إلى رحمة الله
بقلم: الأستاذ عبد الرؤوف خان الغزنوي الأفغاني(*)
في الساعة الثانية والعشر دقائق من ليلة الخميس 19 من شهر صفر سنة 1431هـ الموافق 4 من شهر فبراير عام 2010م انتقل إلى رحمة الله تعالى المحدّثُ الفائق والعالم الكبير، رئيس هيئة التدريس وشيخ الحديث بالجامعة الإسلامية دارالعلو/ ديوبند (الهند) فضيلة الشيخ/ نصير أحمد خان في منزله في مدينة “ديوبند” عن عمر يناهز 96 عامًا بالتقويم الهجري و 94 عامًا بالتقويم الميلادي، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
انتشر نبأ وفاة شيخنا الراحل عبر وسائل الاتصال الحديثة في الهند وباكستان وبنجلاديش بل في مشارق الأرض ومغاربها انتشارًا سريعًا بين تلاميذه ومحبّيه ومن يتعلق بمقرّ عمل الشيخ والمركز العلمي الشامخ الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند الملقّبة بـ “أزهر الهند” فكم من تلميذ له دعا له عن ظهر الغيب وعن أعماق قلبه بالمغفرة، وكم من محبّ له استغفر له ودعا الله العليّ القدير أن يُسكنه بحبوحة جنانه، وكم من عين تحدّرت منها الدموع بفراق هذا العالم العطوف راضية بقضاء الله وقدره، وكم من اجتماع انعقد لإلقاء الضوء على حياة هذا الشيخ المبجّل الفقيد ولإهداء المثوبة له، وهذه هي ميزة العلماء الأتقياء أن الله – عزّ وجلّ – يقدِّر لهم القبول في قلوب الناس، فيستغفرون لهم، ويدعون لهم عن ظهر الغيب، ويذكرونهم بالخير.
بعد انتشار نبأ وفاة الشيخ العلاّمة توافد عدد كبير من الناس من القرى والمدن القريبة لمدينة “ديوبند” فتقاطرت الجموع واحتشدت لتوديع هذا المحدّث الجليل، وصُلّي عليه بعد صلاة الظهر في ساحة الجامعة المسماة بـ”إحاطة مولسري” بإمامة فضيلة الشيخ العالم الورع المقرئ/ محمد عثمان المنصور فوري الأستاذ بالجامعة، ووُرّيَ جثمانُه في المقبرة القاسمية وسط آلاف من العلماء والطلاب وعامة المسلمين بجوار شقيقه فضيلة الشيخ/ بشير أحمد خان – رحمه الله – وماتلك الجموع المتوافدة إلا خير برهان على علوّ مقام شيخنا الراحل وعلى مكانته الفائقة في قلوب خاصّة المسلمين وعامّتهم.
مولد الشيخ الراحل ونسبه ونشأته
وُلد فضيلة الشيخ في 21/3/1335هـ الموافق 23/12/1916م في موضع “بسي” من مديرية “بلند شهر” بولاية “أترابراديش” الهندية. والجدير بالذكر أن عام ولادته المكتوب في “تاريخ دارالعلوم ديوبند” بالأردية وفي سجلاّت الجامعة هو عام 1337هـ الموافق 1918م، وقد مشى على ذلك من كتب عن حياته بعد رحيله – رحمه الله – حتى كُتّاب مجلّة “الداعي” العربية الشهرية ومجلة “دارالعلوم” الأردية الشهرية اللتين تصدران عن الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند؛ ولكني قد سمعت الشيخ الراحل في حياته يقول: “إن عام ولادتي هو 1335هـ الموافق 1916م وإن العام المكتوب في “تاريخ دارالعلوم ديوبند” وفي سجلاّت دارالعلوم فيه سهو”، ثم اتصلت بعد وفاته – رحمه الله – قبل كتابة هذه السطور بنجله الأخ/ ضمير أحمد خان المكرم – حفظه الله – لأتأكد من ذلك، فصدّق ما كنت أتذكر عن شيخنا قائلاً: إن عام ولادة والدنا هو 1335هـ الموافق 1916م باليقين.
كان فضيلة الشيخ/ ينتمي إلى قبيلة “بازيد خيل داود زئي” الأفغانية، فهو الشيخ/ نصير أحمد خان بن عبد الشكور خان بن حقداد خان بن بنياد خان بن سردار خان بن عمر خان بن غياث خان بن شهباز خان بن سليم خان بن ديوان دولت خان بن الشيخ داود خان بن الشيخ عيسى خان بازيد خيل داود زئي. ولعل جده شهباز خان أول من نزح إلى الهند واستوطن قرية “بسي” من مديرية “بلند شهر”.
