إشراقة

التأَنِّي (Slowness) والرِّفق (Kindness) والتّمَهُّل (Deliberateness) والسّيرُ على درب الحياة بخُطُوَات مُتَبَاطِئَةٍ (slow steps) مُتَخَاذِلَةٍ (weak) وئيدة (Unhurried) واجتنابُ كلّ ما من شأنه أن يُصَنَّف ضمنَ التسرُّعِ (Hastiness) والتّهوُّرِ (Hurry) .. أو بكلمة أخرى ضبطُ النفس (Control oneself) حتى في مواضع الإثارة (Excitement or infuriation) التي تدعو للسخط العامّ (General discontent) والاستشاطة غضبًا، والتمسّك بالصبر (Patience) والاحتمال (Endurance) حتى في أشدّ الحالات حرجًا (Criticality) أجمع العلماءُ والحكماءُ من كل جنس ولون أن هذه العناصر أَنْفَعُ العناصر وأَفْعَلُها في إدارة الحياة والتعاملِ مع جميع قضاياها ومشكلاتها، مهما كانت مُعَقَّدَة يستعصي حلُّها حتى على المُجَرَّبين – على صيغة اسم المفعول. وهذا هو الأفصح –  الذين أتقنوا عَجْمَ عودِ الحياة وحَلَبُوا الدهرَ أشطُرَه .

       هناك نوعان من الناس: بعضُهم يَتَعَجَّل في كل أمر، ويودّ أن يتحقّق له مايريد في ثانية أو أقلّ، وينزعج كثيرًا ويرتبك إذا لم يتأتَّ في سرعة قياسيّة، بل يثور ويغضب على ضياع الوقت والشعور بإفلات الفرصة. أسلوبُه في الحياة إسراعُ الخُطَىٰ، والجريُ وراءَ الأهداف، والسيرُ الحثيثُ المُتَسَارِع لنيل كلّ غرض يتوخّاه، ولايحب التباطؤ والتأنّي في التوجّه إلى الهدف الذي يرمي إليه؛ ولكنّهم ربّما يُصْدَمُون بالحواجز؛ فيأخذهم اليأسُ عاجلاً؛ فلا يقدرون على مواصلة السير، وإنما يسقطون في الطريق، أو يتراجعون من وسطه أو ربعه أوثلثه، أدراجَهم إلى حيث بدؤوا منه المشوار، لأن المتسارع المستعجل ينفد صبره عاجلاً وتفرغ شحنات بطارية طموحه خلال مدة زمنيّة قليلة، لأنّه كشعلة النّار تشبّ عاجلاً؛ فتخمد عاجلاً؟

       العجلة والتهوّر وما إلى ذلك من طبيعته أنه يجعل صاحبَه لايواجه حقائقَ الحياة المرّة طويلاً، إنّه يُوْلَدُ مطبوعًا على التسّرع وعدم التفكير في العاقبة فلا يضع في الاعتبار أن طريقَ الحياة في الأغلب وعرٌ صعبٌ، كثيرُ المُنْعَطَفَات، محفوفٌ بالمكار، مزروعٌ بالمتاريس، وليس – عادةً – مستقيمًا، سهلاً، مُمَهَّدًا، مزروعًا بالرياحين والخمائل. المُتَسرِّع المُسْتَعْجِل يظنّ كأن الدنيا إنما خُلِقَت له، والإمكانيّات إنّما وُفِّرَت من أجله، وأن رغباته كلّها مكفولة التحقيق، وآماله جميعها لن تصطدم بالموانع، وأنّ الكون أُوْجِد لكي يكون رهن إشارته وطوعَ أمره؛ فعندما يصطدم بما لايرجوه يغلبه اليأس، ويعود لايصمد في وجه المكاره والمُثَبِّطَات؛ فيقعد يلوم نفسه على إخفاقها، ويلوم المجتمعَ حوله على خذله وخيانته وجفائه.

وبعضهم – الناس – يعتمد التّأنِّي والرفقَ وما يماثلهما من المعاني في جميع مواقف الحياة؛ فلا يَصْدُرُ فيها إلاّ عن التأمّل والتفكير، والتلطّف وإعمال التعقّل العمليّ، ويُوْلَد على ضبط النفس والسيطرة على الأعصاب، والتعامل بالحلم واللين حتى في المواضع التي تقضي الثورانَ والسخطَ واللجوءَ إلى الغضب والتشدّد؛ فلا يسخط مهما دعتْه دواعي النخوة والإباء إلى التّعامل بالغضب. مثلُ هذا الرجل قد يبدو أبلهَ مجردًا من العواطف واللمسات الإنسانيّة الحقيقيّة؛ ولكنه يثبت أنجحَ إنسان في التعامل مع الحياة وقضاياها الشائكة؛ لأنّه يميل مع الريح حيثما مالت، فلا تُحَطِّمُه العواصف الهوجاء النُكْب كما تُحَطِّم الأشجارَ الطويلةَ القويَّةَ الصُّلْبَةَ التي تُقَاوِمُها وتقف في طريقها مرفوعة الرأس؛ ولكنها لاتُحَطِّم الشجيرات الليِّنَة الصغيرة التي تميل معها يمينًا وشمالاً وشرقًا وغربًا، ولاتعارضها في اتجاهاتها، وإنما تتعامل معها طيّعة وفيّة.

