دراسات إسلامية
بقلم : د. محمد رجب البيومي
كان ركب الحجيج يستقلّ إلى المدينة، مستبشرًا بزيارة خاتم النبوة، وسيد المصلحين الهادين، حتى إذا جاء الربذة سمع صارخةً تقول: أعينونا على دفن قاضي القضاة يحيى بن أكثم، ولم يكن يحيى مجهولَ المكانة في العالم الإسلامي؛ فقد طار اسمُه مشرقًا ومغربًا منذ وُلِّي زمامَ الأمور في عهد المأمون وزيرًا وقاضيًا للقضاة فأخذت الناسَ دهشةٌ ملكت عليهم نفوسَهم، ونزل الراكبون حائرين يتساءلون، وما ليحيى بن أكثم والربذة! وكيف يحلها وليس معه غير جارية وابن؟ وأين بقية جاهه وماله، وقد قيل إن المأمون عزله لكثرة ما جمع من العقار والذهب؟ أين ذلك كله؟
قال قائل: هيَّا نُساعد على المكرمة، ثم نتساءل:
وتهيأ القوم، فبحثوا عما يلزم، وأعدوا المرقد الأخير، وقال بعضهم: نحن على استعداد أن نحمله إلى بغداد ليدفن مع ذويه؛ ولكن محمدًا ولد يحيى، قال: لقد كان راجعًا إلى بغداد بعد أن لازم مكة دهرًا، إذ دعاه أمير المؤمنين المتوكل فلم يشأ أن يتلكأ، كيلا يظن به عدم الرضا والمروق، ولما أحس بوطأة المرض أوصى بأن يُدفن حيث جاءه الأجل، وقد أتاه اليقين في (الربذة) ليموت غريبًا! ثم تقاطرت الدموع من عينه.
ولكن بعض السامعين صاح به: لماذا تبكي يا محمد، إن أباك جارٌ لأبي ذر الغفاري صاحب رسول الله؛ فقد نفاه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه إلى الربذة فمات غريبًا، ولم تكن معه غير جارية صغيرة، صاحت بالناس: هيّا فادفنوا أبا ذر؛ فدُفن هنا، أليس أبوك يرضى جوار أبي ذر؟
قال محمــد: لقـد هونت ما بي! رحم الله أبا ذر، و رحم الله أبي.
وكأن شاغل الموت قد أذهل الناس عن مسيرهم، فصمموا أن يمكثوا بالربذة حتى تغيب الشمس، فالحر شديد، والوقت متسع، ولم يكن لهم حديث إلا سيرة يحيى بن أكثم قاضي القضاة ببغداد، إذ طلبوا من محمد ولده أن يقص عليهم ما كان من شأنه، فغلبته الدموعُ، ولم يقل شيئًا، فانبرى كهلان وقوران يخففان عن النّجل المفجوع مصابَه، ويقولان له: نحن أدري بمواقف أبيك وسيسمع القوم ما يرضيك ؟
قال الجميع: إذن فتحدّثا؛ لأن الذكرى عزاء، وفي حياة يحيى عبرة للمعتبرين .
قال أحدهما، واسمه نصر بن عمرو: إن بعض المغرضين من المعتزلة قد شوَّهوا سيرة قاضي القضاة عن عمد، فقد كان السُّني الأوحد في بلاد المأمون يكافح ثمامة بن الأشرس، وأحمد بن أبي داؤد، ومن عرف رغبة المأمون في نصرة الاعتزال، فآثر رضاه، وتحمس لكل ما يحب، وإن جلب الفرقة وعاد بالنكال .
لقد قال القوم بخلق القرآن، وماتت أرواح، وضُرِبت جلود، سُجن شيوخ وشباب، وتعرّض الفقهاء من أهل السنة لامتحان رهيب، وما خبر الإمام أحمد بن حنبل ببعيد! وكان من المنتظر أن يداري يحيى بن أكثم بعض آرائه كيلا تعصف به العاصفة في محنة قضت على الحرية، ونشرت أفظع ضروب الاضطهاد؛ ولكنه أصرّ على رأي الجماعة من فريق ابن حنبل، وكافح وكابد المتملقين من الوصوليين، وما أكثرهم حين تشبّ الفتن، ويعمّ الاضطراب .