كان أبوه المكرّم/ عبد الشكور خان ضابطاً في الجيش الإنجليزي و كان يملك أراضي واسعة، وكان متمسّكا بالدّين وغيورًا على الإسلام، فلما أنشأ شيخ الهند العلاّمة/ محمود حسن الديوبندي حركة صيانة الخلافة العثمانية وأفتى هو وغيره من العلماء أن موالاة الإنجليز والتعاون معهم والانضمام إلى جيشهم حرام، استقال – عبد الشكور خان المحترم – من وظيفته، واشتغل بالزراعة والعمل في أراضيه، وكانت له مودّة وصلة بالعلماء والصالحين فكان يستفيد منهم ويكرمهم، وأما أمّه الكريمة فكانت عالمة تقوم في منزلها بتعليم أبناء وبنات المسلمين العقيدةَ والفقهَ وأحكامَ الدين المهمّة، كما أن شقيقه فضيلة الشيخ/ بشير أحمد خان – رحمه الله – كان عالمًا جليلاً يقوم بالتدريس في مدرسة “منبع العلوم” بمدينة “كلاؤتي” ثمّ عيّن مدرّسًا ونائبًا للمدير في الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند، وظلّ أستاذاً فيها إلى أن وافاه الأجل المحتوم عام 1966م.
تعلّمه ودراسته
حفظ القرآن الكريم ودرس الكتب الفارسيّة الابتدائية وشيئًا من كتب الفنون المتنوّعة و”مشكاة المصابيح” في مدرسة “منبع العلوم” ببلدة “كلاؤتي” في مديرية “بلند شهر” حيث كان يدرّس أخوه الكبير فضيلة الشيخ/ بشير أحمد خان – رحمه الله – ولما تمّ تعيين أخيه الكبير هذا أستاذًا في الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند ارتحل – شيخنا الراحل – معه إلى الجامعة والتحق بها، ودرس كتب الحديث على مشايخها آنذاك وتخرّج فيها عام 1362هـ، وكان شيخ الإسلام السيد/ حسين أحمد المدني رئيس هيئة التدريس وشيخ الحديث بالجامعة في السجن تلك السنة، فلم يتيسر له أن يدرس عليه الجامعَ الصحيحَ للإمام البخاري والسنن للإمام الترمذي مع رغبته القوية في ذلك، فاشتغل بدراسة عدد من كتب الفنون المختلفة على كبار أهل العلم في الجامعة عام 1363هـ ولما أُطلِق سراح شيخ الإسلام السيد/ حسين أحمد المدني عن السجن عام 1364هـ درس عليه صحيحَ البخاري وجامعَ الترمذي مرّةً ثانية، رغبةً في الاستزادة من العلم وحبًّا للتلمَذَة عليه.
ومن أهم مشايخه في “جامعة ديوبند” شيخ الإسلام السيد/ حسين أحمد المدني، وشيخ الأدب والفقه محمد إعزاز علي الأمروهوي، والشيخ الحافظ المقرئ/ عبد الرحمن الأمروهوي، وأخوه فضيلة الشيخ/ بشير أحمد خان، وفضيلة الشيخ / عبد الحق أكوره ختك، وفضيلة الشيخ القاضي/ شمس الدين غوجرانواله، وفضيلة الشيخ المقرئ/ حفظ الرحمن برتاب غري، والشيخ الطيب/ محمد عمر الديوبندي – رحمهم الله رحمة واسعة –.
حياته التدريسية وخدماته الدينية
بعد إنهاء الدراسة قدّر الله له أن يقوم بخدمة التدريس وتربية الطلاب في الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند التي استقى من مناهلها العلميّة وتربّي في ساحتها على أمثال شيخ الإسلام السيد/ حسين أحمد المدني، فتمّ تعيينه مدرّسًا فيها عام 1365هـ، فدرّس المقرّرات الدراسيةَ من البداية بكل طمأنينة ونجاح وانهماك، حتى وصل بالتدرّج إلى منصب شيخ الحديث ورئيس هيئة التدريس، وتحتوي مدته التدريسيّة في الجامعة على نحو 65 عامًا، وقلّما تيسر لأحد من علماء جامعة ديوبند خدمتُها نحو هذه المدة الطويلة، درّس سماحة الشيخ خلال هذه المدة الطويلة الصرفَ والنحوَ والمعانيَ والأدبَ والفقهَ والهيئةَ والفلسفةَ والمنطقَ والتفسيرَ والحديثَ بدقة ونجاح.
