الفكر الإسلامي
بقلم : الأستاذ أحمد محمد جمال رحمه الله ، المتوفى 1413هـ/1993م
أحد الطلاب العرب المسلمين الذين يتلقون دراستهم العليا في إحدى الولايات الأمريكية كتب إلى عن حوار جرى بينه وبين أحد الطلاب الأمريكان حول الإسلام، وإن هذا الطالب الأمريكي يزعم أن الإسلام دين خاص بالعرب وحدهم.. وليس من حقهم أن يدعو إليه غيرهم من الأمم الأخرى. ويذكر الطالب أنه عجز عن الاستدلال له أو الإحتجاج بأن الإسلام دين عالمي إنساني، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بُعث لسائر البشر من كل الأجناس، وعلى مدى العصور التالية إلى يوم القيامة.
ونقول للطالب الحائر – بإيجاز :
في البداية نقول: ليس عجيبًا أن يقول أمريكي هذا الكلام. ولكن العجيب حقًا أن يردد هذه الزعمة الدكتور محمد أحمد خلف الله في مجلة “العربي” مصرًا على أن القرآن إنما جاء ليعالج مشاكل المجتمع العربي، وأن الرسول إنما بُعث أيضًا ليرشد قومه العرب!!
إن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كانت للناس كافةً، عرباً وعجماً، حاضرين ولاحقين إلى يوم القيامة.. وآيات القرآن الكريم الذي نزل جميعه في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام – تقرر عموم رسالته إلى البشر كافةً.. ولاداعي إلى سردها كلها؛ فالقرآن موجود وحاضر ومحفوظ.. قد ضمن منزله تبارك وتعالى حفظه من التحريف والتبديل ﴿إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّاْ لَه لَحَافِظُوْنَ﴾(2).
وكون الرسول صلى الله عليه وسلم بُعث في العرب، ومن العرب أنفسهم، لا يعني أنه خاص بهم، أو أن رسالته مقصورة عليهم ؛ فإن تاريخ الإسلام وامتداد حضارته الخالدة عبر الأمم والشعوب والأقطار غير العربية، يؤكد عموم الرسالة المحمدية، وشمولها لكل الناس، إلى جانب ماجاء في كتاب الإسلام وحديث رسوله من تقرير هذا العموم والشمول.
لقد تكرر – في القرآن – القول 9 مرات بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الناس جميعًا، لإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وحسبنا آية واحدة منه: ﴿وَمَاْ اَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيْرًا وَنَذِيْرًا﴾(3).
كما تكرر القول فيه: بأن محمدًا جاء بالإسلام مصدقًا لموسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء السابقين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. كما أورد القرآن قصص هؤلاء الرسل مع أقوامهم.. كدليل وحجة ومعجزة لمحمد نبي الإسلام على أنه نبي مثلهم وأنه خاتم لهم.
وتكرر القول في القرآن – أيضًا – بأن يدعو محمد أهل الكتاب من يهود ونصارى إلى “الإسلام” من حيث إنه يتفق مع ديانتهم في الأصل الأصيل لكل نبوة ورسالة، وهو “التوحيد” وأنه جاء ليحرِّم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ويحل لهم بعض الذي حُرم عليهم .
وجاء في سياق هذه المعاني جملة من آية قرآنية: ﴿اِنِّيْ رَسُوْلُ اللهِ اِلَيْكُمْ جَمِيْعًا﴾(4) فما معنى كلمة (جميعًا) إذا كان الإسلام خاصًا بالعرب؟ ولماذا يخاطب الرسول (أهل الكتاب) بدعوة الإسلام إذا كان كما زعم هذا الطالب الأمريكي أو الدكتور محمد أحمد خلف الله. وقد سبقهما إلى ذلك المستشرق اليهودي “قولدزيهر”..