       المُتَأَنِّي المُتَرفِّق المُتَلَطِّف المُتَمَهِّل في التعامل مع قضايا الحياة، أكثر انتصارًا في معارك الحياة، وأقلّ بل أندر إخفاقًا في مباراة الحياة، مهما كانت صعبة التنافس، وكان اجتيازها بنجاح من الأمور المُسْتَبْعَدة إطلاقًا؛ لأنّه يكون مفطورًا على الصبر والتحمل إلى حدّ عتبة النجاح عن طريق تجرّع كل سيء أمّر من الحنظل،والمشي بخطوات وئيدة مُتَمَكِّنَة حتى على الأشواك من القتاد، فلا يجزع من المُحْبِطَات، ولاينزعج من العوائق، ولاينهار لدى الهزائم قد تلقاها في جولة من جولات الحياة، التي هي ليست عبارة دائمًا عن النجاح، وإنما هي عبارة في الوقت نفسه عن الانكسار الذي ينبغي أن يستقبله كل خائض لمعارك الحياة راضيًا مسرورًا كما يستقبل النجاحَ. وفي ذلك يكمن سرُّ الانتصار وكسب كل معركة في الحياة.

       المُتَأَنِّي في أمور الحياة أكثر إدراكاً لهذه الحقيقة الناصعة من المُتَسَرِّع المُتَهَوِّر الذي يتعامل معها – أمور الحياة – كأنّها خادمة وفيّة له وُجِدَت مُسَخَّرَةً لصالحه؛ فلا تعصي له أمرًا.

       الفريق الأوّل يكرهه الزملاء المتعاملون معه عاجلاً؛ لأنّه بتسرُّعه وتهوُّره يجعلهم لايُتَابـِعون خطاه المتسارعة؛ فينزعجون ويسخطون ثم يُبْدُون كراهيتهم له وتضايقهم به. أمّا الفريق الثاني المتأني المتباطئ المتمهل؛ فهو محبوب لدى زملائه وجميع المتعاملين معه؛ لأنهم بوسعهم أن سيروا على خطاه، ويتّبعوا آثارَه، ويتلوه في كل ما يأتي ويذر.

       الفريقُ الأوَّل لوَّامٌ لزملائه، عَتَّابٌ لهم على كل حركة وسكون؛ لأنه يطالبهم أن يكونوا “نسخةً منه طبق الأصل” في التسارع والجري وراء الغاية. وهم لاينزلون على مستواه رغم كل محاولة منهم؛ فهو يسخط ويُوَجِّه إليهم اللوم وينالهم بالعتاب؛ فتحدث نحوه الكراهيةُ في قلوبهم، فتتوتر العلاقة القائمة بينه وبينهم، وربّما يتولّد العداء، ولايبقى بينه وبينهم الودّ الصافي القديم؛ فيخسر من حيث يريد أن يكسب. وذلك هو الخسران المبين.

       أما الفريق الثاني الحليم المتمهل المتباطئ، فهو بموقفه من الحياة، يكسب الجميعَ، ويتيح لهم فرصة الاتّباع والمحاكاة والمجاراة، ثم إنه كثير الصفح – الذي يمليه عليه طبعه المتمهل – عن زملائه؛ إنه ينظر إليهم نظرتَه إلى نفسه التي فُطِرَت على التباطؤ، فإن وَجَدَ منهم التباطؤ، قال في نفسه: إنهم أمثالي في التعامل مع الحياة، وإن وَجَدَ منهم التسارع، قال: الحمد لله الذي رزقنا أمثالَ هؤلاء الذين يودّون تحقيق كل وظيفة في الميعاد بل قبل الميعاد. فهو راضٍ مسرورٌ مع الكل، سعيد بهم جميعًا.

