الفكر الإسلامي
بقلم : أ. د. محمد الدسوقي
تدل مادة “كفل” لغويًا على عدة معان منها الرعاية والإنفاق والضمان والنصيب والمثل. وكلمة التكافل تشير إلى أن مسؤولية الرعاية مشتركة بين أفراد الأمة كلها كالتشاور والتراحم والتضامن والتعاون، وسوى ذلك مما تدل عليه صيغة التفاعل..
فالتكافل في الإسلام مسئولية الجميع، كل حسب قدرته، وما يسر له من الطاقات والإمكانات، وإلى هذا المعنى ينبه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا” رواه الشيخان، ثم شبك رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصابعه تأكيدًا لمعنى يشد بعضه بعضا.
والقرآن الكريم حين يقرر: ﴿إنَّمَا الْمُؤْمِنُوْنَ إخْوَة﴾ الحجرات: آية 10، فإنما يقرر أن بينهم تكافلاً وتضامنًا في المشاعر والأحاسيس وفي المطالب والحاجات، وفي المنازل والكرامات، وذلك لأن إعلان الإخاء بين أفراد مجتمع ماهو تقرير للتكافل بهذا المعنى الشامل(1) الذي يعبر عن وحدة الأمة أصدق تعبير، ويؤكد أنها كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
وما دام التكافل في الإسلام على هذا النحو من الشمول، ومادام مسؤولية مشتركة بين الجميع؛ فإنه لا يكون مقصورًا على الجانب المادي في حياة الأمة، كما لايكون إحسانًا وتفضلاً كما قد يظن بعض الناس، وإنما هو حق واجب، وفريضة مشروعة، وهو أيضًا تكافل يتجاوز الحاجات المادية إلى سائر جوانب الحياة الإنسانية؛ لأنها – بما تشتمل عليه من قيم يحرص الإسلام عليها أبلغَ الحرص – تحفظ على الأمة صدق إيمانها وسمو مشاعرها ومتانة الصلة بين أفرادها.
التكافل المعنوي:
إن بين المسلم وأخيه تكافلاً معنويًا يتمثل في المحبة والوئام؛ فلا بغضاء ولا شحناء، ولا كراهية، ولكن محبة صادقة ومودة حميمة وعطف كريم تعكس معاني الأخوة التي تفرض على المسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه حتى يصح إيمانه ويسلم يقينه، كذلك يتمثل هذا اللون من التكافل في مواقف متعددة منها التهنئة في السراء والمواساة في الضراء، والتعاون على البر والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسعي عند الحاجة والمعاونة عند الشدة، والعفو والصفح والتجاوز عن العثرات واللمم، قال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ آل عمران: الآيتان 133، 134.
فالمسلم الذي يحب أن يغفر الله له ويعفو عما وقع منه ينبغي عليه أن ينفق في كل حال، وأن يحاول التخلق بالصفح وكظم الغيظ والإحسان إلى الآخرين(2).
ويبلغ الإسلام درجةً ساميةً في التجاوز عن العثرات حين يدعو إلى العفو فحسب؛ وإنما يدعو إلى الدفع بالتي هي أحسن، أي الرد على السيئة بالحسنة فهما لا يستويان أبدًا ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ فصلت: الآيتان 34، 35.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن” رواه الترمذي.
وحتى يسود هذا التكافل المعنوي المجتمع أمر الإسلام بالإصلاح بين الناس، وحرم كل ما يمزق وشائج الإخاء، وينزع المحبة والرحمة من القلوب، وحسن المعاملة في التصرف والسلوك؛ فقد حرم الربا والاحتكار وأكل المال بالباطل والغيبة والنميمة والكذب والنفاق والفردية والسلبية والأثرة، وغير ذلك من الصفات الذميمة التي تفرق بين المؤمنين، وتجعل بأسهم بينهم شديد؛ فلا يعتصمون بحبل الله، ولا يتراحمون ولا يتناصفون، ولا يواجهون عدوهم صفًا واحدًا كأنهم بنيان مرصوص.
وبتلك المعاني التي أوجزت القول فيها يتحقق التكافل في أرفع صوره وأرق مشاعره بين الناس؛ لأنه تكافل معنوي ينبثق من العقيدة التي ألفت بين القلوب وآخت بين البشر كافة، وحررت الإنسانية من كل مزاعم العنصرية والطائفية، ودعت إلى العدالة والفضيلة واحترام آدمية الإنسان دون نظر إلى عقيدته أو جنسيته، ولا تعرف النظم الوضعية هذه المعاني في التكافل فهي تقصره على الإعانات المادية في نطاق محدود.
