دراسات إسلامية
بقلم : أ. د. / جعفر عبد السلام
لاشك في الأهمية البالغة التي تمثلها أسبانيا في تاريخ الحضارة الإسلامية وفي التاريخ الحضاري الإسلامي بشكل عام. ذلك أن الدعوة الإسلامية قد انطلقت من شبه الجزيرة العربية في رحلة طويلة، امتدت شرقًا إلى بلاد فارس وبلاد ما بين النهرين وغربًا لتشمل ممالك دولة الروم، ولتدخل إلى شمال أفريقيا وأوروبا عن طريق الأندلس لتُنير الطريق أمام أمم وشعوب كانت غافلة، تعرفهم بالله وبرسالته وتعلمهم التمييز بين الحق والباطل، وبين الحلال والحرام عملاً بقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَـٰـتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ الإسراء: آية 9.
وهكذا كانت رسالة حق، وليست حملة استعمار، كانت رسالة خير للبشرية وليست حركة للسيطرة أو الهيمنة أو استغلال الشعوب ونهب خيراتها، كانت الدعوة الإسلامية دعوة سلام وحق غايتها (أن تكون كلمة الله هي العليا) ومن أهم أهدافها أن تطهّر الناس من عبادة العباد وأن تهديهم إلى عبادة الله الواحد وأن تخرج الناس من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة؛ بل كان المقاتل المسلم في حد ذاته داعيةً يقاتل باسم الله وعلى بركة الله بهدف نشر الدعوة؛ ولكنه ملزم قبل رفع السلاح أن يرفعه بقانون يحدد ذلك، وهو القانون الإسلامي، الذي لم يكتف بتحديد بواعث وأسباب القتال فحسب؛ بل وضع كذلك قواعد لاستخدام هذا السلاح. وعندما دخل الإسلام بلاد الأندلس في رحلة دينية كبرى كان هدفها نشر هذا الدين وشرح هذه العقيدة لتكون واضحةً جليةً أمام كل الناس، فمن شاء منهم دخل في دين الله وله كافة حقوق المسلمين، ومن شاء منهم البقاء على دينه بقى عليه، كما يؤكد القرآن في أكثر من آية يقول تعالى: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ البقرة: آية 256، ويقول تعالى ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ الكهف: آية 29، لم يكن الإسلام على الإطلاق دينًا لاستعمار الشعوب واستغلالها ونهب ثرواتها والهيمنة الاقتصادية عليها، وإنما كان دين دعوة وهداية، ومن ثم التزم الجيش المسلم بأن يعلن الدعوة ويدعو الناس للإيمان به قبل أن يبدأ أحد بقتال. وكان أمام القادة أن يحقنوا الدماء دائمًا إذا ما سمحوا للجيش المسلم بإعلان الدعوة وتصالحوا معه حتى وإن لم يدخلوا في الدين الجديد .
لذا دخلت الحضارة الإسلامية بلاد الأندلس وعاشت هناك تسعة قرون كاملة، استطاعت خلالها أن تنشر نور العلم والدين والهداية في كلّ أوروبا، وصارت الأندلس بكاملها مدرسةً للعلم والفكر والثقافة، نهل منها الأوروبيون وتشكلت مدارس لها خصائصها في الفنون والعلوم والآداب ومختلف ألوان الحضارة بوجهيها المادي والمعنوي، وكانت بلا جدال، أساس النهضة الأوروبية الحديثة .
مسيرة العلم والتنوير
لقد قاد الخلفاء الأمويون في الأندلس بأنفسهم مسيرة العلم والتنوير فيها، وازدهرت الحركة الفكرية في عصر “الناصر” وفي عهد ولده “الحكم المستنصر” 350-366هـ. وكان الحكم الخليفة الأديب العالم رائد هذه الحركة الفكرية العظيمة، وكان من أهمّ منجزاتها، إنشاء جامعة قرطبة العظيمة، وإنشاء المكتبة الأموية الكبرى حيث احتشد العلماء والمفكرون من المسلمين ومن سائر بلاد أوروبا فيها ينهلون من كنوز العلم والمعرفة التي جلبت إليها من سائر أنحاء الأرض، ليس من بلاد الحجاز ومكة والمدينة فحسب؛ بل من بغداد ومن مصر، ومن اليونان. لقد احتوت هذه المكتبة اربعمائة ألف مجلد في مختلف ألوان العلوم والمعارف، وفي نفس الوقت كثرت المكتبات العامة والخاصة في كل بلاد الأندلس. واحتشد في بلاد الخلفاء، جمهرة من أكابر العلماء في مقدمتهم أبو علي القالي ومحمد يوسف الحجازي. وربيع بن زيد والعلامة الفكلي النصراني، وغيرهم وغيرهم. هذا غير الأدباء والشعراء الذين أثرت الطبيعة المزدهرة في أشعارهم ونثرهم وجعلتهم يطورون أغراض الشعر التقليدي، وينتجون لنا أدبًا وشعرًا رائعًا، لا عهد للغتنا العربية بمثله فيما كتبه الأقدمون .