ونظرًا إلى أهليته في الشؤون الإدارية وموهبته الطبيعيّة ولاّه المجلسُ الاستشاري للجامعة منصبَ نائب رئيس الجامعة عام 1391هـ كما عيّنه شيخًا للحديث بعد وفاة فضيلة الشيخ/ شريف الحسن – رحمه الله – عام 1397هـ، وعيّنه رئيسًا لهيئة التدريس عام 1412هـ بعد وفاة فضيلة الشيخ/ معراج الحق – رحمه الله – ولم يزل رئيسًا لهيئة التدريس وشيخًا للحديث حتى اعتذر هو بنفسه عن التدريس ومنصب رئاسة هيئة التدريس عام 1429هـ لِكبر سنّه وشيخوخته حيث ازداد عمره عن تسعين سنة.
لقائي معه وصلتي به
التحقت بتوفيق الله عزّ وجلّ بقسم الحديث المسمّى بـ”دورة الحديث” بالجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند عام 1401هـ، وكان المقرّر عند شيخنا الراحل تدريس النصف الأول من صحيح البخاري، فبعد أن تمّت إجراءات الالتحاق وأُعلِن عن بداية الدراسة للعام الدراسيّ الجديد، وجلستُ أنا وزملائي في قاعة الحديث ننتظر افتتاحَ صحيح البخاري رأيت عالِمَين جليلَيْن يتلألؤ وجهاهما تلألؤَ القمر ليلة البدر يمشيان بتؤدة ووقار متجهَين إلى دارالحديث أحدهما خلف الآخر، فأولهما هو سماحة الشيخ حكيم الإسلام/ محمد طبيب القاسمي مدير الجامعة آنذاك وثانيهما شخينا المحدّث/ نصير أحمد خان.
دخل حكيم الإسلام الشيخ محمد طيب دارَالحديث اوّلاً وجلس على السرير الخشبي المتواضع الموضوع أمام الطلاب لجلوس المدرّس، ثم دخل سماحة الشيخ/ نصير أحمد خان وجلس بجنبه، فيا لروعة المنظر ويا لهدوء المشهد! فالجامعة هي جامعة ديوبند العريقة! ودارالحديث هي دار حديثها التي خرّجت آلافا من العلماء الأفاضل! ومجلس التدريس هو المجلس الذي جلس فيه شيخ الهند العلامة/ محمود حسن الديوبندي، والمحدّث الكبير العلاّمة/ محمد أنور شاه الكشميري، وشيخ الإسلام السيد/ حسين أحمد المدني – رحمهم الله رحمة واسعة – والمناسبة هي افتتاح صحيح البخاري الذي هو أصح الكتب بعد كتاب الله! والذي سوف يقوم بافتتاحه هو حكيم الإسلام الشيخ/ محمد طيب القاسمي! والذي يقوم بتدريسه هو فضيلة الشيخ/ نصير أحمد خان الجالس بجنبه!
تحدّث سماحة الشيخ حكيم الإسلام/ محمد طيب القاسمي بعد الخطبة المأثورة حول أهمية الحديث وميزة صحيح البخاري بين كتب الحديث، وميزة علماء جامعة ديوبند في تدريس كتب الحديث، وحرّض الطلاب على التمسك بأهداب الشريعة البيضاء والاجتهاد في الدروس وأن يكونوا مخلصين في أعمالهم في ضوء الحديث الأول من صحيح البخاري “إنما الأعمال بالنيات الحديث”، وأوضح أن المدرّس الفائق فضيلة الشيخ/ نصير أحمد خان هو الذي سيقوم بتدريس النصف الأول من صحيح البخاري بإذن الله وتوفيقه، وانتهى هذا الاجتماع بالدعاء والتضرع إلى الله عزّ وجلّ.
