجهاد، وهو منهج اتبعه عبد الله بن المبارك، ورجحه على الجلوس للعلم، وهو ما يرجحه بعض أهل زمنه على غيره من العبادات.
والرؤيا قد تكون حدثت فعلاً، وبنص هذا الحوار، إلا أن الشك يأتيها من نص آخر، في حلم آخر، من رجل آخر، والنص كما يلي:
“قال صخر بن راشد:
رأيت عبد الله بن المبارك، في منامي، بعد موته، فقلت: أليس قد متّ ؟
قال: بلى.
قلت: فما صَنَعَ بك ربك؟
قال: غفرلي مغفرة أحاطت بكل ذنب.
قلت: فسفيان الثوري؟
قال: بخ بخ، ذاك: ﴿مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصّـٰـلِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰـئِكَ رَفِيقًا﴾(3)،(4).
ويزيد الشك عندما يأتي راوٍ ثالث فيحاول أن يؤكد القول برؤيا ثالثة رواها هو مثل السابقة تمامًا، إلا أنه زاد عليها أمرين، يُقوِّيانها: الأمر الأول: أنه رأى فيها النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، وأن السؤال وجه إليه، والحديث جرى معه، وهذا يعطي الرؤيا القوة التي جاءت في الحديث:
“من رآني فقد رآني، فإن الشيطان لا يتشبه بي”(5).
والأمر الثاني: أنه أضاف في هذه الرؤيا السؤال عن وكيع، حتى يزيل ما قد يكون قيل من أعدائه من تركيزه على الحديث. وإضافة شخص آخر في الرؤيا يبدو أنه في نظرهم، يقويها تجاه الشخص الأول، والنص كما يلي:
قال الفريابي:
رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقلت: يا رسول الله، ما فعل ابن المبارك؟
فقال: ﴿مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصّـٰـلِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰـئِكَ رَفِيقًا﴾(6).
قلت: ما فعل وكيع؟
فحرك يديه، فقال: أكثر، أكثر، يعني الحديث”(7).
ورغم أن ما قاله عن وكيع يبدو مدحًا، فهو يحتمل أن يكون غمزًا؛ لأن وكيعًا أكثر من الحديث؛ لأن هناك من يرى أن يكون التركيز على القرآن، ولا ينسى الفقه.
على أي حال، هذه نصوص ثلاثة، تجري في مضمار واحد، وتسير على نسق واحد، وترمي إلى هدف واحد، وقصد متماثل، جاء بعضها يؤكد بعضًا، وبعضها يسند بعضًا ويعضده؛ وقد تكون هذه الأحلام الثلاثة لم يرها محمد بن فضيل بن عياض، ولا صخر بن راشد، ولا الفريابي، وإنما هم مشاجب عُلقت عليهم هذه الروى، ونسج عليهم هذا الخيال، وقد تكون إحدى هذه الرؤى صحيحة، خاصة الأولى وهي أبسطها، والأخرى مفتعلة.
ويستمر راؤ الرؤى، وحالمو الأحلام، في رؤية المتوفَّى، وغالبًا بعد موته بمدة قصيرة، فيسألونه عما فعل الله به أو صنع، ويطلبون معرفة سبب رِضَى الله عنه، وغفرانه له، فيعطيهم حادثة بعينها تكون هي السبب، أو طريقًا اختاره، فقبله الله – سبحانه وتعالى – وأثابه عليه بالغفران، وأحيانًا يكون لهذا الطريق والنهج منتقدون، فالحلم يساعد على تحسين صورة الميت، وتعضيده في نهجه.
ومن الصيغ التي تحوي بعض ذلك الصيغة الآتية:
قال يزيد بن هارون:
رأيت محمد بن يزيد الواسطي بعد موته في المنام، فقلت:
ما صنع الله بك؟
قال: غفرلي.
قلت: بماذا ؟
قال: بمجلس جلسه إلينا أبو عمرو البصري يوم جمعة بعد العصر، فدعا، وأمنَّا، فغفر لنا”(8).
هنا دخل مع محمد بن يزيد في الخير رجل آخر، هو أبو عمرو البصري، عمته بركة هذا الحلم! وهذا الحلم فيه قصد حسن، هو الحث على الدعاء يوم الجمعة بعد العصر؛ لأن فيه إمكان استجابة.
ويأتي نص مماثل، يسير على الطريق نفسه، حذو القذة بالقذة، والنعل بالنعل، لا يختلف لا في النهج، ولا في الخطة، ولا في الهدف، ولم يتغير فيه إلا الأسماء، ولم يتنوع إلا السبب.
“قال الحسن بن الليث الرازي:
رأيت محمد بن حميد الرازي في المنام، فقلت: يا أبا عبد الله ما فعل الله بك؟
قال: غفر لي.
فقلت: بماذا ؟
قال: برجائي إياه منذ ثمانين سنة”(9).
من غير اليقين أن يكون للموتى أسلوب واحد للرد، وإن كان الأحياء قد تعلم بعضهم من بعض البدء بالسؤال؛ فالأموات لم يسمعوا من بعضهم بعضًا الجواب، إلا إذا كان هذا من مخزون حفظهم في الدنيا ولا أراه!