التكافل المادي:
والحديث عن التكافل المادي في الإسلام – وهو ما يتبادر إلى الذهن عند إطلاق كلمة التكافل – يقتضي أولاً الإشارةَ إلى أن تعاليم هذا الدين كلها تأمر بالعمل بمفهومه الواسع، وتحرم الكسل والإهمال والمسألة والعيش عالةً على الآخرين، كما تثبت حق كل إنسان في أن تيسر له الأمة عملاً مشروعًا حتى لا يكون فيها فرد عاطل، وعضو مستهلك فقط، ومن ثم تدور عجلة الإنتاج في قوة، وتجني الدولة أطيب الثمرات في مختلف المجالات، ويتوافر لها بهذا كله كل أسباب القوة والمنعة والعزة والقيادة، وإعلاء كلمة الله في الاَرض؛ فمنطق الحياة يؤكد أن الأمم العاملة هي الأمم القوية العزيزة، وأن الأمم الخاملة المتواكلة المهملة هي الأمم الضعيفة المتخلفة التي تفقد حريتها وكرامتها، واستقلالها.
إن الإسلام يدعو إلى العمل وإعداد القوة في شتى مجالات الحياة؛ رهبةً للعدو، وحمايةً للأهل والوطن، ودفاعًا عن المستضعفين، وتمكينًا للحرية الدينية في الأرض، ولا سبيل إلى تلك القوة إلا بالإيمان الراسخ، والعمل المخلص في كل ميدان، ولذلك قرن الكتاب العزيز الإيمان بالعمل في آيات كثيرة، وحذر من القول دون الفعل، وعده مقتًا كبيرًا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾ الصف: الآيتان 2، 3.
وهذا الجانب في حياة الأمة الإسلامية، جانب العمل والإنتاج يحقق لها التكافل الذي يحمي من الضعف على تباين صوره، ويجعل منها في كل زمان ومكان أمةً عزيزةً أبيةً لا ترضى بالدنية في دينها ودنياها: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ المنافقون: آية 8.
مجالات التكافل المادي:
يشمل هذا التكافلُ كلَّ من انقطعت بهم أسباب العيش لعجز أيًّا كان لونه، كما يشمل كل من تعرض لخسارة مالية بسبب جائحة “وهي الآفة التي تهلك الثمار والأموال وتستأصلها، وكل مصيبة عظيمة”، أو حريق أو سيل أو دين في غير معصية ولو كان لديه مال ولكن الدين محيط به، هذا الجانب من التكافل وإن كان في شكله ماديًّا؛ فهو في جوهره تكافل معنوي، لُحمته وسداه الأخوة في العقيدة، وحق الرعية على الراعي، والإيمان بأن المال الذي بأيدينا إنما هو مال الله ونحن خلفاء عنه فيه، وعلينا أن ننفق من هذا المال كما أمر سبحانه.
قال الله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوْا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِيْنَ فِيْه﴾ الحديد: آية7، ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ الإسراء: الآيتان 26، 27.
هذا الجانب من التكافل جعله الإسلام أمرًا مفروضًا سواء أكان في محيط الأسرة أم البيئة أم الأمة بأسرها.
ففي محيط الأسرة فرض الإسلام على القادرين فيها رعاية الفقراء والعاجزين، كما وضع الإسلام نظامًا دقيقًا للميراث يدعم التكافل بين أفراد الأسرة، ويجمعهم تحت لواء التناصر والمودة(3).
وفي محيط البيئة كالقرية أو الشارع أو الحي مثلاً يجب على أفرادها التكافل والتعاون، فهم بحكم وحدة البيئة يعرفون مشكلاتهم وقضاياهم، كما يعرفون الفقير والمحتاج بينهم؛ فإذا لم يحققوا التكافل والتعاون الذي فرضه الله عليهم، وأُهْمِل الفقير فيهم حتى بات جائعًا، أو تعرض للهلاك فقد برئ الله منهم، وقد رُوِي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “وأيّما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله تعالى”(4).