كافح الرجل وناضل، حتى ضاق به المأمون، فقرر عزله، ونفاه عن مقرّه، وأوصى خليفته المعتصم ألا يركن إليه في عمل إذ نهب الأموال، أيُّ أموال ياقوم؟ ثم أشاع المرجفون عنه فجأةً أفظع ما يُرمى به عالمٌ فقيهٌ قاض! ونحن نتساءل: أين كانت هذه التهم المنكرة! قبل محنة خلق القرآن، وكيف وكل إليه المأمون أمور الناس دينًا ودنيا وهو يعلم عنه ما تزلزل له الجبال؟ لعن الله المفترين .
ثم سكت نصر بن عمرو، وقال لصاحبه أنس بن جرير: لقد غلبني الضيقُ فأكمل أنت؟
قال أنس (وقد توجهت إليه الأنظار) والله لو لم يكن ليحيى بن أكثم – رحمه الله – غير يوم المتعة لكفاه ذلك اليوم مثوبةً عند الله، لقد رأى المأمون وهو في طريقه إلى الشام أن يجيز نكاح المتعة، وهي مما حُرِّم في الهدي النبوي الشريف، وخاف الفقهاء أن يعارضوا المأمون، إذ كان ينفرد برأيه في أكثر مما يعن له، لقد ألمّ بعلوم متنوعة، وقرأ بعض صحائف المنطق والفلسفة ودارس أصحابها ففلج عليهم .
وهنا قال نصر بن عمرو: يا أنس، أتأذن لي في تعليق يسير، فقال: تفضل؛ فأخذ نصر يقول: لقد شاع لدى الناس أن المأمون يجالس المتخصصين من العلماء وتأتي المسائل الدقيقة فينتصر عليهم بما حذق من العلم، وقد قال أخي أنس بن جرير إنه قرأ الفلسفة ودارس أصحابها وانتصر عليهم في مجال المناقشة والتحليل، ونحن نعرف أن كثيرًا من رجال الفلسفة والمنطق يتقربون إلى الرجل بالموافقة والثناء، فإذا قال بعض ما يعلمون أظهروا الإعجاب الزائد ليستولوا على قلبه، ويسمع ذلك نفر من الحاشية فيعلنون أن المأمون هو الأوحد في كل فن، في الفقه والشريعة والتاريخ والحديث وعلوم اللسان، ثم في الفلسفة والمنطق، وأنا لا أنكر أن المأمون قد سبق الخلفاء – والخلفاء وحدهم – في الاضطلاع ببعض مسائل العلم في فروعه المختلفة، إذ كان يأخذ من كل فن بطرف، ويجادل النحاة والفقهاء ومدّعي الفلسفة بم يدعي من هذه العلوم، يجادلهم فلا يُرٰى سوى الإذعان والإعجاب! أتظن المأمون يبلغ مبلغ أبي إسحاق النظام، أو أبي الهذيل العلاف، أو ثمامة بن الأشرس في الفلسفة، وعلم الكلام، إنه لا يعرف معشار ما عند أحد هؤلاء؛ ولكنه جتمع بهم ويناقش، فيجاملون ويثنون! ومن هنا شاع عن الخليفة أنه أحد هؤلاء البارزين في شتى مناحي البحث العقلي! وقد رأيت ذات مرة أبا إسحاق النظام يجادل ابا الهذيل في المسجد الجامع ببغداد في مسألة واحدة ثلاث ساعات، دون أن يتراجع أحدهما ويسلم لصاحبه، ولكل دليله الملزم، وبرهانه المفحم؟! أوَلَوْ كان مثل النظام ذا حرية مع المأمون. أفكان الخليفة يستمر في نقاشه دقائق معدودات هذا يا أنس بن جرير تعليقي الموجز على قولك إنه دارس أصحاب الفلسفة والمنطق وفلج عليهم !