والأقرب أن يكون هذا الأسلوب وُجِد مناسبًا، فرأى من أراد أن يعضد مذهبًا، أو يؤكد فضيلة، أو يحبذ منهجًا، أو يرجح رأيًا، أو يلمز أحدًا، أو يؤكد تهمة، أن يقتبس هذا الأسلوب، وما درى أن هذه الصور المتماثلة، سوف تجتمع يومًا في كتاب واحد، فيظهر تماثلها، ويتبين تكرّرها، فيتضح فيها العيب، وينبت الشك، ويترجح الرفض.
وبعض هذه النصوص يأتي بالمقدمة المعتادة، والمادة الرئيسة؛ ولكنه يتفنن في إعطاء السبب في الغفران؛ لأن الحالم يجد فيه مجالاً للجولة، وميدانًا للتوسع، فيربع فيه ما شاء أن يربع، ويتفسح في مجلسه ما شاء أن يتفسح، ومما يأتي في ذلك الرؤيا الآتية:
“حكى أبو خلف الوزان، قال:
رُؤِيَ يوسف بن حسين الرازي في النوم، فقيل له:
ماذا فعل الله بك ؟
قال: غفر لي ورحمني.
فقيل له: بماذا ؟
قال: بكلمة، أو بكلمات قلتها عند الموت.
قلت: اللهم إني نصحتُ الناس قولاً، وخنتُ نفسي فعلاً، فهب خيانة فعلي لنصيحة قولي”(10).
لم تختلف هذه الرؤيا عن سابقاتها إلا في السبب الذي غفر الله على أساسه للرازي؛ ويبدو أن الحلم اخْتُرِعَ من أجل هذه الكلمات المضيئة، التي مثلت السبب، فهي درر، خاف من فكر فيها أن لا تقبل إذا قال إنه فكر فيها، وصاغها هذه الصياغة القوية، التي تنضح ذلاًّ لله – العلي القدير – وتطفح صراحة واستسلامًا؛ فلهذا بحث عن طريقة تقبل بها، فعزاها لغيره، ولم يكن بإمكانه أن يلصقها بأحد الأحياء، أما الأموات فبالإمكان أن تعزى إلى أحدهم، عن طريق حلم، لا يحتاج إلى سلسلة من السند، تكون عرضة للفحص والتمحيص، ثم يكون مآلها الرفض.
ويأتي نص يسير على الجادة نفسها، مبتداه مبتداها، ومُحُّه محها؛ ولكن السبب فيه طريف، وفيه بذرة خير، فكرم الله يشمل صاحبها بالغفران، إذا كان له حظ من رضى الله وكرمه وغفرانه، والقصة تسير هكذا:
“قال إسماعيل بن الفضل بن طاهر:
رأيت سليمان الشاذكوني في النوم فقلت:
ما فعل الله بك، يا أبا أيوب ؟
قال: غفر لي.
قلت: بماذا ؟
قال: كنت في طريق أصبهان، أمرّ إليها، فأخذني مطر، وكان معي كتب، ولم أكن تحت سقف ولا شيء، فانكببت على كتبي حتى أصبحت، وهدأ المطر، فغفرالله لي بذلك”(11).
بجانب تحسين سمعة الشاذكوني، جاء الحث على العناية بالكتب إلى الحد الذي يتحمل فيه مثل هذا العناء، ويضحي فيه المرء بالراحة هذه التضحية، وهو قول لا يخلو من إشارة إلى أهمية الكتب عند ذلك الجيل، سواء في الصورة التي رسمت للشاذكوني حاضنًا كتبه، حضانةَ طير لبيضه أو فراخه؛ أو في الجزاء الذي ناله على هذا العمل المضني، في هذا الأمر النبيل.
ويأتي حلم، الدفاع فيه عن صاحبه، وما يُتَّهم به، واضح، ويتحدث عن صالح بن عبد القدوس، وكان الخليفة العباسي المهدي، قد اتهمه بالزندقة، وقتله، وصلبه؛ ويقول أحمد بن عبد الرحمن بن المعبر، وقد رآه في النوم:
“رأيت صالح بن عبد القدوس في المنام ضاحكاً، مستبشرًا، فقلت:
ما فعل الله بك ؟ وكيف نجوت مما كنت تُرْمَىٰ به ؟
قال: إني وردت على رب لا تخفى عليه خافية، فاستقبلني برحمته؛ وقال: قد علمتُ براءتك مما كنتَ تُقْذَف به”(12).
قد يكون الراوي صادقًا في رؤياه، وقد يكون من المعجبين بأدب صالح بن عبد القدوس، فقد كان له شعر مليء بالحكمة، كما جاء في ترجمته، وأراد من ادعى أنه رآه في المنام أن يوقف القال والقيل عنه؛ لأن الناس بعد قتل شخص وصلبه، يأخذون أيامًا وأسابيع، وليس لهم حديث إلا مثل هذا الأمر الذي يلفت نظر المجتمع، ويحظى بالآراء المتناقضة، فمن مؤيد ومن رافض، ومن منتهز لمثل هذه الفرصة ليعضد الحكم أو يعارضه، وقد يكون من ادعى رؤياه أمل أن يندم من أوقع بصالح بعد أن يسمع هذه الرؤيا. على أي حال، الهدف منها واضح، وقد جاء مزيلاً للحلم.