بدأ سماحة الشيخ/ نصير أحمد خان يدرّسنا صحيح البخاري من اليوم التالي إلى انتهاء العام الدراسي 1401-1402هـ، ومن حسن حظي أنني كنت معيّنًا من بين الزملاء لقراءة نصّ الحديث أمامه إلا أحيانًا. كان الشيخ – رحمه الله – مدرسًا ناجحًا، ومحدثًا وقورًا، وفصيحًا بليغًا، كان يبكي كثيرًا عند شرح أحاديث تتعلق بأحوال القبر والآخرة والجنة والنار، كما كان يبكي عند ما يذكر وقائع مشايخه ومشايخ الجامعة لمناسبة وأخرى، وخاصة عندما كان يذكر شيخه شيخ الإسلام السيد/ حسين أحمد المدني ومآثره الباهرة يغلب عليه البكاء، فتتوجع قلوبُ الطلاب رقّة، ثم يُطبق الصمت لمدّة يسيرة على الجميع كأن السكينة تنزل عليهم والرحمة تغشاهم.
من هنا أُشربتُ محبّةَ الشيخ المحدّث، ورَسَخَتْ في قلبي قواعدُ مودّته، فكنت أذهب من حين لآخر بعد صلاة العصر لزيارته والاستماع إلى حديثه المليئ بالعطف والحكمة، والاستفادة العلمية في المسائل التي تشقّ علي، فكلما دخلتُ ساحةَ بيته حيث يزوره الزائرون تلقّاني بوجه منطلق، وارتاح لي بأُنسه، وأقبل عليّ بابتسامه وانبساطه. وحيث أنني كنت مسافرًا بعيدًا من الأقارب والوالدَين، فكنت أشعر أحيانًا بألم الفراق، وكان يُقلقني تذكُّر الوالدين والإخوة والأقارب، فأزور سماحةَ الشيخ في وقت مناسب فينتهي قلقي بزيارته وبما أرىٰ من عطفه الأبوي، فأرجع عنه وكأنني قد سُعدت بزيارة الوالدين والأقارب وأحبّ أفراد أسرتي إليّ.
بعد تخرّجي في قسم الحديث التحقتُ بقسم التخصص في الإفتاء في العام الدراسي 1402-1403هـ، فكانت عندي فرصة في الصباح قبل الدوام لأن أستفيد من فضيلة الشيخ في علم الهيئة، وقد كان للشيخ به شغف بالغ، فالتمستُ منه بأدب وخضوع أن يخصّص لي وقتًا لتدريس علم الهيئة، فاستجاب لِطلبي برحابة الصدر وطلاقة الوجه، فبدأت أدرس وحيدًا عنده في الصباح في منزله “التصريح” في علم الهيئة، وأستفيد منه في “بست باب” و “شرح الجغميني”.
قدّر الله لي أني عُيّنتُ مدرّسًا في الجامعة في شهر ربيع الأول عام 1403هـ، فلم أستطع أن أواصل دراسةَ علم الهيئة عنده بعد ذلك، ولكن صلتي تأكّدت به، واستمرّ جلوسي إليه، وتكرّرت زياراتي إليه إلى عام 1412هـ، ولمّا قدّر الله لي أن أنتقل من “جامعة ديوبند” إلى مدينة “كراتشي/ باكستان” لم يتيسّر لي بعد ذلك لقاؤه إلاّ أني كنت – بتوفيق الله – على اتصال به باستمرار عن طريق إرسال الرسائل وعن طريق الاتصال الهاتفي إلى قبيل وفاته – رحمه الله – .
سنده في الحديث
قرأ الشيخ الراحل صحيحَ البخاري أولاً على سماحة الشيخ الفقيه/ محمد إعزاز علي الأمروهوي إذ كان شيخ الإسلام السيد/ حسين أحمد المدني – رحمه الله – في السجن، ثم لمّا أُطلِق شيخ الإسلام قرأ عليه صحيح البخاري وجامع الترمذي مرة ثانية، وهذان الشيخان الجليلان كلاهما يرويان عن شيخ الهند/ محمود حسن الديوبندي عن حجة الإسلام/ محمد قاسم النانوتوي عن الشيخ/ عبد الغني المجدّدي عن الشيخ/ محمد إسحاق الدهلوي عن الشيخ/ عبد العزيز الدهلوي عن مسند الهند الإمام الشاه ولي الله الدهلوي، وهذا السند معروف وحاصل لكل من قرأ على شيخ الإسلام السيد/ حسين أحمد المدني.