النهضة العلمية بين قرطبة والأندلس
لقد شغف أهل الأندلس بجمع الكتب واقتنائها وإنشاء المكتبات، وكانت سوق الكتب في قرطبة من أشهر الأسواق وأحفلها، ولم يكن هذا الشغف من نصيب المسلمين وحدهم؛ بل كان كذلك للنصارى واليهود أنفسهم، وكان الكثير منهم يجيدون اللغة العربية ويتذوقون الأدب والشعر والفلسفة، وقد أسّس الحكم عددًا كبيرًا من المدارس ليتعلم فيها الفقراء مجانًا لذا خطى التعليم في عهده خطوات كبيرة، لدرجة أن أبناء الشعب جميعا كانوا يعرفون القراءة والكتابة.. وكانت أيضًا جامعة قرطبة من أشهر جامعات العالم وكان مركزها في المسجد الجامع وتدرس في حلقاتها مختلف العلوم.. ومما يحمد للحكم أنه كان يسبغ رعايته على سائر العلماء من مختلف الملل والنحل، مسلمين وغير مسلمين، لقد كان الحكم عالمًا فقيهاً بالمذاهب إمامًا في معرفة الأنساب حافظاً للتاريخ جامعًا للكتب، يقول ابن حبان: “لم يسمع في الإسلام بخليفة، بلغ مبلغ الحكم في اقتناء الكتب والدواوين، وإيثارها والاهتمام بها، أفاد على العلم، ونوّه بأهله، ورغّب الناس في طلبه، وصلت عطاياه وصلاته إلى فقهاء الأمصار النائية”. وكان الحكم يبعث إلى أكابر العلماء المسلمين من كل قطر، بالصلات الجزيلة، للحصول على النسخ الأولى من مؤلفاتهم. ومن ذلك أنه بعث إلى أبي الفرج الأصفهاني ألف دينار من الذّهب، ليحصل منه على نسخة من كتابه “الأغاني”. فأرسل إليه منه نسخة حسنة منقحة، قبل أن يحصل عليها أحد في العراق أو ينسخه أحد منهم، وأرسل إليه أبو الفرج أيضًا – وهو ممن ينتمون إلى المروانية بني أمية – كتابًا ألفه في أنساب قومه بني أمية، يشيد فيه بمجدهم ومآثرهم، فجدّد له الحكم الصلة الجزيلة، وكان للحكم كذلك طائفة من مهرة الورّاقين بسائر البلاد، ولاسيما في بغداد والقاهرة ودمشق، ينقبون له عن الكتب، ويحصلون منها على النفيس والنادر، كما كانت له في بلاطه طائفة أخرى من البارعين في نسخ الكتب، وتحقيقها، وتجليدها، وتصنيفها، وبذلك في هذا السبيل من الجهود والأموال مالم يسمع به، واجتمع لديه من نفائس الكتب في مختلف العلوم، مالم يجتمع لأحد قبله، ولما ضاقت أبهاء القصر الخليفي، عن استيعاب العدد العظيم من الكتب الواردة إليها باستمرار، أنشأ الحكم على مقربة من القصر صرحًا عظيمًا خاصًا بالمكتبة، افتن المهندسون في ترتيبه وتنسيقه، وإنارة أبهائه، وكان الناصر والد الحكم يقدّر علماءه ومواهبهم، ويحبوهم بعطفه ورعايته.
إن المسلمين الذين عاشوا في أسبانيا منذ القرن السابع إلى القرن الحادي عشر الميلادي قد قاموا بدور مهمّ في إثراء منظومة الحضارة في زمانهم، إنه من المهم أن نتأمل كيف نشأت العلوم وترعرعت في هذا الجو الخصب، وفي هذا المناخ الهادئ الذي مكّن العالم الإسلامي من الاجتهاد والإبداع .
لقد وضع المسلمون الذين عاشوا في الأندلس في هذه الفترة طائفةً من علوم الدين وعلوم الدنيا، في صميم نسيج الحضارة الغربية الحديثة كذلك، كما نشروا القرآن الكريم والسنة في الأندلس على يد مدارس عديدة مثل المدرسة الظاهرية لابن حزم ومدارس أخرى عديدة كان لها إسهامها الفكري في تكوين مدارس فقهية متميزة، اعتمدت في اجتهاداتها على الكتاب والسنة مع مراعاة الضروريات والحاجيات وأيضًا الأعراف والعادات الّتي كانت تأخذ بها بلاد الأندلس، وهي بلاد أوروبية تختلف كثيرًا عن بلاد المشرق الذي نشأ فيه الإسلام أساساً، وهكذا علم المسلمون وتعلموا كيف يمكن أن يتشكل الفقه والقانون وفقًا لظروف الزمان والمكان مع مراعاة القواعد الكلية والمبادئ الرئيسة للشريعة الإسلامية .