وأحيانًا من حرص صاحب الهدف الذي اختلق الحلم، فإنه يسرع في الوصول إلى هدفه، فيمرّ بالمقدمة، مرَّ الكرام، ليصل إلى هدفه: والمنافسة بين أصحاب التخصصات المختلفة في العصر العباسي، كانت حامية، والانتقاد يسير على قدم وساق، وكان هناك حملة على رواة الحديث، ومدح لقارئي القرآن، ومفسريه، وآخذي الأحكام منه، ومن الأحلام التي تُعَضِّد قراءة القرآن الرؤيا الآتية؛ ولم تخل من ذم أهل الحديث:
“قال محمد بن عيسى بن الطباع:
رأيت ابن المبارك في المنام، فقلت له:
كيف رأيت الحديث ؟
فذمه ذمًّا شديدًا، وقال:
ما رأيت الحديث، ولا القصص بشيء؛ ثم قال:
ما لقي فلان – ولم يسمه – وبكى، فقلت له: يا أبا عبد الرحمن، فما الأمر؟
قال: عليك بالقرآن”(13).
لابد أن فلانًا الذي لم يسم اسمه معروف للناس في ذلك الزمن، ولم يحتج صاحب الرؤيا، أن يحرج بذكر اسمه، خاصة وأنه مطمئن إلى أن الناس يعرفونه، ولابد أنه رأس في الحديث في زمنه.
ويأتي تعضيد الحديث في رؤيا أخرى، وكأنه رد على الذين يهاجمون الحديث وروايته؛ لأنهم في فترة من الفترات خافوا أن يزاحم القرآن، أو يختلط به، خاصة من أولئك الذين ليس عندهم الفقه الوافي بأمور الدين، واحتج الذين لا يرون رواية الحديث وكتابته، بما كان يتحرج منه الصحابة، وهم من لم يرو إلا القليل نسبة لما سجل فيما بعد. والحديث الذي يعضد الحديث يتبين من الرؤيا الآتية:
“عن أحمد الزاهد، قال:
سمعت الثقة من أصحابنا يقول:
رأيت فيما يرى النائم كأن أبا علي الزعوري يمضي في شارع الحيرة، وبيده جزء من كتاب مسلم – يعني ابن الحجاج – فقلت له:
ما فعل الله بك؟
فقال: نجوت بهذا، وأشار إلى ذلك الجزء”(14).
وقد قرَّب معرفة منطقة النزاع، و وقته، بذكره صحيح مسلم، وإذا كان الدفاع عن الحديث وحامليه، أعطي في هذه الرؤيا في حدود كتاب بعينه، فهناك رؤيا حددت الحديث نفسه، وهذا أيضًا يحدد منطقة النزاع، وما أثاره، بطريقة دقيقة إلى حد ما، والنص كما يلي:
“قال أبا يحيى (مستملي أبي همام):
رأيت أبا همام في المنام، على رأسه قناديل معلقة، فقلت: يا أبا همام، بماذا نلت هذه القناديل؟
قال: هذا بحديث الحوض، وهذا بحديث الشفاعة، وهذا بحديث كذا، وهذا بحديث كذا”(15).
وقد يستشف من النص الآتي الدفاع أيضًا عن السنة:
“حدثنا أحمد بن محمد – أبو العباس المرادي – قال:
رأيت أبا زرعة في المنام، فقلت:
يا أبا زرعة ما فعل الله بك ؟
فقال: لقيت ربي تعالى، فقال لي: يا أبا زرعة، إني أوْتَى بالطفل، فآمر به إلى الجنة، فكيف بمن حفظ السنن عن عبادي؛ تبوأ من الجنة حيث شئت”(16).
ولم يكن نصيب عبيد الله من الأحلام هذا فقط، بل هناك حلم آخر، وقف فيه أمام ربه، وجاء فيه من القول أكثر مما جاء في الحلم الأول، وأدخل الجنة معه أناس آخرون، والنص كالآتي:
“قال محمد بن وارة بن مسلم:
رأيت أبا زرعة في المنام، فقلت له:
ما حالك يا أبا زرعة؟
قال: أحمد الله على الأحوال كلها؛ إني أحضرت، فوقفت بين يدي الله تعالى، فقال لي:
يا عبيد الله، بم تذرعت في القول في عبادي؟
قلت: يا رب، إنهم خاذلو دينك.
فقال: صدقت.
ثم أتي بطاهر الحلفاني، فاستعديت إلى ربي تعالى، فضرب الحد مئة، ثم أمر به إلى الحبس، ثم قال:
ألحقوا عبيد الله بأصحابه: بأبي عبد الله، وأبي عبد الله، وأبي عبد الله سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وأحمد بن محمد بن حنبل”(17).
هذا النص صفى حقوق الناس في الدنيا، أدخل أبا زرعة الجنة، وأدخل معه فريقه من أصحاب الحديث، والأئمة، ممن عرفوا بالعلم والتقوى؛ وأقيم الحد على الحلفاني، ولا ندري هل هذا الحد تأكيد لحد قد أقيم عليه في اليقظة، ونفذ، أو أن هذا حد نفذ في الآخرة؛ لأنه لم ينفذ في الدنيا.