وكيف يقول القرآن للرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿وَقُلْ لِلَّذِيْنَ اُوتُوْا الْكِتَاْبَ وَالأُمِّيِّيْنَ: أَأَسْلَمْتُمْ؟ فَاِنْ اَسْلَمُوْا فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَاِنْ تَوَلَّوْا فَإنَّمَاْ عَلَيْكَ الْبَلاَغُ، وَاللهُ بَصِيْرٌ بِالْعِبَادِ﴾(5) إذا كان لم يترك من تشريعات دينه الخالد إلا مايكفي بعض العرب الذين آمنوا به في حياته فقط؛ كما يزعم هؤلاء المبطلون؟.
والقرآن الكريم – كذلك – يؤكد عموم رسالة الإسلام وظهوره على الأديان السابقة كلها في قوله عز وجل : ﴿هُوَ الَّذِيْ أَرْسَلَ رَسُوْلَه بِالْهُدٰى وَدِيْنِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّيْنِ كُلِّه وَكَفىٰ بِاللهِ شَهِيْدًا﴾(6) ومعنى الآية واضح.. أي أن الله بعث محمدًا بالإسلام ليكون ناسخًا للاديان كلها سماويةً ووضعيةً، وظاهرًا عليها جميعًا وقد تكررت هذه الآية في سورة الصف مع تغيير في نهايتها بقوله عز وجل: ﴿..وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُوْنَ﴾(7).
وكلمة (المشركون) لاتعني العرب وحدهم؛ فالنصارى الذين عبدوا المسيح عيسى بن مريم مشركون.. والذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله مشركون.. واليهود الذين قالوا عزير ابن الله مشركون.. والمجوس الذين عبدوا النار في فارس مشركون أيضًا. وكل من عبد من دون الله شيئًا سواء أكان بشرًا أم حجرًا أم نارًا أم بقرًا؛ فهو مشرك مؤاخذ بشركه معاقب عليه.
وفي القرآن أيضًا: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِيْنَ آمَنُوْا مِنْكُمْ وَعَمِلُوْا الصَّاْلِحَاْتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِيْ الأرْضِ. كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنََّّ لَهُمْ دِيْنَهُمُ الَّذِيْ ارْتَضىٰ لَهُمْ﴾(8) فماذا يعني وعد الله باستخلاف المسلمين في الأرض، وتمكين دينهم من انتشار الإسلام في أمم الأرض جمعاء. وقد اعتنق الإسلام فعلاً أقوام من غير العرب في كل قارات الدنيا.. هم أكثر من العرب عددًا وقوةً.
الإسلام دين عالمي !
نتابع إجابتنا للطالب العربي الذي يدرس في احدى الجامعات الأمريكية حول عالمية الدين الإسلامي.. ردًا على زعمة زميله الأمريكي بأن الإسلام دين العرب وحدهم! وهو رد – أيضًا – على الدكتور “محمد أحمد خلف الله” فيما نشره بمجلة “العربي” حول الزعمة نفسها(9).
لقد ثبت أن الصحابة كانوا يسمعون الرسول عليه الصلاة والسلام يقول لهم: إن الأرض سوف تستسلم لهم، وإنهم سيرثون مملكة كسرى وإمبراطورية قيصر، ويحلف لهم “والله لتنفقن كنوزهما في سبيل الله”؟!
ويقول لهم أيضًا: “كان النبي يبعث إلى قومه خاصةً، وبُعثتْ إلى الناس كافةً” ويقول لهم : “عصيبة من المسلمين يفتحون البيت الأبيض بيت كسرى” وحين رأوا إيوان كسرى يبدو أمامهم ؛ كما وصفه الرسول الصادق المصدق تذكروا ماوعدهم به، فقويت عزائمهم، واشتاقت نفوسهم إلى أن يكونوا هم تلك (العصيبة) الفاتحة؛ فصاح ضرار بن الخطاب: “الله اكبر.. هذا “أبيض” كسرى.. هذا ماوعد الرحمن وصدق رسوله” وصاح المسلمون: الله اكبر. وأقدموا على فتح المدينة إقبال الفاتح المنصور.
