الفكر الإسلامي
بقلم : الإمام محمد قاسم النانوتوي المتوفى 1297هـ/1880م
رئيس الطائفة المؤسسة لجامعة ديوبند
تعريب : الأستاذ محمد ساجد القاسمي*
بعد معرفة هذه الفروق السبعة، يتضح لأولي الفهم والعقل أنَّ استقبال القبلة وعبادة الآلهة، بينهما من الفرق ما بين الأرض والسماء؛ وإن كان الباندت لجهله يراهما أمرين متساويين.
وأما الفرق الثامن الذي لم أذكره حتى الآن، والذي هو عليه مناط الفروق المذكورة فذكره لازم وضروري. ولما كان الفرق الثامن يتضمن – إلى بيان الفرق بينهما – سببَ استقبال القبلة، وعدم أهلية الأصنام للاستقبال، فضلاً عن العبادة ؛ رأيت أن أفرده بالذكر؛ لأنَّ معرفة سبب استقبال القبلة كانت لازمة، وإن لم توجد عبادة الآلهة في العالم.
جملة القول أنَّ الغرض من وراء الرد الأول هو بيان الفرق بين استقبال القبلة وعبادة الآلهة، وهو يتلخص في أنَّ عبادة الآلهة عبارة عن عبادة غير الله، واستقبال القبلة عبارة عن عبادة الله؛ وقد تواطأ العقلاء على حسن عبادة الله، وقبح عبادة غير الله، فكان الرد إلزاميًّا.
وأما الرد الثامن – ولوفرضنا أنه لم تكن حاجة إلى بيان الفرق بينهما ولم يوجد معترضون على استقبال القبلة – فالحاجة ماسة إلى بيان سبب استقبال القبلة؛ لتطمئن قلوب المسلمين. فيكون هذا الرد تحقيقيًّا. فرأيت أن أفرده بالذكر. ولما كان هذا الرد طويل النَّفَس، فإن أحطته بجميع جوانبه يضيق القراء ذرعَا، وإن أوجزته يبقى في قلوب المولعين بالتفاصيل حاجة لاتقضى؛ رددت رَدَّين، أحدهما: موجز، وثانيهما مفصل؛ حتى يجد كلا النوعين من القراء ما يوافق ذوقه، فيعرف الحق من الباطل وينصف ويدعولي بالخير.
الكعبة مهبط تجليات الله:
لانعتقد أنَّ الكعبة معبودنا، وإنما نعتقد بأنها مهبط تجليات الله؛ ولما كان التجلي – أي انعكاس – عينَ ذي انعكاس أو صورة عين ذي صورة فالسجود إلى ذلك التجلي عين السجود إلى الله .
والسبب في كون انعكاسٍ عينَ ذي انعكاس أو صورة ٍعينَ ذي صورة هو أنه لولم يكن عينه وإنما كان غيره لما أمكن معرفة ذي الانعكاس أوذي الصورة بالانعكاس والصورة؛ وكان كل شيء صورة لشيء آخر، أي إذا لم يكن شرط الاتحاد بين الانعكاس وذي الانعكاس أو الصورة وذي الصورة، فكيف يعرف – بالرغم من المغايرة – ذو الانعكاس بالانعكاس أو ذو الصورة بالصورة، ولايعرف عمرو بصورة زيد؟
نعم ! لو قلنا: إنَّ الصورة في كلا الموضعين واحدة، غير أنَّ ذي الصورة منفرد، أو قلنا: إنَّ مظاهره مختلفة؛ لصح القول بالمعرفة و اتضح معنى المغايرة وعرفنا لماذا يطلق الناس على صورة بأنها عين فلان؟
فالقول بالعينية – التي ترسخ في قلوب الناس وتلهج به ألسنتهم – سببه الاتحاد في الصورة والعينية. وأما كون الكعبة مهبط تجليات الله ، فالسبب في ذلك أنَّ الفضاء – وهو الخلاء الذي ما بين الأرض والسماء والذي يسع الأجسام كلها – بالنسبة إلى الوجود، كالمرآة بالنسبة إلى النور. ومعنى ذلك أنَّ الأجسام كلها يعرضها النور؛ فتُحسُّ، ولولا ذلك لما كان إلى الإحساس بالأشكال والأجسام، ورؤية ألوانها من سبيل.
