دراسات إسلامية
بقلم : د. السيد الجميلي
إذا كان الإنسان في بدائة فكره الأول وتاريخه السحيق قد أبدى تعلقًا روحيًا ونفسيًا بالدين على مدار الحقب المتوالية من عمر البشرية على ظهر هذه المعمورة – إنما كان هذا التعلق لكونه مطويًا على إحساس فطري بشدة الحاجة إلى المعبود القادر الذين يتعهد بالرعاية والنطر والحدب .
كان الدين هو الملاذ الأوحد للإنسان – ولايزال الذي يضوي إليه يحتمي به من أوضار الحياة وطروفها القاسية، وعوارضها المرعبة في كثير من الأحيان، حيث شعر أن الكير والكثير من الأرواح الشريرة في الكون تطارده صباح مساء وتترصده ليل نهار تعمد إلى تكدير صفوه، وإرهاقه وإلحاق العنت به.
وتتوارد المشكلات على الإنسان بين فينة وأخرى ويزداد محيط الفكر إلى أن يبلغ غاية المدى في الآونة الأخيرة وتنتهي به الأمور إلى أخطر قضايا العلم حرجًا وحساسيةً ولعل أهمها وأجدرها وأولاها بالنظر والتحليل إنما هي قضية الاستنساخ، وهي من آخر ما وصل إليه العلم الحديث حيث يتم نسخ مخلوق مماثل ومطابق في الشكل والتكوين تمامًا (صورة كربونية) من كل الأوجه والزوايا من أصله .
وكنا قرأنا في المصادر الأولية، والمراجع الثانوية حول هذا الموضوع إرهاصات دقيقةً منذ ما ينيف على ربع قرن من الزمان؛ لكنها كلها كانت في إطار المجال النظري ليس إلا، ولم يكن يجري في خاطر أو ينسج في فكر أن تكون محلاً للتطبيق على أرض الواقع العملي بحال.. إذ أن الثابت في كثير من القضايا العلمية أن تكون تقديريةً أو تصويريةً، ومن المتعذر أن تنزل إلى العالم الواقعي التطبيقي لأسباب موضوعية .
بيد أن الذي حدث كان مذهلاً، وهو على خطورته لم يكن ليحدث عرضًا ولا عفويًا تلقائيًا وإنما هي مرحلة متصلة وحلقة مديدة من البحوث والتجارب البعيدة التي تظاهرت جميعًا وأدت في النهاية إلى ما انتهت إليه من ثمرة مبهرة.
وعملية الاستنساخ تتم على عشر خطوات، وهذه المراحل العشر إذ يعمد الباحثون بادي الرأي إلى تحضير الخلية من ثدي أو ضرع الحيوان المُعطى (المانح)، ثم تفصل الجينات وهي المودعة في الكروموسومات، وهذه الجنيات هي المعوَّل عليها والمطلوبة لإعداد النسخة المماثلة للحيوان المستهدف بالاستنساخ أو النسخ .
ثم تنمو الخلايا المطوية على الجينات المذكورة، فتنقسم انقسامات متواليةً، وهذا النمو نتيجة التعهد بتغذيتها المستمرة حتى لا يطولها الكمون والجمود ويصيبها حالة تُسمّىٰ تعليق الحياة وهي حالة استكنان شبيه بالخمود .
ثم يتم الحصول على البييضة من ذات الحيوان أو من حيوان آخر غيره، وتحفظ هذه البييضة غير المخصبة في طبق في المعمل .
تُزال النواة وتفصل تمامًا في إطار عملية Nuclear Extraction from the Ovum ، وتدمج نواة الخلية الثديية مع البييضة من خلال الاستحثاث الكهربائي حيث تقوم جزئيات البييضة ببرمجة الجينات في الخلية الثديية لإنتاج الخلية الأولية للجنين، ثم ينمو هذا التجمع الخلوي في أولى مراحله وينقل بعد ذلك إلى رحم حيوان آخر حيث تتم صيرورته جنينًا كاملاً، ويظل كذلك حتى يُوْلَد ولادةً عاديةً، وهو بذلك يكون صورةً مطابقةً لأصله تمامًا أي للحيوان الأول المأخوذ منه الخلايا الثديية .
وقد عمد فريق من الخبراء والعلماء الأمناء الباحثين بمعهد “روزالين بإسكتلندا” لأول مرة – باستنساخ بأسلوب النقل النووي للخلايا .
وقد تم بموجب هذه الطريقة أخذ خلية من ضرع النعجة، وعمدوا بعد ذلك إلى فصل النواة من هذه الخلية.. ثم حصلوا على بويضة من نعجة أخرى، وفرغوها بتطويح محتواه من النواة؛ فصارت خليةً بلا نواة، ثم عملوا على دمج نواة الخلية الأولى “التي فصلوها من الخلية الأولى” المستخلفة من ثدي ضرع النعجة الأولى، ثم أقحموها وأدمجت في الخلية منزوعة النواة الثانية المأخوذة من النعجة الثانية. ثم تم دمج النواة الأولى (للنعجة الأولى) بالبويضة (من النعجة الثانية)؛ فصارت بذلك خليةً جديدةً تمت زراعتها ونقلها إلى رحم نعجة ثالثة .