       الفريق الأوّل يتعذّب نفسيًّا، ويشقى مع غيره؛ لأنّ الغير في الأغلب لم يُوْلَدْ مُحِبًّا للتسارع، مُعْجَبًا بالارتجال والتهوّر، مُتَبَنِّيًا للسبق إلى العمل والتحرك؛ وإنما وُلِدَ – عادةً – مُحِبًّا للتأنّي والتمهّل؛ فهو – الفريقُ الأوَّلُ المجبولُ على التسرُّع – يتصادم مع من حوله الذين يحتاج أن يتعامل معهم؛ فلا ينهأ له الناس، ولايصفو له العمل، ولايعذب له الأمل؛ فيتأخر من حيث يودّ أن يتقدّم؛ ويتراجع من حيث يحاول أن يتسابق؛ فيكون كالمُنْبَتّ لا أرضًا يقطع وظهرًا يبقي.

       الناسُ في الأغلب يُوْلَدُون مُتَبَاطِئين غير مُتَسَارِعين، مُتَأَنِّين غير مُتَقَدِّمِين، مُتَمَهِّلِين غير مُتَسَرِّعين. والمُتَسَرِّع في الأغلب يكون ذكيًّا، خفيف الحركة واليد، فطينًا للأمور، مُقَلِّبًا لها على أوجهها. والأذكياءُ عدُدهم في الدنيا أقلّ من عدد الأغبياء؛ فالأغبياءُ بعددهم الكثير ومجتمعهم الواسع والأفراد غير القابلين للحصر من بني جسنهم – الغباوة – يسودون الأذكياءَ في العالم، ويسيطرون على إدارة الأمور بشكل لايُتَاح للأذكياء. والكثرةُ الكاثرة، والأغلبيَّة الساحقة هي التي تنجح في معركة الحياة، والقلة القليلة الضئيلة يكون نصيبُها الإخفاق.

       ولو كان عند الأذكياء مقدرةٌ على إدراك هذه الحقيقة لأجمعوا على التأني والتمهل، بل التكاسل والتقاعد، ولما تبنَّوا التسرّع والتهوّر، ولما أحبّوا إنجازَ كلِّ عمل في ثانية أو أقلّ، ولما خلقوا له أعداءً لايُحْصَون، ولما توارثوا من المجتمع حولَه كراهيةً ورفضًا لهم، ولما تعذّبوا في داخلهم، ولما شَقُوا بهؤلاء “الحُلَمَاء” المُتَمَهِّلِين المُتَكَاسِلِين الكارهين للنشاط والسبق والتقدم، ولما جَنَوا الإخفاقَ، من حيث يُحِبُّون الانتصارَ الرائعَ، ولما مُنُوا بالخيبة والتراجع، من حيث يحاولون كلّ النجاح وكاملَ السبق إلى إحزاز قصب السبق.

       الحقُّ أنّ الأذكياء “أغبياءُ” في تعاملهم مع قضايا الحياة – وما رأيتُ ذكيًّا إلاّ “غبيًّا” في قضيّة من قضايا الحياة؛ فليس هناك شخص مُشْرِق في كل جانب، وإنما هو مشرق في جانب ومُظْلِم في جانب – من ثم يَتَبَنَّوْن التسرُّعَ والتعجّل في كل معارك الحياة. والأغبياءُ المتثاقلون “أذكياء” عند ما يحتضنون التمهّل والتأني، ويتكاسلون في إنجاز مشاريع الحياة؛ فينجحون من حيث كان مرجوًّا أن يخيبوا ولايحالفهم نجاح في مجال من مجالات الحياة؛ لأنّ سنّة الله أن المجتهد المصابر المثابر، المتحمل الساهر على إنجاز عمل ما بسعي مطلوب، هو الذي يُوَفَّى أجرَه بغير حساب، وهو الذي يجدر بأن يكسب النجاح ويجني ثمار تحركه الفاعل ونشاطه المُكَثَّف يانعة حلوة؛ فالمُتَسرِّع الراغب رغبةً بالغةً في تحقيق الأعمال وإنجاز الآمال كان جديرًا بأن يسعد وحده بالنجاح المتصل، وكان الفريق الثاني المتمهل المتكاسل هو الجدير بأن يشقى وحده بخيبة الآمال وخسارة الأعمال، ويحظى بكل نوع من الحرمان.

       ولكنّ الله شاء أن تعتمد أمورُ الحياة على المرحليّة والتدريج، وأن تتكامل رويدًا رويدًا؛ فكان التمهّل والتأنّي أحد المعاني المساعدة لمعنى المرحليّة والتدريج، وكان التسرّع والاستعجال من المعاني التي لاتساعده، وإنما تعارضه بكثير من الاعتبارات.

أبو أسامة نور

( تحريرًا في الساعة 3 من مساء يوم الأحد27/6/1430هـ = 21/6/2009م ) .

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، شعبان 1430 هـ = أغسطس 2009 م ، العدد : 8 ، السنة : 33

Related Posts