ما يُحسُّ بالبصر هو النور، واختلافه يدعى الألوان. وبالرغم من هذا الاشتراك، أنَّ علاقة الأجسام مع النور ليست كعلاقة المرآة معه؛ فالنور محسوس و المرآة محسوسة كذلك ، والنور ذو شفافية لا يمنع نفوذ البصر. أما الهواء وإن كان فيه شفافية فلايحس، أي لايشاهد. وأما الأجسام فهي تحسُّ ، ولا شفافية فيها. فبفضل الشفافية والإحساس تصبح المرآة متجلى النور، فالمحسوس بالبصرفي النور إذا قابل المرآة ينعكس فيها.
قياسًا على هذا فالمخلوقات كلها يعرض لها الوجود، فتنطبق عليها أحكام الوجود، وإلا فلو كانت المخلوقات موجودةً من صنع ذاتها لكانت كالموجود الأصلي – وهو الوجود – لايعرض لها الفناء والعدم. غيرأنَّ المخلوقات كلها، وإن كانت تشترك في كونها معروضة للوجود إلا أنّ الفضاء المذكور له من العلاقة مع الوجود ما ليس للمخلوقات الأخرى.
بيان هذا الإجمال يتلخص في الأمور التالية:
1- كما أنَّ الوجود هو المحتاج إليه العام والمستغني عن غيره في عالم الكون، والمخلوقات هي الأخرى محتاجة إليه، كذلك الفضاء المذكور هوالمحتاج إليه المستغني عنه في عالم الأبعاد؛ فأشياء ذات الأبعاد تحتاج إليه في الوجود.
2- كما أنَّ الوجود غير محدود وغير متناهٍ، كذلك الفضاء غير محدود وغير متناهٍ.
والسبب في كون الوجود غير متناهٍ هو أنه إن كان متناهيًا كان ضمن دائرة، والدائرة إنما تتصور إذا قطع شيء صغيرمن شيء أكبر؛ لذلك يفرض أولاً شيء أوسع وأكبر، ثم تحصل دائرة. بناءً على هذا يجب لكل مقيد مطلق؛ كذلك الشأن في المتناهي، أي حيثما يوجد متناهٍ يوجد غيرمتناهٍ يقطع منه متناهٍ بالحد أو الدائرة. فلما رأينا الوجود لم نجد شيئًا أوسع منه؛ فلايكون محدودًا.
فإذا قلنا أنَّ الوجود محدود لزم أن يكون فوقه شيء أوسع وأشمل. فإن كان الوجود محدودًا بهذا السبب، كان الفضاء محدودًا كذلك. وإلا لزم أن نسلم بامتداد غير متناهٍ فوق الفضاء.
جملة القول أنه إن لم يكن الفضاء غيرمتناهٍ لزم أن نسلم لهذا الفضاء فضاءً غيرمتناهٍ؛ فالأحسن أن نعتبر هذا الفضاء غيرمتناهٍ، وإلا لزم التسلسل؛ فللفضاء فضاء وللحرارة حرارة وللبرودة برودة وللوجود وجود و للعدم عدم وهلمَّ جرًا.
3- كما أنَّ الوجود ليس صالحًا للحركة، كذلك الفضاء ليس صالحًا للحركة. وأما عدم كون الفضاء صالحًا للحركة فأولاً أنه معقول وثانيًا أنه يجب للحركة أن تكون الأجسام مظروفًا والفضاء ظرفًا لها، فتتحرك الأجسام فيها؛ كذلك الفضاء يجب – إذا سلمنا له حركة – أن يكون مظروفًا لفضاء آخر، والفضاء الآخر ظرفًا له؛ ليتحرك فيه.
قياسًا على هذا فإذا كان الوجود متحركًا وجب أن يكون له شيء يحيط به؛ وقد سبق أن ذكرت أنه ليس له دائرة تحيط به، ولا فضاء يشمله.