لقد أدت هذه الرؤيا أهدافها كاملة، فلم تترك أمرًا في ذهن الرائي يريد من الناس أن يسمعوه إلا وضعه، وخدم بهذا رأيه، والفكرة التي يريد لها أن تسود، وليس إيراد أسماء الأئمة تكريمًا لهم بالدخول في معية أبي زرعة، ولكن تأكيدًا لأبي زرعة أنه في درجتهم، وأن صنفه من طبقتهم.
ويبدأ رائي الرؤيا رؤياه كما تبدأ عادة، ثم يصب في نهايتها أفكاره، ليسوقها للناس، ويعرضها في ثوب قبول، يؤمل أن تكون بضاعة رائجة. ويطول القول عن الصيغة المعتادة، وكان غرضه أن يطول أكثر من قبل الرائي في زمنه، إن كان رأى الرؤيا حقًّا، أو علقت عليه، أو من قبل راوٍ لاحق، في زمن تال، والنص كالآتي:
“قال سليم بن منصور بن عمار:
رأيت أبي منصور في المنام، فقلت له:
ما فعل بك ربك؟
فقال: إن الرب تعالى قرَّبني، وأدناني، وقال لي: يا شيخ السوء، تدري لَم غفرت لك ؟
قال: قلت: لا، يا إلهي.
قال: إنك جلست للناس يومًا مجلسًا، فبكيتهم، فبكى فيهم عبد من عبادي، لم يبك من خشيتي قط، فغفرت له، و وهبت أهل المجلس كلهم له، و وهبتك فيمن وهبت له”(18).
ومنصور هذا واعظ، والوعاظ كانوا يأتون بالقصص يخترعونها، وكان هناك من ينتقدهم، ويشنؤهم، ويعيب عملهم، وكانوا يحتاجون إلى دفاع، وكان منصور هذا متهمًا بالتخليط، فلعل من معه في المهنة، أو من هو من المعجبين به، وضع هذا الحلم، ليدفع عن منصور التهمة، ويدفع ذلك أيضًا عن المهنة نفسها.
ورجل متهم بالتخليط، لا يكفي في تبرئته رؤيا واحدة، رآها فرد، ولكن لابد من أكثر من رؤيا تأتي من أناس آخرين، يعضد بعض الرؤى بعضًا، وهذا نص معضد، وفيه عن النص الأول بعض التفصيل:
“قال أبو جعفر محمد الصفار:
رأيت منصور بن عمار في منامي، فقلت له:
يا منصور بن عمار، ما صنع بك ربك؟
قال: لاتقل ما صنع بك ربك، ولكن قل: يا منصور، كيف نجوت؟
قال: لقيتُ ربي، فقال لي: يا منصور، أصبت فيك تخليطاً كثيرًا، غير إني وجدتك تحببني إلى خلقي. يا منصور قل لبشر بن الحارث: لو سجدت لي على الجمر ما أديت شكري”(19).
إن ما جاء في الحلم هو الجدل الذي كان قائمًا في اليقظة، وفي حياة منصور، إنه رد واضح على من انتقد طريقة منصور في الوعظ، وتخليطه فيما يقول. ورائي الرؤيا ذكي فيما ادعى أنه رآه في الحلم، فهو لم يعترف بصحة التخليط، حتى لا يشجع القصاص والواعظين فيه؛ ولكنه جعل العفو من زاوية أخرى، وهي تحبيب الواعظ الناسَ إلى ربهم، وهي حجة الواعظ في حياته وفي اليقظة، ورأيه أن الغاية تبرر الوسيلة، فالحلم قَبِل هذه الحجة الدنيوية!
ثم وَجَد الذي رأى الرؤيا أن يستفيد منها لإنهاء الجدل الذي كان قائمًا بين المتعاصرين وطرقهم، فرأى أن يُبدي الرأي عن بشر بن الحارث، وأن عمله الذي يباهي به الوعاظ من نمط منصور جدواه قليلة، فهي لا تأتي بالشكر الكافي لله – سبحانه وتعالى – على نعمه المتعددة، ولا نظن أن بشرًا ادعى ذلك، أو مر بذهنه؛ ولكن “الحالم” رأى أن هذا مفيد لتثبيت الرأي الحسن في منصور.
ويأتي “حالم” آخر، ليثبت أمر تحبيب منصور عباد الله لله، فيرى رؤيا تسير على نمط الرؤى في السؤال والجواب، وفي إيجاد تعليل ملائم، والنص هكذا:
“حدث محمد بن مفضل قال:
رأيت منصور بن عمار في المنام، فقلت:
يا أبا السري، ما فعل بك ربك ؟
قال: خيرًا.
قلت: بماذا ؟
قال: قال لي: بما كنت تحببني إلى عبادي”(20).
يبدو أن التبرير الذي يعتمد عليه منصور في تخليطه هو تحبيب الناس إلى الله؛ ولهذا اهتم أتباعه إلى تثبيت ذلك عن طريق الحلم، بعد أن شكّوا في قبوله في اليقظة.