ولشيخنا الراحل ميزة أخرى وسند عال آخر؛ فإن له إجازةً عن الشيخ الفاضل الحافظ المقرئ/ عبد الرحمان الأمروهوي، وهو يروي عن الشيخ العلام/ محمد قاسم النانوتوي وعن الشيخ الزاهد العلامة/ فضل الرحمان الكنج مراد آبادي. فأما الشيخ/ محمد قاسم النانوتوي فيروي عن الشيخ/ عبد الغني المجدّدي عن الشيخ/ محمد إسحاق الدهلوي كما سبق. وأما الشيخ/ فضل الرحمان الكنج مراد آبادي فسنده عال إذ هو يروي من جانب عن الشيخ/ محمد إسحاق الدهلوي وعن الشيخ/ إسماعيل الشهيد الدهلوي، وهما يرويان عن الشيخ/ عبد العزيز الدهلوي والشيخ/ رفيع الدين الدهلوي عن أبيهما الشيخ/ ولي الله الدهلوي، ومن جانب آخر يروي الشيخ/ فضل الرحمان الكنج مراد آبادي مباشرة عن الشيخ/ عبد العزيز الدهلوي عن أبيه الشيخ/ ولي الله الدهلوي، وهذا الأخير هو أعلى أسانيد الشيخ الراحل الذي يمتاز به عن كثير من معاصريه، وقد قرأتُ عليه – ولله الحمد – النصفَ الأول من صحيح البخاري وأجازني بجميع مروياته وأسانيده، وإليك هذا السند الأخير العالي جدًّا بالتفصيل: فضيلة الشيخ/ نصير أحمد خان عن الشيخ/ عبد الرحمان الأمروهوي عن الشيخ/ فضل الرحمان الكنج مراد آبادي عن الشيخ/ عبد العزيز الدهلوي عن الشيخ/ الشاه ولي الله الدهلوي – رحمهم الله رحمةً واسعةً – والسند بعد ذلك معروف ومطبوع.
خُلقه و ورعه وتقواه
كان سماحة الشيخ/ نصير أحمد خان – رحمه الله – صاحبَ خُلق جميل، وتواضع جمّ، وقورًا في المشي والتكلّم، تلوح على وجهه أمارات الورع والتقى، وتشرق على جبينه أنوار العبادة والمجاهدة، كان جميلاً وسيمًا، مربوع القامة مائلاً إلى الطول، فصيحًا بليغًا، جميل الملبس، نظيف الأثواب في غير تكلف وإسراف، يلبس العمامةَ في بعض الأحيان ويلفها على رأسه بطراز أفغاني فتزيده وقارًا وهيبةً، كثير الإكرام للضيوف والزائرين، عظيم الرفق بأصحابه وتلاميذه، قد أجهد قواه وأرهق نفسه في المطالعة والعبادة والتلاوة، يتجافى جنبه عن المضجع في ثلث الليل الأخير متهجّدًا وتاليًا لكتاب الله، كان حافظاً لكتاب الله متقنًا له وكثيرَ التلاوة له، كما كان محبّا لكتب الأحاديث وخاصة للجامع الصحيح للإمام البخاري، فقد كان يتلو منه جزءًا كاملاً يوميًّا، وكان يبكّر يوم الجمعة في الذهاب إلى المسجد فيصلّى صلاة التسبيح قبل صلاة الجمعة، لايتكلم إلا فيما يعنيه وفيما يتصل بالعلم والدين، مجالسه مجالس علم ووقار وإفادة، كان كثير الدمعة كثير البكاء.
أقوال كبار أهل العلم في شأنه
يقول فضيلة الشيخ الفقيه المحدّث/ سعيد أحمد البالن بوري رئيس هيئة التدريس وشيخ الحديث في جامعة ديوبند: قرأت على فضيلة الشيخ/ نصير أحمد خان تفسيرَ الجلالين والفوزَ الكبير في أصول التفسير، كان فصيحًا وبليغًا، مدرسًا ناجحًا، وورعًا تقيًّا، محبّبًا إلى الطلاب. ويبدي فضيلة الشيخ المحدّث/ عبد الحق الأعظمي أستاذ الحديث النبوي بالجامعة رأيه فيه قائلاً: كان فضيلة الشيخ الراحل يراعي حقوق الله وحقوق عباده، لايؤذي أحدًا، وكان ذا تواضع جمّ. ويقول فضيلة الشيخ السيد/ أرشد المدني أستاذ الحديث النبوي في جامعة ديوبند ورئيس جمعية علماء الهند: درستُ عند الشيخ/ نصير أحمد خان – رحمه الله – “شرح العقائد” و”المسامرة” و”المقامات الحريرية” فكان درسه صافيًا عما لا يتعلق بالفن والكتاب، وكانت له مقدرة تامّة على إفهام الطلاب بشكل أحسن، ويُنهي الموادّ الدراسيّة دائمًا في