4- كما أنَّ الوجود لا يكون فيه خرق والتئام، كذلك الفضاء لايكون فيه خرق والتئام؛ وذلك أنَّ الخرق والالتئام يقتضي أن ينفلق الفضاء فلَقَتَين عند الخرق، وأن يفصل بينهما فاصل. وقد أسلفت أنَّه لا يتصور ذلك في الفضاء.
وهنا كثير من وجوه الشبه بين الفضاء والوجود، غير أنّي أكتفي بهذه الأربعة خوفًا من الإطالة.
وبعد فأقول: لما كانت هذه الأربعة تعمّ الوجود والفضاء دون غيرهما من الأشياء ذات الأبعاد كالأجسام ؛ قلنا بأنّ ما كان بين النور والمرآة من علاقة ؛ فأصبحت المرآة – بسبب العلاقة المذكورة – مهبط النور، كذلك الفضاء – بسبب العلاقة المذكورة – هو مهبط الوجود؛ فإذا قابل ما في الوجود من أشياء الفضاءَ انعكس فيه.
فلما تأملنا في وجود الله، وجدنا له علاقة مع جمال الله؛ كعلاقة الأشعة مع الشمس. معنى ذلك أنَّ الأشعة لاتنفك عن الشمس، والأجسام – إذا عرضت لها الأشعة أو وقعت عليها أو اتصلت بها – تتنوَّر، وهي منفكة عنها كسيرتها الأولى. كذلك وجود الله ينفك عنه دائمًا، فما عرض له الوجود أو اتصل به أو وقع عليه من مخلوقات وممكنات، يصير موجودًا، وأما الوجود فهو كما كان منفكًا عنها من قبلُ، كذلك ينفك عنها بعدُ؛ لذا تفنى المخلوقات.
للانعكاس شرطان:
فلما كان الأمر كذلك، فكما أنَّ الأشعة تحيط بالشمس، كذلك الوجود يحيط بجمال الله، وكان الفضاء صالحًا لانطباع الوجود فيه وانعكاسه عليه. غير أنَّ المرآة يجب للانعكاس فيها أن تكون المرآة مصقولة ومقابَلَة للشيء المنعكس فيها. كذلك الفضاء يجب فيه للانعكاس التقابل ، وأمر آخر– مكان الصقل – يمنع نفوذ البصر، بل يرجعه – كالكرة إذا ضُرِبَت على شيء صلب تعود واثبةً – فيستقر على الشيء الأصلي، فتنعكس فيه الصورة.
جملة القول أنّ الصقل شيء مظلم للبصر الظاهري، كذلك لابد للبصيرة من شيء مظلم، والشيء المظلم هو العدم الذي يحيط بالموجودات الخاصة المقيدة ومنها الفضاء المذكور كإحاطة الظل بنور الشمس المنتشر في فناء الدار. والعدم ظلمة ليس فوقه ظلمة. أما التقابل فكما أنَّ الشمس هي مبدأ أشعتها، كذلك جمال الله مبدأ هذ ا الوجود.
الكعبة مبدأ أجسام العالم:
فلما رأينا كعبة الله وجدناها مبدأ أجسام العالم؛ وهذا الحادث عريق في الماضي، ولا سبيل إلى الاطلاع على حوادث الماضي و وقائعه إلا بالرجوع إلى الأخبار المتواترة والرواة الموثوق بهم؛ فما وجدنا في هذا الشأن كتابًا ولا رواة أفضل من القرآن والرواة المسلمين.
أما حفظ القرآن وصيانته فقد توجد آلاف من حفظة القرآن في هذا الزمان؛ فعرفنا من ذلك أنَّ حفظ القرآن بهذا الأسلوب تقليد قديم كان متبعًا في القرون الماضية. وأما حفظ الأحاديث فقد بلغت العناية في هذا الشأن، أن دُوّن أسماء الرواة وأنسابهم ومساكنهم وحفظهم وذكاؤهم وأمانتهم و زهدهم و تقواهم وقرونهم وطبقاتهم. وكل هذا يؤخذ في عين الاعتبار عند تنقيح الروايات.