ويبدو أن الهجوم على منصور كان قويًّا، ومتتاليًا، لهذا تكرّرت النصوص التي تحامي عنه في الحلم، علها تعدل الكفة مع ما يقال عنه في اليقظة؛ فهناك نص رابع، يرمي إلى الهدف نفسه، ويتجه في الاتجاه نفسه، ولكن في هذه المرة الدفاع ليس عن منصور نفسه في المكان الأول، وإنما عن أداة الوعظ، ويبدو أنه فائقة، فالحلم يأتي بتعضيد من النبي صلى الله عليه وسلم لمنصور، ومساعدة له في عمله الذي اختاره، وهذا يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم يبارك عمل منصور، لرضاه عما يفعل، ولهذا أمدَّه بما يقويه على أداء واجبه، تجاه خلق الله، وتحبيبهم إلى الله – سبحانه وتعالى – والنص كما يلي:
“قال منصور بن عمار: قال لي هارون:
كيف تعلمت هذا الكلام ؟
قال: قلت: يا أمير المؤمنين، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في منامي، وكأنه تفل في فيّ، وقال لي: يا منصور، قل، فأنطقت بإذن الله”(21).
ويبدو أن منصور – إن صدق الراوي – هو الذي دل محبيه، والمدافعين عنه، ومن يرى رأيه، ومن يبغض منتقديه، على أنجح طريقة دفاع، وأنجع وسيلة إقناع، وهي الحلم، والرواية عن الله – سبحانه وتعالى – وعن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهناك نص خامس عن الأحلام، وصلة منصور بها وهو هكذا:
“قال منصور:
رأيت كأني دنوت من جحر، فخرج عليَّ عشر نحلات، فلدغتني؛ فقصصتها على أبي المثنى المعبر البصري، فقال:
الجد ما تقول؟ أعطني شيئًا.
قال: إن صدقت رؤياك تصلك امرأة بعشرة آلاف، لكل نحلة ألف.
قال منصور: فقلت لأبي المثنى: من أين قلت هذا ؟
قال: لأنه ليس شيء من الخلق ينتفع ببطنه من ولد آدم إلا النساء، فإنهم ولدوا الصديقين، والأنبياء، والطير ليس فيها شيء ينتفع ببطنه إلا النحل.
فلما كان من الغد، وجهت إليَّ زبيدة بعشرة آلاف درهم”(22).
هذا الحلم قد يكون حدث، ففيه من سمات الأحلام، وتفسيره مقبول، للتعليل المنطقي الذي أدلى به المعبر؛ ولأنه جاء صادقًا في الحقيقة، إن صدقت الرواية، ترى هل لهذه الرؤيا دخل في الرؤى اللاحقة لوفاة منصور؟ وهل هي التي نبهت إلى أهمية الرؤيا، ودورها في الإقناع؟ الله أعلم.
خمسة أحلام في ترجمة رجل واحد، كان له تأثير على الناس لبلاغة وعظه، ومعرفته بأنفس الناس، وما يجلبهم وما يؤثر عليهم، مما جلب انتباه العلماء إلى طريقته، وتمحيص ما يقول ونقده؛ والنقد لابد أنه كان مرًّا أوجب كل هذا الرد المتكرر!!
ونعود للصيغ المبسطة للرؤى، وما قد يضاف إليها، مما قد يكون أحيانًا هو السبب في الحلم، إذا زيد على الهيكل العظمي المعتاد، ومن هذه الرؤى الرؤية الآتية:
“قال جرير:
رأيتُ الأعمش بعد موته في منامي، فقلت:
أبا محمد، كيف حالكم؟
قال: نجونا بالمغفرة، والحمد لله رب العالمين”(23).
وتأتي رؤيا أخرى مبسطة كالآتي:
“قال محمد بن داود الأصبهاني:
رأيت أبي، داود، في المنام، فقلت:
ما فعل الله بك ؟
قال: غفر لي، وسامحني.
قلت: غفر لك، فَممَّ سامحك ؟
قال: يا بني، الأمر عظيم، والويل كل الويل، لمن لم يسامح”(24).
هذا ابن رأى والده في النوم، فسأله الأسئلة المعتادة في مثل هذه الرؤى المعبرة، ولأنه لا يعرف عن والده إلا الخير، تساءل عن المسامحة وأسبابها؛ ونسي أن الإنسان يأثم كثيرًا في حياته، ولا يمحو هذه الآثام إلا تسامح الله، وتفضله بالغفران، ونسي أن المفروض ألا نزكي على الله أحدًا، بسبب كثرة الزلات، وقلة شكر النعم، وهي جلّى، ولا تعد ولا تحصى.
ومن الأحلام التي أضيف لها بعض الرسائل، التي أريد لها أن تثبت، وتقبل، الحلم الآتي:
“قال يحيى الفحام:
رأيت خلف بن هشام في المنام، فقلت له:
يا أبا محمد، ما فعل بك ربك؟
فقال: غفر لي، وقال لي اقرأ عليَّ القرآن.
فقرأت عليه القرآن، فما غيّر عليَّ إلاّ حرفًا واحدًا: ﴿مَّاأ أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنْتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي﴾(25).
(ويبدو أنه قرأ إني، والهمزة مكسورة، أني، والهمزة مفتوحة، وهو خطأ)”(26).
وقد يكون هناك في اليقظة قراءة أخرى، أراد رأئي الرؤيا أن يؤكد رجحان الكسر، فأتى بالحلم ليعضد وجهة نظره، وقراءته المختارة؛ أو أنه لا خلاف؛ ولكن أحب أن يرى مقدرة خلف على حفظ القرآن.
