الفكر الإسلامي
بقلم : الدكتور وجيه زين العابدين
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لكل شيء شِرَّةً ولكلّ شِرَّة فترةً ؛ فإن صاحبها سدد وقلوب فارجوه وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدُّوه . أخرجه الترمذي(1).
يبين لنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف أن لكل شيء في هذه الدنيا وقت ينشط فيه ووقت يفتر فيه؛ فمن انتهز فرصة النشاط؛ فعمل لها وفق الفطرة والقوانين الالهية؛ فهو الذي يُرجى منه الخير. ومن سعى ليُذكر وليُسلط على نفسه الأضواء، فلا تأملوا منه خيرًا ولا تحسبوه من الصالحين.
ما موقف المسلم في الشرّه ؟
ماذا نعمل في فترة النشاط؟ يذكر الحديث أن الجمادات والنباتات والحيوانات والإنسان يأتي كل منهم يوم ينشط فيه. فمثلاً للنبات موسم للنمو والتكاثر والثمر وكذلك للحيوان.. يقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: انتبهوا إلى هذا الموسم واعملوا من أجل الحصول على ثمرته وزيادته وتحسينه .. اتبعوا أحسن الطرق العلمية والهندسة الوراثية في تحسين المنتوج من النبات والحيوان وزيادته، ولا تغفلوا عن هذا الوقت؛ بل أدرسوا وحققوا متى يكون نشاط الحيوان والنبات إن كنتم لاتعلمون؛ لأن لكل شيء شرّة.
والإنسان من الأشياء(2) فعليه أن يستغل فرصة نشاطه بكل ما يستطيع ليحصل على أكثر ما يمكن من إنتاج وذلك بالتخطيط لمصنعه مثلا بتهيئة البناء الجيد والآلة والعامل.. إلى غير ذلك.. ومثل المشاريع على المسلم أن يفكر في أداء العبادات فينشط لصلاته يؤديها في المسجد ويصوم التطوع مثلاً ويتصدق إضافةً إلى الزكاة ويفعل الخير.
ما هو الإطار؟
فهل يستغل المسلم كل نشاطه بعمل دؤوب ليل نهار فيتاجر مثلاً ويقيم معملاً هنا ومصنعًا هناك ومزرعةً في مكان كذا.. فلا يجد له وقتًا للصلاة وللراحة، أم أنه ينشط فيصلي أبدًا أو يصوم أبدًا ويمتنع عن النكاح مثلاً كما جاء في حديث الثلاثة؟ كلا ليس هذا من السنَّة، قال عليه الصلاة والسلام: (أما أنا فأصلي وأرقد وأصوم وأفطر وأنكح النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني) أخرجه البخاري.
فالإطار كما جاء في هذا الحديث الشريف هو أن يسدّد ويقارب صاحب هذا النشاط.. والسدادُ هوالقصد والاعتدال وهو الوسط بين نهايتي التقصير والإسراف وهوالعمل الصحيح والسداد الاستقامة والدوام.. وهو القصد في الأمر والعدل.. والمقاربة القصد الذي لا غلوّ فيه والمقاربة من الصواب)(3). فالإطار في استغلال الفرصة وفي النشاط هو العمل الصائب المبنيّ على الكتاب والسنَّة وما يستنبط منهما وما لا يعارضها من أمور الدنيا وهو العمل الدائم وإن قلَّ؛ فالاستقامة والدوام غذاء الإيمان إذ تنمو شجرته بالاستمرارية في تعهدها.
فهذا الذي يسدد ويقارب ويعمل في إطار الصواب والحكمة هو الذي نرجو منه الخير عاجلاً وآجلاً.. أما غيره ممـن ينشط كثيراً ويجهد فوق طاقته؛ فانه لن يستطيع الصمود والاستمرار فيترك وتتقطع به الأسباب (فالمنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى) وكما قال سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يُسر ولن يُشَادَّ الدينَ أحد. إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغَدْوة والرَوْحَة وشيء من الدلجة) أخرجه البخاري(4).