وقد جاء في القرآن: “إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُّضِعَ لِلنَّاسِ لَلّذِيْ بِبَكَّةَ”(1) وجاء في الحديث ما معناه: كان هنا ماء قبل خلق الأجسام الموجودة، فارتفع حباب حيث الكعبة اليوم، ثم دُحيت منه الأرضُ.(2)
عرفنا من الآية والحديث أنَّ الكرة الأرضية والكعبة مبدأ كل شيء، فقابل مبدأ الكون مبدأَ الأرض والسماء وهو فضاء الكعبة، ولم يحل بينهما حا ئل – كما لاتصل أشعة الشمس إلى الأرض إذا حيل بينهما – فيصعبَ – فيما إذا حيل بينهما – بقاء الموجودات.
فضاء الكعبة مهبط تجليات الله:
وجملة القول أنه ليس هنا حائل، وأنه يوجد التقابل والانعكاس والشيء المظلم، فما يمنع الانعكاس؟ فعرفنا أنَّ فضاء الكعبة مهبط تجليات الله، وأنَّ تجلياته ليست مقيدةً في الفضاء ولا في الجهة، وإلا لزم القول بتقييد انعكاس الشمس في المرآة، مع أنَّ المرآة لا تسع الشمس ولاانعكاسها، إنما هي معرض للشمس،لا أصلها ولا انعكاسها. كذلك الفضاء المذكور ليس محيطًا بوجود الله، فيوهم زوال التنزيه.
الكعبة هي المسجود إليها لا المسجود:
فالمسجود هو التجلي، والفضاء هو معرضه و جدرانها هي حدوده، لا المسجود، وإنما هي المسجود إليها أي القبلة. فلما لم تكن جدرانها مسجودًا ومعبودًا، كان اعتبار استقبال الكعبة وثنية والتسوية بينهما أمرًا باطلاً.
ومن الخطأ أن يقال – قياسًا على هذا – أنَّ الأصنام هي المسجود إليه، لا المسجود و المعبود؛ فأولاً لفظة “عبادة الأصنام” و نية عبّادها تدل على بطلانه، وثانيًا أنَّ الأصنام لاتصلح أن تكون مهبط تجليات الله؛ لأنها ليست لها علاقة، كعلاقة الكعبة مع وجود الله ؛ فتكون معرضًا لتجلياته.
ومماعرفنا من فقدان وجوه العلاقة الذي ذكرناه آنفًا، لايقال: أنَّ عبادة الأصنام كفر وشرك وإلحاد؛ لأنَّ الجهال اتخذوا الأصنام مسجودًا ومعبودًا، مكان المسجود إليه، ولابأس بأن يعبدوا الأصنام معتبرين إياها مسجودًا إليها.
جملة القول أنَّه لابد أن يكون المسجود إليه متجلى المسجود، وإلا لا يكون المسجود إليه مسجودًا إليه. فلما تقرر بإنه لابد لكل مسجود إليه من مسجود يتجلى فيه، وأما الأصنام فلا تصلح أن تكون متجلى، فهذا الاعتذار عن الجهال وعباد الأصنام كان أسوء وأسخف.
* * *
الهوامش :
(1) سورة آل عمران/96
(2) روي عن كعب أنَّ البيت كانَ غثاءً على الماء، قبل أن يخلق الأرض بأربعين سنة، ومنه دحيت الأرض (مصنف عبدالرزاق باب بنيان الكعبة رقم الحديث: 9098). وقال ابن عباس:إنَّ الله لما بسط الأرض على الماء، مالت كالسفينة، فأرساها بالجبال الثقال، لئلا تميل بأهلها. (روح المعاني للآ لوسي: تفسير آية ألقى في الأرض رواسي) وعن ابن عباس قال: وضع الله البيت على أركان الماء: على أربعة أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت.(تفسير ابن كثير: آية إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت)
* * *
* *
* أستاذ بالجامعة الإسلامية : دارالعلوم ، ديوبند ، الهند .
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، جمادى الأولى – جمادى الثانية 1430 هـ = مايو – يونيو 2009 م ، العدد : 5-6 ، السنة : 33