وقد أفتى الإمام ابن حزم بأنه: “إذا مات رجل جوعًا في بلد اعتبر أهله قتلته، ثم أخذت منهم دية القتل”، وما ذلك إلا لأنهم بهذا قد منعوا الحق عن صاحبه فاعتُبِروا بغاةً؛ لأن للفقير والمحتاج ومن في حكمهما حقًا في مال الأغنياء – عدا الزكاة – فإذا احتاج الفقراء ونحوهم إلى مطعم أو ملبس، ولم يقم الأغنياء بما يجب عليهم قبل الفقراء، فقد منعوا حقًا مكتوبًا “ومانع الحق باغ على أخيه الذي له الحق”(5).
﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ التوبة: آية 60.
كما أنها ليست سوى قاعدة واحدة من قواعد التكافل العام في الإسلام(6)؛ فلولي الأمر – عن طريق الشورى – الحق في أن يفرض على الأغنياء ما يكفي حاجةَ الفقراء غذاءً وملبسًا ومسكنًا، قال الإمام ابن حزم: وفرض على الأغيناء من كل بلد أن يقوموا بفقرائهم ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات ولا في سائر أموال المسلمين بهم فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لابد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر والصيف وعيون المارة، برهان ذلك قوله تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ الإسراء: آية 26، وقال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا﴾ النساء: آية 36.
فأوجب تعالى حق المساكين وما ملكت اليمين مع حق ذي القربى، وافترض الإحسان إلى الأبوين وذي القربى والمساكين والجار وما ملكت اليمين، والإحسان يقتضي كل ما ذكرنا ومنعه إساءة بلاشك(7).
وهذا واضح في أن العلاقة بين أفراد المجتمع الإسلامي لا تعرف الأثرة أو الفردية، وأنه إذا وقع انحراف أو طغيان للمصلحة الخاصة على المصلحة العامة كان على الحاكم المسلم أن يعالج ذلك الانحراف، ويقضي على هذا الطغيان؛ منعًا للضرر والخطر، وحمايةً لأصالة المجتمع الإسلامي في التكافل والتعاون على البر والتقوى.
وقد اهتم الاقتصاد الإسلامي بتأمين الأطفال واللقطاء وسبق النظم العالمية في هذا؛ فقد فرض عمر بن الخطاب t لكل مولود مائة درهم فإذا ترعرع بلغ مائتين، كما فرض لكل لقيط مائة درهم، ولِوَلِيِّه كل شهر رزقًا يعينه عليه، ثم يسوي عند كبره بسواه من الأطفال.
أمّا اليتيم فقد وصَّى به القرآن الكريم توصيةً شديدةً تضمن له تأمينًا كاملاً وكفالةً تامةً: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ الماعون: الآيات 1-3، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ النساء: آية 10 إلى آيات أخر في وجوب كفالة اليتيم ورعايته، فضلاً عن الأحاديث الكثيرة التي رُوِيَتْ عن حقِّ اليتيم في العناية به وحفظ ماله، وما ينتظر المحسنين لليتامى من خير وما أُعِدَّ للمقصرين في حقهم أو المفرطين فيه والمضيعين له من عذاب أليم.
وكذلك العمال والمرضى ومن في حكمهم لهم حقوق تكفل لهم حياةً طيبةً فاضلةً؛ فكل فرد في المجتمع الإسلامي – دون تفرقة بين الأديان والأجناس – له حق الحياة الإنسانية الكريمة، فقد رُوِيَ أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رأى يهوديًا مسنًا يسأل الناس، فسأله: ما الذي حملك على هذا؟ فأجاب: الجزية والسن، فقال عمر له: ما أنصفناك أكلنا شبيبتك حتى إذا كبرت ووهن عظمك أضعناك، ثم أمر به وبنظرائه فوُضِعَت عنهم الجزية، وفُرِضَ لهم من بيت المال ما يكفيهم(8).
ومفهوم التكافل في الإسلام لايعني فقط – كما أو مأت – تأمين الفقراء ومن في حكمهم على أنفسهم وعلى أولادهم؛ ولكنه يشمل أيضًا تأمين أرباب الأموال على مستواهم الذي وصلوا إليه بجدهم في الحلال، فقد أمن الإسلام كل فرد على ماله من مسكن وأثاث ومال في التجارة وغيرها ضد الغرق والحريق والآفات العارضة كما ضمن له كل دين ينفقه في المكارم أو المصلحة العامة.