ذلك ملخص مايرويه مسلم في صحيحه عن جابر بن معمر. ويروى الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم مابلغه أنه قال: “ليبلغن هذا الأمر” أي الإسلام “ما بلغ الليل والنهار، ولايترك الله بيت مدر ولاوبر إلا أدخله الله في هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر”.
وفي حديث آخر: “إن الله سيفتح عليكم بعدي مصر؛ فاستوصوا بقبطها خيرا؛ فان لهم منكم صهرًا وذمةً” وقد فتحت مصر صلحًا، وكان هذا الحديث من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم.
وهناك الحديث الذي سبق إن أثبتناه – في تعليق مضى – وهو قوله عليه الصلاة والسلام: “أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى، ورؤيا أمي رأت نورًا يخرج منها أضاءت منه قصور كسرى وقيصر”.
أفليس هذا “النور” هو الإسلام الذي حمله المسلمون إلى فارس والروم وإلى غيرهم.
وفي حديث آخر: “لو كان الدين – أو الإيمان أو العلم على اختلاف الروايات – معلقًا بالثريا لنا له رجال من فارس” وقد صدقت نبوءته عليه السلام؛ فأخرجت فارس نوابغ العلماء في التفسير، ومصطلح الحديث وشرحه، وضبط قواعد اللغة العربية وبلاغتها. إلى غير ذلك من نبوءاته عن انتشار الإسلام ومايفتح الله على المسلمين من نصر وخير وبركة، في أقطار الأرض وبين مختلف الأمم والشعوب.
بل إن رسالة محمد تجاوزت الإنس إلى الجن؛ كما نص على ذلك القرآن في سورة خاصة باسم “الجن” وقال في سورة الأحقاف: ﴿وَاِذْ صَرَفْنَاْ اِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُوْنَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوْهُ قَالُوْا اَنْصِتُوْا فَلَمَّا قَضىٰ وَلَّوْا اِلىٰ قَوْمِهِمْ مُنْذِرِيْنَ﴾(10).
إن القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم غنيان بالأدلة والوعود الصوادق والأنباء الصحاح، عن انتشار الإسلام وانتصار المسلمين على دول الكفر وحكومات الشرك والوثنية.
لأنه “الدين” الذي اختاره الله لعباده، واصطفى محمدًا لبلاغه، ثم خلفه أصحابه وتابعوهم للحفاظ عليه، وتبليغه إلى اللاحقين، ثم يتسلسل البلاغ من داعية إلى داعية، ومن أمة إلى أمة، وبذلك كان دين محمد هو الدين الحق الخالد: “إن الدين عند الله الإسلام” لا اليهودية ولا النصرانية ولاغيرهما من ديانات.
وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بقوله: “بلغوا عني ولو آية فرب مبلغ أوعى من سامع” وفي رواية “نضر الله إمرءًا سمع مقالتي؛ فبلغها كما سمعها – أو أداها كما سمعها – فرب مبلغ أوعى من سامع” وفي رواية ثالثة: “فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه”.
ومن هنا كانت بلاغة القرآن وإعجازه، وبلاغة الحديث النبوي وإعجازه كذلك.. لقد اتسعا للفهوم المختلفة، والعقول الزكية والنفوس الرحبة الصافية.. وكانت كل الفهوم والآراء، وجميع التعريفات والاستنباطات تلتقي مهما تعددت معانيها – على الكتاب والسنة؛ لأنها الأصلان الثابتان الكاملان الشاملان لمصالح الناس كافةً، على تعاقب الأجيال وتتابع القرون.
* * *
الهوامش :
- الحجر آية 9.
- سبأ آية 28.
- الأعراف آية 158.
- آل عمران آية 20.
- التوبة آية 33.
- الصف آية 9.
- النور آية 55.
- مجلة “العربي” العدد (291) التي تصدر في الكويت.
- الأحقاف آية 29.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، جمادى الأولى – جمادى الثانية 1430 هـ = مايو – يونيو 2009 م ، العدد : 5-6 ، السنة : 33