هذا المسلم المداوم في مشروعه الدنيوي لا يبتغي منه غير رضا الله وهو نفسه يعبد الله لايرجو غيره سيصل يومًا إلى غايته بعون الله وإذنه؛ فيهب حياته كلها لله (ولا يستبقي منها بقيةً ولا يرجون من وراء أدائها وبيعها غايةً الا مرضاة الله، بيعة كاملة لا تردد فيها ولا تلفت ولا تحصيل ثمن ولا استبقاء بقية لغير الله)(5).
وما حالك في الفتر ؟
يقول عليه الصلاة والسلام ولكل شِرّة فترة.. فبعد النشاط الذي أمرنا أن نستغله فيغتنم حياتنا قبل موتنا وقوتنا قبل ضعفنا وشبابنا قبل هرمنا، وغنانا قبل فقرنا وصحتنا قبل سقمنا.. وقد عملنا باذن الله وفي إطار تعاليمه ولكن لكل نشاط فترة (والفتر هو سكن بعد حدَّة ولين بعد شدَّة)(6).
فما حالك أخي المسلم؟ فهل تهجر عملك أو أعمالك كلها جملةً واحدةً؟ وهل ترك كل العبادات والنوافل؟.. كلاّ .. فإن أسرفت وضيقت وأجهدت نفسك فربما جاء المآل فترًا كاملاً فتمل وتهجر، أما أن تستقيم على العمل القليل وتزيده ببطء وتستعين في كل زيادة بالله عز وجل وتسير على منهاجه؛ فإن الله تبارك وتعالى سيبقي لك في هذا الفترة أعمالاً صالحةً كثيرةً تؤديها في اطار سقمك وفقرك (لا سمح الله) وضعفك فتؤدي الفرائض وتُعين أهلك وترشد أولادك وأحفادك.. وتؤدي ما تستطيع من خدمة نفسك فتخفف عمن يرعاك في شيخوختك وتشير وتنصح وتؤدي زكاة خبرتك وكثير أمثال ذلك كالكلمة الطيبة تخرج من فمك أبدًا ودائمًا فلا تنقطع هذه الشرة (النشاط) بل تفتر وتذكر دائمًا قول الله عز وجل: (وَمَنْ أَحْسَنُ قولاً مِّمَنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ) سورة فصلت.
أما صاحب الأضواء:
أما الشخص الثاني الذي قال عنه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدُّوه).
هذا الذي يحب الظهور.. يحب أن لا يفعل شيئًا إلا ليذكر؛ بل يريد الذكر قبل الفعل.. إنه مثلاً ذلك الرجل الذي يأتي المسجد ليضع أنفه في كل صغيرة وكبيرة فيعترض على هذا ويحاسب ذاك ويفرض أوامر. ويجادل في الخلافات الاجتهادية ويرى ذلك من واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد نسي أن أفضل النصح ما كان خفيًا ومناجاةً.. وهو لايشعر أنه بعمله هذا قد يصد من جاء للمسجد حديثًا؛ إذ لايكون هذا الجديد قد استوعب في فكره الخلافات الاجتهادية عدا أنه يرى صورةً غير صحيحة عن طبيعة المصلين وآداب المساجد.
ومثل آخر ذلك الذي لايدخل أي مجلس إلا ويرى وجوب قيام الناس له وأن تكون له الصدارة والمقعد الخاص وينسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحبَّ أن يتمثل له الناس قيامًا فليتبوأ مقعده من النار) أخرجه البخاري في الأدب وأبو داؤد والترمذي. وأذكره أن المسلم يجلس حيث ينتهي المجلس (وقد كان الأعرابي يدخل مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: أيّكم محمد فأسأله).. أخرجه البخاري. فعدم القيام وقاية لشرّ يصيب من يقوم الناس له، وقد منه معاوية رضي الله عنه وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الناس من القيام لهما. وفي مجتمعاتنا – مع الأسف – يقوم الناس للداخل إن كان كبيرًا في ماله أو منصبه أو علمه أو جاهه حتى صار عادةً توجب النقد لمن لا يفعل وتوجب غضب الداخل.. على أنه يجوز أن يقوم المضيف لضيفه والمرأة تستقبل زوجها.