فابتسم أنس وقال: إنك تتفق معي في أنه ألم ببعض المسائل في كثير من فروع العلم، ومن هذه الفروع نبذة من مسائل الفقه، وقد اتّجه إلى إباحة نكاح المتعة، ونادى في الناس بذلك، فجزع أهْلُ العلم، وجلس يحيى بن أكثم مع صاحبيه، محمد ابن منصور، وأبي العيناء، يتحدثون في هذا الخطب الجلل، فقال يحيى بن أكثم لهما: بكّرا إليه، فإن رأيتما للقول مجالاً فتكلما وإلا فانتظرا حتى أدخل، قالا: فدخلنا عليه وهو يستاك ويقول في غيظ: متعة كانت على عهد رسول الله S وعلى عهد أبي بكر وأنا أُنْهَىٰ عنها؟ من أنت يا جُعَلْ (يريد عمر بن الخطاب) حتى تنهى عما أحله رسول الله وأبوبكر، فأومأ أبو العيناء إلى صاحبه: أن أنتظره ولا تتكلم، هذا رجل يقول في عمر يا جعل، فماذا يقول في أحدنا إذا كلمه؟
ثم جاء يحيى بن أكثم متغير الوجه، فقال له المأمون: مالك هكذا على غير عادتك؟ قال يحيى: غم وَهمٌ يا أمير المؤمنين لما حدث في الإسلام، قال المأمون متعجبًا: وماذا حدث؟
قال: النداء بتحليل الزنا، قال المأمون في غضب: الزنا، قال: نعم، المتعة زنا صريح، قال المأمون: وما دليلك؟ قال: قال الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ المؤمنون: الآيات 1-7.
يا أمير المؤمنين، أزوجة المتعة مِلْك يمين؟ قال: لا، قال يحيى: أهي الزوجة التي ترث وتورث وتلد الولد؟ قال: لا، قال يحيى: إذن فمن تجاوز هاتين كان من العادين، وهذا الزهري روى عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، قال: أمرني رسول الله أن أنادي بالنهي عن المتعة وتحريمها، بعد أن كان أمر بها، قال محمد بن منصور: فالتفت إلينا المأمون، فسأل: أمحفوظٌ هذا في حديث الزهري؟
قُلنا: نعم يا أمير المؤمنين، ورواه جماعة، منهم مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه، فقال المأمون: أستغفر الله، نادوا بتحريم المتعة من الآن!!
هذا موقف ليحيى لا ينساه الله !
سمع محمد بن يحيى هذا الحديث فانزاح عن وجهه ما غمره من الحزن وقال: الحمد لله الذي جعل سيرة أبي محفوظةً معلومةً، فقد كان يؤلمه في مرضه الأخير أن تنساه الناس، بل أن يتباعد عنه الناس إذا عرفوه؛ لأنه في رأيهم مغضوب عليه، ومنفيٌّ من بغداد، وما تحمل هذا السفر الأخير إلا ليرجع لعارفيه في بغداد فيقول لهم: لست منفيًا، وها قد عادت الأيام، ولكن الموت سقط عليه بالربذة ولما عند الله أوفى.
فرد نصر بن عمرو يقول: لا تخف يا محمد، إن سيرة أبيك لا تُنسى، فإذا كان الخلفاء والوزراء يجدون من يدون تاريخهم بالحق والباطل، فإن العلماء يجدون من يقص كل كبيرة وصغيرة عنهم من تلاميذهم وتلاميذ تلاميذهم! لقد دُوِّنت سيرةُ سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ومالك وأبي حنيفة والشافعي وابن حنبل وسفيان الثوري وعبد الله بن المبارك وابن شهاب الزهري وسفيان ابن عيينة وأمثالهم بأكثر مما كُتِبَ عن خلفاء بني مروان وبني العباس، وها أنذا وأنس بن جرير نعلم من سيرة أبيك أكثر مما تعلم .
فتبسم أنسٌ ووجه الكلام لمحمد بن يحيى حين قال: لقد ذكر نصر اسمي عبد الله بن المبارك، وسفيان بن عيينة فذكرني بحادثين لهما مع أبيك، رحمهم الله جميعًا.
أما حادث المبارك، فقد شاء جدك أن يروي أبوك عنه الحديث، وهو غلامٌ لم يبلغ سن الحلم فلما تمّت الرواية عن عبد الله، صنع جدك حفلاً كبيرًا ملأه بالطعام والشراب والفاكهة ودعا له كبار الفقهاء والمحدثين ليشهدوا حفل الختام لرواية أبيك عن ابن المبارك، وكأن جدك أراد أن يشهر في الناس رواية ابنه للحديث على أحد الثقات الأثبات، ليذيع في الناس، انتسابه للحديث، وتلمذته لابن المبارك، وهي شرف قلّ أن يتاح لغير المختارين الفهماء .