وفي رحم النعجة الثالثة شرعت الخلية في النمو والتحول تدريجيًا رويدًا رويدًا حتى صارت جنينًا مكتملاً، ثم ولد بعد ذلك ولادةً طبيعيةً تمامًا، وقد كان صورةً كربونيةً مماثلةً تمامًا للأصل .
لئن كانت الأسس العلمية والعملية التطبيقية لهذا الاستنساخ قابلةً للتطبيق الفعلي على أرض الواقع في كل أصناف وأنواع الكائنات الحية؛ فإن أخطر منعكساتها، وأعنف مردوداتها وتداعياتها هي على الجنس البشري باستنساخ نسخة مطابقة للأصل كما أسلفنا من ذات الشخص .
ومن ثم فإن الصفات الوراثية كلها مركوزة في النواة المستخرجة من المعطى، ولا توجد أية صفات ألبتة في صاحبة البويضة المستخلصة منها، وبدهي لا توجد أدنى صفات وراثية لذاته الرحم المحتضن للبويضة المخصبة بنواة (مطوية على الصفات الوراثية) للمعطى المشار إليه.
من هذا كله فإن المستنسخ هو صورة مطابقة لصاحب النواة باعتباره ناقلاً لكل صفاته وأسس خلقته وجبلته الخلقية والفطرية التكوين.
وقد قوبلت عملية الاستنساخ أو النقل النووي برفض عام حاسم، واعتراض دولي مجمع عليه، وهو اعتراض غير مسبوق من جميع الأمم والهيئات والمؤسسات والجمعيات ومراكز البحوث والجامعات على مستوى العالم أجمع.
هذا الرفض الساحق ليس استهجانًا ولا مجردًا “على سبيل الكراهة” ولكنه شجب قاطع ورفض مطلق وليس صادرًا عن عاطفة إنما هو الرد الموضوعي الطبيعي من رموز القيم الإنسانية من علماء وباحثين ومفكرين وعلى رأسهم جميعًا رجال الدين لكل الأديان والمذاهب والملل ذلك؛ لأن التداعيات لهذه الطفرة إنما هي مردودات حرجة ليست مصورةً على طائفة دون طائفة. أو جنس دون آخر؛ ولكنها تهدد البشرية بعامة في كل هوياتها ومختلف مشاربها.
إن القيم العليا والأخلاق السامية مهددة بالتدهور والتصدع والانفلات منها على يد هذا الاستنساخ الذي يفرز أنماطاً معدومة الهوية، مجردةً من الأصالة والتأصيل الذي هو قوام العنصر البشري.
ولأجل هذه المخاوف وتلك المحاذير كان رجال الدين الإسلامي والمسيحي واليهودي هم أول من ابتدر وسارع إلى استنكار هذا الاستنساخ لكونه يمثل جموحًا صارخًا وعدوانًا شرسًا على الأخلاق والقيم مما يترتب عليه شيوع الفوضى والنفراط عقد الترابط والتواصل الإنساني بمفرزات همجية غير محمودة المغبة، وغير مأمونة العواقب.
إن التخوف من هذه الطفرة المخيفة، والثورة المثيرة على الشرائع الدينية والمنظومة الإنسانية والوشائج الاجتماعية – هذا التخوف له ما يبرره؛ إذ أن المستقبل القريب والبعيد على حد سواء قد يحمل في أطوائه من الأخطار والمحاذير مالا يخطر على بال أو يسنح في خاطر، حيث ينعدم الأمن والأمان النفسي وتطيح المروءات وتفشو الرذائل والمقابح، وتذوب الهويات والمشارب الأصيلة في مهامه ومتاهات التخليط، وهي فتنة مروعة بكل المقاييس. ولايمكن أن يتصور أحد مآل المجتمعات والجماعات في وقت ما يسودها هذا التخليط والعبث غير المسبوق بمقدرات الديانات والركائز القِيَمية، والثوابت والأعراف العالمية التي تظاهر عليها وأقرها الفكر الإنساني منذ أقدم العصور ولم يتزحزح عنها عبر العصور وعلى مدار التاريخ.
إن أية طفرة من الطفرات التي تخترق الناموس، وتضاد أو تصطدم بالنمطيات السائدة قد يكون من مضامينها وجه من وجوه الفائدة أو النفع والمصلحة بحال من الأحوال، وقد يكون نفعها أدنى كثيرًا من ضررها، وربما يكون ضررها أقل من ضرر غيرها؛ لكن هذا الاستنساخ أخطاره غير المحدودة، وتوابعه المحرقة تتفشى وتتغلغل في كل اتجاه لتفسد كل إصلاح، وتبيد كل معمور، وتحرق كل أخضر ويابس .
إن حجم الكارثة فوق التصور، ومن ثم كان المعارضون لها كثيرين؛ لأن كل الناس في كل مكان يرهبون تداعياتها ومنعكساتها، وهي نازلة ماحقة لاتبقى ولا تذر، والرفض المطلق لها لابد أن يكون نصيبًا مفروضًا، كما أن الشجب والاستنكار والمطلق الحاسم حقيق بها وهي محقوقة به، ولا سلامة من زمن ووقت تفشى فيه المفابح، وتعم بسفوله البلوى، إلا بالانزواء والكمون والانطواء على النفس. إيثارًا للعافية والنجاة.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ربيع الثاني – جمادى الأولى 1431 هـ = مارس – مايو 2010م ، العدد :4-5 ، السنة : 34