الوقت المحدّد. ويقول الشيخ العلاّمة/ قمر الدين أستاذ الحديث النبوي بالجامعة: كان أستاذي فضيلة الشيخ/ نصير أحمد خان يمتاز بحسن الخلق والتقوى والتواضع والاعتدال، درستُ عنده “الحسامي” في أصول الفقه، ومن تواضعه أنه رآني ذات مرّة وأنا أحمل في يدي البقول من السوق فقال: أعطني إياها حتى أُوصِلها إلى منزلك. وأبدى فضيلة الشيخ الفطن الذكي/ رئاسة علي البجنوري أستاذ الحديث النبوي بالجامعة رأيه في شيخنا الراحل بعد ما ذكر حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير الناس من طال عمره وحسن عمله (رواه الترمذي وقال حديث حسن): إن شيخنا الراحل مصداق واضح لهذا الحديث، فقد خدمَ “الجامعةَ الإسلامية دارالعلوم ديوبند”. ما يقارب 65 عامًا عن طريق التدريس وتربية الطلاب والقيام بالأمور الإدارية ورئاسة التدريس، سُعدتُ بدراسة “شرح الكافية لملاّ عبد الرحمان الجامي” عنده، كان يتميز بحسن الخلق واختيار الموقف المعتدل، ولذلك قد اختار في أزمة دارالعلوم الماضية موقفًا مناسبًا عدلاً ناجحًا. وقال عنه الشيخ/ حبيب الرحمان الأعظمي أستاذ الحديث النبوي بالجامعة ورئيس تحرير مجلة “دارالعلوم” الأردية: ميزة الشيخ التي لايشاركه فيها أحد في تاريخ جامعة ديوبند الطويل المحتوي على نحو قرن ونصف قرن أنه بدأ التدريس من الرسالة الصغيرة “الميزان والمنشعب” وتدرّج في التدريس حتى أنهاه على أصح الكتاب بعد كتاب الله أعني صحيح البخاري، إذا رأيتَه في جمال هيئته وسيرته حسبتَ كأن الملك نزل من السماء. وقال عنه الشيخ/ محمد ساجد القاسمي أستاذ الأدب العربي في الجامعة: أكبر مزاياه وأعظمها في نظري هو قناعتُه وبُعده عن المال والمادّة، ونأي الجانب عن كل ما يسيء إلى الناس، واحتفاظه بحياته الروتينية التي لم يحد عنها قيد أنملة مدى عمره. وقال عنه شيخ الإسلام في باكستان فضيلة الشيخ المحدّث الشهير/ محمد تقي العثماني: لمّا كنت طالبًا سافرت من “كراتشي” إلى مدينة “ديوبند” مع والدتي فبقيت مدة في مدينة ديوبند واغتمنت الفرصة وشاركت في دروس الشيخ العلاّمة/ نصير أحمد خان في جامعة ديوبند، فاستفدت منه في “المقامات الحريرية” و”شرح الكافية لعبد الرحمن الجامي”، وجدته مدرسًا ناجحًا، ومتمتعًا بحسن الخلق والتواضع، وقادرًا على إفهام الطلاب بطريق سهل.
خَلَفه وذووه
خلّف سماحةُ الشيخ/ نصير أحمد خان خمسةَ أبناء الأخ/ ضمير أحمد خان والأخ/ عارف أمان، والأخ/ عزيز أحمد خان، والأخ/ شكيل أحمد خان، والأخ/ عقيل أحمد خان، وخلّف بنتين وحَفَدة كما خلّف ألافاً من تلاميذه المنتشرين في الهند وخارجها ومن تعلق به واستفاد منه استفادة علمية ودينية وأَحبَّه في الله.
فالقلب يحزن والعين تدمع ولا نقول إلا ما يرضي به ربنا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أكرم نزل شيخنا، واجعل قبره روضة من رياض الجنة، وتقبل منه أعماله الصالحة الطويلة، وأسكنه فسيح جنتك، ويسّر حسابه، واجعله من عبادك المقربين، وألهم ذويه وأهلَه ومن يتعلق به ويحبه فيك ولاسيما أبناءه الكرام وبنتيه الصبرَ والسلوان، إنك بالإجابة جدير، ونعم المولى ونعم النصير.
(*) أستاذ سابقًا بالجامعة الإسلامية دارالعلوم ديوبند، الهند وأستاذ حاليًّا بجامعة العلوم الإسلامية كراتشي، باكستان.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1431 هـ = أغسطس – أكتوبر 2010م ، العدد :9-10 ، السنة : 34