كما كانت العقيدة الإسلامية بأسسها القديمة أساسًا للبناء الحضاري الزاهر في الإسلام، وارتفع منبر التوحيد ليقر بالألوهية لله الخالق الواحد للناس كلهم تحت لوائه أكفاء. كانت هذه النظرة تعطي قيمة للإنسان والعلاقة بالكون والحياة، وتنظم حقوق الإنسان بالمفهوم الحديث .
إن أحد المحاور الرئيسة لحضارتنا يقوم على قوة العقيدة الإسلاميّة وارتباطها بالتّوحيد والبعد بالإنسان عن الشّرك بالله والاعتماد على الله وحده والتوجّه إليه وحده والخوف منه وعدم الخوف من أيِّ مخلوق مهما كان وضعه وهو عامل من أهمّ عوامل قوّتها.
كما أن شريعة الإسلام شريعة سمحة تقوم على دعائم تشترك فيها معظم الشرائع الرئيسة في العالم، لذا فقد حملت راية العدالة والمساواة ورفع الحرج والتدرّج في الأحكام، مما جعل مؤسسي محكمة العدل الدولية يعتبرونها إحدى الأنظمة القانونية الرئيسة في العالم، وقد عاشت العقيدة والشريعة بمانتج عنها من فقه وفكر في أفق الحياة الأندلسية فأنتجت علومًا لها أهميتها في التاريخ الضحاري الإسلامي.. ولا يمكن أن نُهمل البيئة العلمية والفكرية التي عاشها المسلمون في الأندلس والتي وضعت أسس العلوم الاجتماعية والمعارف والنظريّات العلميّة في مجالات العلوم الاجتماعية والتطبيقيّة على حدٍّ سواء، وإذا كان الكثير من مناهج البحث العلمي والتراث الفلسفي الإنساني قد تمّ ترجمة الكثير منه من اليونانية، إلا أن الكثير مما كان عند المسلمين في الأندلس قد نتج من حضارات العالم الآخر، أعني الحضارات الشرقية التي انتقلت إلى الحضارة الإسلامية، عندما فتح المسلمون بلاد فارس والعراق. لقد انفتح المسلمون دائمًا على الحضارات الأخرى وانصهرت الجماعات الأخرى من البلاد المفتوحة في الحضارة الإسلامية لذا فإن الكثير من الأصول الفنية في العمارة والرسم والفنون الأخرى، بما في ذلك فنون الموسيقي قد دخلت من باب واسع في الفن الإسلامي وبالطبع خضعت لكثير من التغيرات بفعل عامل العقيدة والسير مع أصولها، وتهيئة الحياة لممارسة العقيدة الإسلامية .
إنه إذا كان في أوروبا العديد من المدارس التي انتهجت منهج الهجوم على الإسلام، واتهامه بمعاداة الحضارة الغربية الحديثة، إلا أن هناك مدارس غربية متفهمة فهمت روح الإسلام ودرست كيف أثـّر وتأثر بالحضارات الأخرى وعلى رأسها الحضارة الغربية، لذا فقد جئنا إلى هنا إلى أحد المراكز المهمة في التاريخ الإنساني والحضاري.. إلى غرناطة أحد المعاقل التي عاش فيها الإسلام والمسلمون وتركوا بصماتهم الواضحة فيها وتشكلت على أرضها حياة علمية وفنية ومعرفية واضحة وعميقة أثرت في العالم كله ومازالت تؤثر حتى الآن .
إن من الضروري أن تقيم مركزًا مستمرًا للتعاون والتبادل بين الشرق الإسلامي والغرب الأوروبي من جديد في هذه المنطقة، ليس فقط من خلال كلية الدراسات الأندلسية بغرناطة؛ بل يمكن ذلك من خلال الجامعات والمراكز العلمية والثقافية التي تحمل رسالة الحضارات الإنسانية (إسلامية وأوروبية).
ونأمل أن يكون هناك جسر من التواصل على الأقل في المجال العلمي في هذه المرحلة بما يمثله ذلك من تخفيف لحدة التوتر في العلاقات بين الغرب والشرق. ولابد أن نستعيد أعمال وذكريات وعلوم ومعارف مشتركة كانت الأندلس فيها درةً الشرق في بلاد الغرب، ومنارةً للعلوم والفنون والمعارف علمت العالم كله أسس البناء الحضاري، وأهمية ما يمكن أن ينتج عن القانون الإنساني بصرف النظر عن اختلاف العقيدة أو الجنس أو اللون .
* * *
* *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ربيع الثاني – جمادى الأولى 1431 هـ = مارس – مايو 2010م ، العدد :4-5 ، السنة : 34