وسفيان الثوري من الذين سجل عن مريديهم ومحبيهم رؤى متعددة، كل واحدة تلمس جانبًا، يدل على صلاحه وتقواه بطريق أو آخر، وأول نص يرد في ترجمته كما يلي:
“قال أبو خالد الأحمر:
رأيت سفيان بن سعيد، بعدما مات، فقلت:
أبا عبد الله، كيف حالك؟
قال: خير حال. استرحت من غموم الدنيا، وأفضيت إلى رحمة الله – عز وجل –”(27).
الجديد في هذا النص هو الراحة من غموم الدنيا.
والنص الثاني:
“قال إبراهيم بن أعين:
رأيت الثوري في المنام – ولحيته حمراء – فقلت:
ما صنعت؟ فديتك ؟
قال: أنا مع السفرة.
قلت: وما السفرة ؟
قال: الكرام البررة(28)“(29).
والرؤيا الثالثة عن سفيان تأتي كما يلي:
“قال سعير بن الخمس:
رأيت سفيان الثوري في المنام، وهو يطير من نخلة إلى نخلة، وهو يقرأ هذه الآية:
﴿وَقَالُوْا الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِيْ صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَـٰـمِلِيْنَ﴾(30)“(31).
والرؤيا الرابعة التي تساق عن سفيان هي كما يلي:
“حدث محمد بن أبي محمد، قال:
رأى رجل في المنام أنه دخل الجنة قال:
فرأيت الحسن، وابن سيرين، وإبراهيم، وعدَّة قال: فقلت: مالي لا أرى سفيان الثوري معكم، فقد كان يذكر.
فقالوا: هيهات! ذاك فوقنا، لا نراه إلا كما نرى الكوكب الدري”(32).
وقد أضيف في هذه الرؤيا إضافة سوف نجد أنها وردت منتظمة في نوع من الأحلام، وذلك عندما يكون بين من سئل عنه من يعتقد أنه يفوق في الصلاح والطاعة والعلم أقرانه؛ ويختار له على هذا منزلة أعلى منهم، أو أكثر تميزًا.
ويرد التفضيل، و”الكوكب” في نص آخر، في رؤيا أخرى عن سفيان، رآها محمد بن موسى، ولا يبدو أنه هو المجهول في الرؤيا السابقة؛ لاختلاف مدلول الحلم ومجراه، والنص كالآتي:
“رأيت سفيان الثوري في المنام في الجنة يطير من نخلة إلى نخلة، ومن شجرة إلى شجرة، فقلت:
يا أبا عبد الله، بم نلت هذا ؟
قال: بالورع، بالورع.
قلت: فما بال علي بن عاصم ؟
قال: ذاك لا نكاد نراه إلا كما نرى الكوكب”(33).
ويبدو أن صاحب الحلم أراد أن يجعله أفضل من سفيان، ليتأكد من سقوط التهمة عنه، وما يقال من أنه أنكر عليه كثرة الخطأ والغلط، وتماديه فيه، وترجيح من يعتبره من أهل الدين والصلاح، والخير البارع، وأنه شديد التوقي، وهما رأيان متعارضان، كان لابد من أن يرجح أحدهما، وما دام هذا لم يتم بتأكيد في اليقظة، ففي الحلم عوض وغنى.
ومن بين أحلام التفضيل الرؤيا التالية:
“قال أبو جعفر السقا:
رأيت بشر بن الحارث في النوم، فقلت له:
يا أبا نصر، كيف الحال؟
قال: وقفني، فرحم شيبتي، وقال لي: “يا بشر، لو سجدتَ لي في الدنيا على الجمر ما أديتَ شكر ما حشيت قلوب عبادي عليك”. ووعدني أن يغفر لمن تبع جنازتي.
قلت: فما فعل أبو نصر التمار؟
قال: فوق الناس.
قال: قلت: وبماذا ؟
قال: بصبره على بُنَيَّاته، والفقر”(34).
في هذا الحلم تذكير بأن أي طاعة وعبادة لا تفي بشكره على نعمه، وقد حدد صاحب الحلم نعمة الله على بشر، ثم عرج، وهذا مهم، على أبي نصر التمار، فأبان أنه في منزلة أعلى، بسبب رعايته لبناته ولفقره، وفي هذا موعظة قائمة بذاتها.
ويأتي حلم آخر يجمع فيه بشر مع أبي نصر هذا، ويفضل أبو نصر على بشر، أيضًا بسبب فقره، وصبره على بناته، والنص هكذا:
“قال مؤذن بشر بن الحارث:
رأيت بشر بن الحارث في المنام، فقلت:
ما فعل الله بك ؟
قال: غفر لي.
قلت: فما فعل بأحمد بن حنبل؟
قال: غفر له.
فقلت: فما فعل بأبي نصر التمار؟
فقال: هيهاتّ ذاك في عليين.
فقلت: بماذا نال ما لم تنالاه ؟
فقال: بفقره، وصبره على بُنَيَّاته”(35).
في هذا الحلم أدخل أحمد بن حنبل حتى يكون تفضيل أبي نصر أوفى، والسبب جاء هو السبب في الحلم السابق.