هذا الذي يجب أن تشار إليه الأصابع يكتب ليقال عنه أديب أو كاتب ويعلّم ويبحث ليقال عنه عالم ويتاجر ليجمع المال ويباهي برصيده في المصارف.. وعنده الغاية تبرر الوسيلة.. هذا الشخص قال عنه صلى الله عليه وسلم لا تعدُّوه، أي لا تحسبوه ممن يعمل صالحًا وإن ظهر بعض الخير في عمله.. لا تعدوه من المؤمنين الصادقين، إنه لم يتخلص من كثير من صفات الجاهلية، وربما دخل أحيانًا في عداد المنافقين ممن تأخذهم العزة بالإثم وربما أصابه الغرور والكبر فعرَّض نفسه لخسارة الدنيا قبل الآخرة.. فلا تعاونوه على الإثم، بل تعاونوا على البر والتقوى.
نعم قد يذكر المؤمن:
قد يُشار للمؤمن بالإصبع وهو لا يطلب ذلك.. ولا يريده .. إنما يستمر على فعل الخير ويتقرب إلى الله بالطاعات فيأمر الله عز وجل – كما جاء في الحديث القدسي – الملائكة أن تذيع محبته في السماء لأن الله قد أحبه ثم يجعل هذه المحبة في الأرض فيحبه الناس.. مثل هذا لم ينل هذه المحبة من الله عز وجل والخلق إلا لأنه كان مسلمًا مؤمنًا في كل دقيقة من حياته.. ومع هذا فهنيئًا لمن يدخل المساجد والمجالس ولا يؤبه له وهو المليء بالعلم وهو التقي المؤمن الصادق حتى إذا كان في موقف يرى أنه من أقل واجباته أن يدافع عن كلمة الله فيخرج ويجاهد ويقول كلمته فإذا قُتل قال: (فُزْتُ ورَبِّ الكعبةِ).
أخي المسلم ..
أذكرك دائمًا أن تكون مع كتاب الله وسنَّة رسوله لا تحيد عنهما.. حاول أن تفعل ولا تقل: فعلت وعملت. فإن شعر أحد بعملك قل: ذلك بفضل الله وإرادته ولا تسمح أن يمدحك الناس، فإذا فعلوا ذكرهم بمنع النبي صلى الله عليه وسلم لذلك وأنه قتل للمرء. حاول ما ستطعت أن تكون صدقاتك وزكاتك خفيةً فلا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك وذلك باقي أعمالك الصالحة.. واذكر دائمًا إحسان الناس إليك ولا تنس فضلهم ولا تبقِ في ذاكرتك أي عمل خير أو إحسان لهم.. تذكر دائمًا أخطاءك لتعتذر لمن أخطأت معه، ولتتوب وتستغفر ولتتجنب الوقوع في نفس الخطأ.
قل معي وادع معي اللهم أحشرني مع صاحب النقب.. وصاحب النقب هو ذلك الجندي المجهول الذي فتح ثغرةً في قلعة حصينة في إحدى حروب المسلمين وأخفى نفسه فلم يعرفه غير الله .. كرِّر : اللهم احشرنا مع صاحب النقب.
* * *
الهوامش:
- انظر الجامع الصغير وتيسير الوصول ج1 ص 29.
- وفي رواية للحديث لكل عابد شِرّه .
- نقلاً من قاموس المحيط ومن النهاية لابن الأثير ومن رياض الصالحين.
- انظر رياض الصالحين، باب الاقتصاد في الطاعة.
- انظر في ظلال القرآن 2/132 في تفسير قوله عزوجل: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله).
- قاموس المحيط.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . صفر – ربيع الأول 1430هـ = فبراير – مارس 2009م ، العـدد : 2-3 ، السنـة : 33