وقد روى الإمام الطبري عن مجاهد في تفسير الغارمين الوارد ذكرُهم في آية الزكاة. قال: من احترق بيته أو يصيبه السيل فيذهب متاعه ويدان على عياله فهذا من الغارمين(9).
وقال الإمام القرطبي: ويُعطىٰ منها – أي الصدقات – من له مال وعليه دين محيط به ما يقضي به دينَه، فإن لم يكن له ماله وعليه دين فهو فقير وغارم فيُعطىٰ بالوصفين(10).
وذهب الإمام الشافعي والإمام أحمد إلى أن من تحمل حمالات في إصلاح وبر يدخل في الغارمين وإن كان غنيًا إذا كان ذلك يجحف بماله(11).
وكان عمر بن عبد العزيز يقول لرجاله في الأمصار: اقضوا عن الغارمين فكتب إليه بعضهم: إنا نجد للرجل منهم مسكناً وخادمًا وفرسًا وأثاثاً، فكتب إليهم عمر: نعم؛ فاقضوا عنه؛ فإنه غارم(12).
فكل من تنزل به خسارة مالية من غير معصية بحيث تهدد حياته الاقتصادية فإنه يأخذ من سهم الغارمين أو من بيت المال ما يعوض خسارته، ويسد خلته ويؤمنه على مستوى معيشة مناسب له، وكذلك كل من تحمل ديةً ليطفئ بها فتنةً، أو يجتث عداوةً ويؤلف بين القلوب، فإنه يأخذ من سهم الغارمين، حتى لا تكون مروءته سببًا في إملاقه، وما أروع ما فعله خامس الراشدين، إذ عد من لديه المسكن والفرس والخادم والأثاث غارمًا يُقضىٰ عنه دينُه، فالفرد الذي يملك هذه الأشياء في ذلك العصر كان يستطيع أن يعيش حياةً خاليةً من الشظف وإن كانت لا تعرف الترف، ومع هذا يعده الخليفة العادل غارمًا، وكأنه بهذا يشير إلى أن مسؤولية الحاكم تفرض عليه أن يحقق لكل فرد ما يُسمّىٰ اليوم “بالرخاء أو الرفاهية الاقتصادية”.
وبعد :
فإن مفهوم التكافل في الإسلام مفهوم شامل واسع الدائرة، يستوعب جوانب الحياة الإنسانية جميعها، وينعم بخيره المسلمون وغير المسلمين الذين يعيشون في ظل الإسلام، فحماية الإنسان وتحقيق مستوى لائق من العيش له مبدأ إسلامي وأصل من أصول شريعتنا الغراء. ولا خلاف في أن ذلك المفهوم لا يتمثل بحال في القوانين الوضعية، فهي – كما أسلفت – محدودة المجال والأثر، باللإضافة إلى أن المفهوم الإسلامي للتكافل مرتبط كل الارتباط بعقيدة المسلم على حين لا يتحقق هذا المعنى في القوانين الوضعية ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ البقرة: آية 138.
* * *
الهوامش :
- انظر: اشتراكية الإسلام للدكتور مصطفى السباعي ص 109 ط 2 الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة.
- انظر في ظلال القرآن ج3 ص 75 ط دار الشروق.
- انظر الأسرة في التشريع الإسلامي للدكتور محمد الدسوقي ص 429، ط. دار الثقافة، الدوحة.
- رواه الإمام ابن حنبل في المسند ج2/33 ط. الميمنية – القاهرة .
- المحلى : ج6 ص 159 ط. دار التراث – القاهرة.
- ومن قواعد التكافل، الوقف بنوعية، والوصية، والنذور، والصدقات، والكفارات، والأمر بالإنفاق بوجه عام (وانظر اشتراكية الإسلام ص 126-133).
- المحلى ج6 ص 156.
- انظر: حقوق أهل الذمة في الدولة الإسلامية للمودودي، وغير المسلمين في المجتمع الإسلامي للدكتور يوسف القرضاوي.
- انظر: تفسير الطبري ج1 ص 114 ط. بولاق.
- انظر: الجامع لأحكام القرآن ج8 ص 183. ط. دارالكتب المصرية.
- انظر: البحر المحيط ج5 ص6. ط. السعادة.
- انظر: الأموال لأبي عبيد ص 748 ط. الكليات الأزهرية.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . صفر – ربيع الأول 1430هـ = فبراير – مارس 2009م ، العـدد : 2-3 ، السنـة : 33