ويرد تفضيل بعض الأشخاص عن بعض في المنزلة في الحلم في نص يأخذ زاوية غير المعتادة، وإن كان ينتهي بالاتجاه نفسه، والنص جاء كما يلي:
“قال عرس الخبَّاز:
لما دفن عثمان الباقلاني، رأيت في المنام بعض من هو مدفون في جوار قبره، فقلت له:
كيف فرحكم بجوار عثمان؟
قال: وأي عثمان؟ لما جيء به سمعنا قائلاً يقول: الفردوس، الفردوس، أو كما قال”(36).
يقال إن عثمان بن عيسى الباقلاني هذا، كان منقطعًا عن الخلق، ملازمًا للخلوة، ولعل هذا هو السبب في أن صاحب الرأي أعطى هذا الرأي عنه.
ويأتي التفضيل واضحًا في النص التالي، والمفضل عليه دائمًا رجل معروف بالإمامة والتقوى، كما سيأتي:
“حدَّث أحمد بن عبد الله الحفَّار، قال:
رأيت أحمد بن حنبل في النوم فقلت: يا أبا عبد الله، ما صنع الله بك ؟
قال: حباني وأعطاني، وقرَّبني وأدناني.
قال: قلت: الشيخ الزمن: علي بن الموفق، ما صنع الله به ؟
قال: الساعة تركته على زلالي بساط العرش”(37).
في الحلم يبدو أنهم يبيحون لأنفسهم قول ما لا يقال في اليقظة، فلا مناقشة، ولا نقد؛ لأنه حلم!
ويأتي سؤال الأموات في الحلم عن أموات آخرين على هذا النهج، والاختلاف يكون بمقتضى المتحدث عنه، وهنا نص يسير على نسق النصوص الأخرى، التي في هذا الاتجاه:
“قال جعفر بن بغيل المرهبي:
رأيت داود الطائي في منامي، فقلت: أبا سليمان، كيف رأيت خير الآخرة ؟
قال: رأيت خيرها كثيرًا.
قال: قلت: فماذا صرت إليه ؟
قال: صرت إلى خير، والحمد لله.
قال: قلت: فهل لك من علم بسفيان بن سعيد؟ فقد كان يحب الخير وأهله.
قال: فتبسم، وقال: رقاه الخير إلى درجة أهل الخير”(38).
ويقال عن داود هذا: إنه ممن لزم العبادة، واجتهد فيها، إلى آخر عمره.
وتأتي بعض الطرائف في الأحلام عند ذكر إكرام الله للمتوفَّى، مثل الرؤيا الآتية:
“قال عصام الحربي الزاهد:
رأيت في المنام كأني قد دخلت في درب هشام، فلقيني بشر بن الحارث، فقلت:
من أين يا أبا نصر؟
فقال: من عليين.
قلت: ما فعل أحمد بن حنبل؟
قال: تركت الساعة أحمد بن حنبل، وعبدالوهاب الورَّاق، بين يدي الله – عز وجل – يأكلان، ويشربان، ويتنعمان.
قلت: فأنت ؟
قال: علم الله – تبارك وتعالى – قلة رغبتي في الطعام فأباحني النظر إليه”(39).
الطريف في هذا الحلم أنه أخذ روح الحياة، فنقلها إلى الأموات، ولعل في الجانب الذي يخص رؤية الله – سبحانه وتعالى – وما فيها من اختلاف جاء في تلك الفترة، وهو أمر لايزال محل نزاع بين بعض المذاهب، دخل في الحلم كله.
وعصام هذا له رؤيا أخرى، فيها بعض الاختلاف عن السابقة، مما يعطي مدلولاً إضافيًّا، ونصها كالآتي:
“عن عصام الحربي قال:
رأيت في المنام كأني دخلت درب الشام، فلقيني بشر الحارث، فقلت:
من أين يا أبا نصر؟
فقال: من عليين.
قلت: ما فعل أحمد بن حنبل؟
قال: تركت الساعة أحمد بن حنبل، وعبدالوهاب الورَّاق بين يدي الله تعالى يأكلان، ويشربان، ويتنعمان.
قلت: فأنت ؟.
قال: علم الله قلة رغبتي في الطعام، فأباحني النظر إليه”(40).
ولعل التركيز على الطعام لما قد يكون عرف عنهما من نفسهما في الدنيا.
ونص آخر عن حلم يسير على النمط التقليدي، وهو ما لاحظناه من أول الأمر، مع الزيادات التي تُدخل، حتى تلائم الموقف، وتخدم الغرض، الذي أتي بالحلم من أجله، والنص هكذا:
“قال علي بن الحسين العكبري:
سمعت عبد القادر بن محمد بن يوسف يقول:
رأيت أبا الحسن بن الحماني المقرئ في المنام، فقلت:
ما فعل الله بك ؟
قال: أنا في الجنة.
قلت: وأبي ؟
قال: وأبوك معنا.
قلت: وجدُّنا، يعني أبا الحسين السوسنجردي.
فقال: في الحظيرة.
قلت: حظيرة القدس؟
قال: نعم، أو كما قال”(41).
ونص آخر فيه البدء المعتاد مكررًا عن أكثر من واحد، وفيه جعل الموتى في طبقات في الجنة، والنص كما يلي:
“حدث ابن رجاء القاضي، قال:
سمعتُ محمويه – وكنا نعده من الأبدال – قال:
رأيت محمد بن الحسن في المنام، فقلت:
يا أبا عبد الله إلى ما صرت ؟
قال: قال لي: إني لم أجعلك وعاء للعلم، وأنا أريد أن أعذبك.