هذه واحدة، أما الأخرى، فقد كانت مع سفيان ابن عيينة، إذ كان على فضله يضيق بأكثر الأسئلة توجه إليه حتى تتعبه، فقال لتلاميذه ذات يوم ويحيى بن أكثم معهم: أليس من الشقاء لمثلي أن أجالس صخرة بن سعيد الذي جالس أبا سعيد الخدري، وأجالس عمرو بن دينار الذي جالس عبد الله بن عمر، وأجالس الزهري الذي جالس أنس بن مالك، ومضى يستطرد في عد جماعة من المحدثين جالسوا صحابة رسول الله، فلما أتم حديثه عن هؤلاء قال: ثم تقضي الأيام على أن أجالسكم أنتم ؟
فقال يحيى بن أكثم، وكان أصغر من بالمجلس، أتنصفني يا أبا محمد؟ قال سفيان: إن شاء الله تعالى، فتكلم بما تريد، فقال يحيى: والله لشقاء أصحاب رسول الله بك أشد من شقائك بنا! فأطرق سفيان، ثم نظر إلى تلاميذه نظرةً طويلةً أتبعها برواية قول الشاعر:
مُتْ بداءِ الصمت خيرٌ
لك من داء الكلام
إنما العاقـلُ مــن
ألْجمَ فـاهُ بلجـام
خلّ جنْبيك لِــرام
وامضِ عنه بسـلام
ثم قال أنس بن جرير: لا تخف يا محمد، فالتاريخ محفوظ مدروس .
ودنت الشمس للمغيب، فتهيأت القافلة للرحيل، واصرّ القوم أن يستضيفوا معهم محمد بن يحيى وجاريته حتى يبلغا بغداد بعد زيارة المدينة، وما كان أشوق محمدًا إلى زيارة رسول الله، ثم الرجوع إلى موطنه دون مشقة فهيأ الله له ما أراد.
سار الركب إلى طيّته، وقد آثر أنس بن جرير ونصر بن عمرو أن يكون محمد بن يحيى معهما حيث يسيران. أما الجارية فتأخذ موضعها مع زوجتيهما، وقد أظهر الرجلان من كرم النفس وسماحة الخلق ما جعل ابن يحيى يعدّ ذلك كرامةً لأبيه، فيحمد الله أن زالت وحشته بمن لقي من الكرام .
قال أنس لابن يحيى: أتعرف أي منزلة كانت لأبيك لدى المأمون، قبل أن يسعى لدى الخليفة قرناء السوء، لقد تحدث ثمامة بن أشرس، ومثله لا يذكر الحديث جزافًا، بل يدقّق يونتحل، بل ربما أخفى أكثر مما أظهر، قال ثمامة: كان يحيى بن أكثم يماشي المأمون يومًا في بستان موسى، والشمس عن يسار يحيى، والمأمون في الظلّ، وقد وضع يده فوق عاتق يحيى مكرمًا إياه، فلما عادا من حيث أقبلا، قال المأمون ليحيى:
كانت الشمس عليك إذْ كنت عن يساري وقد نالت منك، فكن الآن حيث كنت، وأتحول أنا إلى مكانك، فقال أبوك في بديهة حاضرة: والله يا أمير المؤمنين لو أمكنني أن أقيك هول المطلع يوم القيامة بنفسي لفعلت، فقال المأمون: لا والله، مابد أن تأخذ الشمس مني ما أخذت منك! فتحول يحيى إلى الظل، وسار المأمون في الشمس وثمامة مندهش يتعجب!
قال محمد: لا أمان مع الأيام، فالمأمون الذي منع أبي حر الشمس، وتحمله دونه، هو الذي نفاه، وصادر ما لديه من مال وعقار لم يكونا من الكثرة بحيث يحسب أبي معهما من الأغنياء، والمأمون هوالذي حذر المعتصم من أبي في وصية قُرِئت على الناس، وتداولتها الألسن دون نسيان!
وهنا، قال أنس: لا عجب في كل ما قلت، فأنا – مثلاً – كانت معي زوجة عشت معها خمسةً وعشرين عامًا، وكنت أعاملها كخادم لا كزوج، رحمةً بها وإحسانًا، ثم كانت الخاتمة أن مردت عليّ وطلبت الطلاق، فأجبت رغبتها غير غاضب، لأني أعلم أن القلوب كالرمل في الصحراء تنتقل من مكان إلى مكان حين تهب الريح، وقد هبت ريح المأمون فعصفت بالمحبة والوداد .
قال الراوي: وواصل الركب مسيره، والحديث عن يحيى لم ينقطع، ولم استمر معهم في المسير لأروي ما قيل!
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ربيع الثاني – جمادى الأولى 1431 هـ = مارس – مايو 2010م ، العدد :4-5 ، السنة : 34