قلت: فما فعل أبو يوسف ؟
قال: فوقي.
قلت: فما فعل أبو حنيفة ؟
قال: فوق أبي يوسف بطبقات”(42).
ثلاثة جمعوا في رؤيا واحدة، والأسلوب هو الأسلوب، كأن هؤلاء الحالمين تخرجوا من مدرسة واحدة، ومن فصل واحد، وحفظوا معادلة واحدة، اسمها: سؤال الأموات عما آلوا إليه بعد مماتهم!
ويدخل جزء من القصد، والهدف، في تغيير الصورة عن الجنيد، التي قد تكون فئة من الناس قد أخذتها عنه، ويأتي القول لهذا قويًّا بعد أن مرّت المقدمة التي لابد منها كالمعتاد، والنص يروى هكذا:
“قال أبوبكر أحمد بن محمد بن سهل الصوفي بمكة:
رأيت أبا العباس بن مسروق في المنام، فقلت له:
ما فعل الله بك ؟
فقال: غفر لي.
فقلت: ما فعل الجنيد ؟
فقال: في القدس”(43).
* * *
الهوامش:
- البصائر: 6/141.
- تاريخ بغداد، ترجمة: عبد الله بن المبارك، 10/168.
- سورة النساء، الآية: 69.
- تاريخ بغداد، ترجمة: عبد الله بن المبارك، 10/169.
- البصائر: 1/141.
- سورة النساء، الآية: 69.
- تاريخ بغداد، ترجمة: عبد الله بن المبارك، 10/169.
- تاريخ بغداد، ترجمة: محمد بن يزيد الكلاعي الواسطي، 3/373.
- تاريخ بغداد، ترجمة: محمد حميد الرازي، 2/264.
- تاريخ بغداد، ترجمة: يوسف بن حسين الرازي، 3/318.
- تاريخ بغداد، ترجمة: سليمان بن داود الشاذكوني، 9/48.
- تاريخ بغداد، ترجمة: صالح بن عبد القدوس، 9/305.
- تاريخ بغداد، ترجمة: جفعر بن محمد بن عيسى بن نوح، 7/180.
- تاريخ بغداد، ترجمة: صالح بن الحجاج بن مسلم، 13/101.
- تاريخ بغداد، ترجمة: الوليد بن شجاع السكوني، أبي همام، 13/476.
- تاريخ بغداد، ترجمة: عبيد الله بن عبد الكريم أبو زرعة، 10/336.
- تاريخ بغداد، ترجمة: عبيد الله بن عبد الكريم أبو زرعة، 10/336.
- تاريخ بغداد، ترجمة: منصور بن عمار السلمي الواعظ، 13/79.
- تاريخ بغداد، ترجمة: منصور بين عمار السلمي الواعظ، 13/78.
- تاريخ بغداد، ترجمة: منصور بن عمار السلمي الواعظ، 13/79.
- تاريخ بغداد، ترجمة: منصور بن عمار السلمي الواعظ، 13/74.
- تاريخ بغداد، ترجمة: منصور بن عمار بن جابر السلمي، 13/74.
- تاريخ بغداد، ترجمة: سليمان بن مهران الأعمش، 9/13.
- تاريخ بغداد، ترجمة: داود بن علي بن خلف الأصبهاني، 8/375.
- سورة إبراهيم، الآية: 22.
- تاريخ بغداد، ترجمة: خلف بن هشام بن محمد البزار، 8/327.
- تاريخ بغداد، ترجمة: سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، 9/173.
- مشيرًا إلى الآيتين الكريمتين في سورة عبس، 15، 16 ﴿بأيدي سَفَرَةٍ. كِرامٍ بَرَرَةٍ﴾.
- تاريخ بغداد، ترجمة: سفيان الثوري، 9/173.
- سورة الزمر، الآية: 74.
- تاريخ بغداد، ترجمة: سفيان الثوري، 9/173.
- تاريخ بغداد، ترجمة: سفيان الثوري، 9/174.
- تاريخ بغداد، ترجمة: علي بن عاصم الصديقي، 11/458.
- تاريخ بغداد، ترجمة: عبد الملك بن عبد العزيز أبو نصر التمار، 10/422.
- تاريخ بغداد، ترجمة: عبد الملك التمار، 10/422.
- تاريخ بغداد، ترجمة: عثمان بن عيسى وأبو عمرو الباقلاني، 11/313.
- تاريخ بغداد، ترجمة: علي بن موفق العابد، 12/112.
- تاريخ بغداد، ترجمة: داود بن نصير الطائي، 8/355.
- تاريخ بغداد، ترجمة: عصام الحربي، 17/263.
- تاريخ بغداد، ترجمة: عبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق، 11/28.
- تاريخ بغداد، ترجمة: أحمد بن عبد الله السوسنجري، 4/237.
- تاريخ بغداد، ترجمة: محمد بن الحسن، صاحب أبي حنيفة، 2/182.
- تاريخ بغداد، ترجمة: محمد بن مسروق الصوفي، 5/103.
* * *
* *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1431 هـ = أغسطس – أكتوبر 2010م ، العدد :9-10 ، السنة : 34