كلُّ شقاء، لابدَّ أن يُقَابَل بمكسب مادِّي أو معنويّ ، أو بهما معًا

إشراقة

       الشغلُ سعادةٌ، بل هي نعمةٌ لا يُرْزقُها إلاّ المُوَفَّقُون الذين أراد الله بهم خيرًا. ولاشكّ أنّ “الشغلَ” إنّما يراد به ما يشغل الإنسان فيما لايُصَنَّف إلاّ ضمن الأعمال “الإيجابيَّة” (Positive) “البنائيَّة” (Constructive) التي لاتتّصل إلاّ بخير بشكل أو بآخر، وبما ينفع الخلقَ بنحو أو بآخر؛ فما يشغل الإنسانَ من الأمور “السلبيَّة” (Negative) “المُدَمِّرة” (Destroyer) لا يُسَمَّىٰ “شغلاً” وإنما يُطْلَق عليه لامَحَالَة كلمة “المفسدة” (Blight) أو “البطالة” (Unemployed) أو “العطالة” (Unemployment) أو تبنّي “العبثانيّة” (Absurdism) أو “الضّياع” (Loss) .

       ولكنه يَحْدُث أحيانًا أنّ الأشغالَ اللاّزمةَ، والاهتمامَ بها جدًّا، والعملَ بالشعور بالمسؤوليَّة تجاهَها، والصدورَ عن هذا الشعور في التصرّف، تحول دون أداء بعض الحقوق والواجبات في وقتها؛ من تعزية أحد، أو عيادته، أو استضافته، أو العناية به، أو التوصية لصالح حاجة من حوائجه، أو مقابلته واستخبار أحواله. وبما أنّ هذه الحقوقَ هي الأخرى تكون لازمةَ الأداء؛ فكثيرًا ما يَحْدُث أنّ المرأَ – مهما حاول – لايكاد يُوَفِّق بين هذه وتلك توفيقًا عادلاً مُتَّزِنًا، يريح ضميرَه ويُقْنِع غيرَه.

       وذلك يُؤَدِّي إلى مفاسد كثيرة؛ فقد يُسَاءُ به الظنُّ، وقد يَفْسُد الودُّ بينه وبين قريب أو حبيب له، وقد يُضْطَرُّ أن يجني خسارةً ماديَّة أو معنويَّة أو كلتيهما معًا، وقد يَلْحَق به ضررٌ لا نهايةَ له، وقد يُحْرَم أن يَتَمَتَّع بلذّه كبيرة حَظِيَ بها غيرُه، وظَلَّ يذكرها – غيره – له، فظلّ يأسف عليها ويَتَعَطَّش لها، أو يُوَاجِه الملامَ في شأن حرمانها، فظلّ ذلك يُشَكِّل حرقةً في نفسه وحسرةً في قلبه؛ فيزيده ألمًا على ألم: ألمِ الحرمان منها وألمِ مواجهة الملام في شأنها.

*  *  *

       كانت بيني وبين فضيلة الشيخ محمد حسين البيهاري رحمه الله (المتوفى 6/7/1412هـ = 12/1/1992م) أستاذ الحديث في جامعتنا: الجامعة الإسلاميَّة دارالعلوم/ ديوبند علاقةٌ متينةٌ للغاية؛ لكونه أستاذًا لنا عطوفًا أفادنا كثيرًا، فأحببناه كثيرًا؛ لأن رجلَ النفع والإفادة محبوبٌ للغاية لدى كل من ينفعه ويفيده ولدى غيره، لحسن الذكر، وطيب السمعة؛ ولكونه رجلاً صالحًا، مُتَعَبِّدًا، مُتَهَجِّدًا، قائمًا بالليل، ومواظبًا على الصلوات بالجماعة، ومُلْتَزِمًا بتبني مكانه في الصف الأوّل في الصلوات، مهما كانت الفصول شديدة، وكانت الطقوس قاسيّة ذات الحرّ اللافح أو البرد القارس؛ ولكونه مُشَاطِرًا لنا في الوطن؛ حيث كان من سكّان مديريّة “مُظَفَّرْ بُوْر” بولاية “بيهار” – مديرية “سيتامرهي” حاليًّا – وحبُّ الوطن – والله يعلم – من الإيمان؛ لأنّ سكّان الوطن – ولوكانوا من غير دينننا وعقيدتنا – قد يسكنون القلبَ كأنهم جزءٌ من أنفسنا.

وكنّا نزوره كثيرًا في غرفته عندما كنّا طُلاَّبًا بالجامعة، نستفيد من دينه وعلمه وفضله، ونستمتع بصلاحه وتقواه، ونستضيء بتوجيهاته ونصائحه الغالية، فيما يتعلق بالدين والدنيا والعلم.

       وفَارَقْنَاه عندما تخرجّنا في الجامعة، وصرنا نقوم بالتدريس والأعمال العلميَّة في أمكنة شتى بعيدة عن “ديوبند”؛ فكنا نذكره في مجالسنا كلما تطرق الحديث إلى الجامعة الإسلاميَّة دارالعلوم/ ديوبند أو إليه مُبَاشَرةً؛ ولكنّه عندما ساقتنا السعادةُ إلى الجامعة، وكنّا أساتذة بها، حالت بيننا وبينه الأشغالُ المُزْدَحِمَة المُتَّصِلَة التي أخذتْ برقابنا بشكل لم نقدر على التخلّص منها رغم رغبتنا الجامحة ومحاولتنا المكثفة؛ فلم نتمكن من زيارته ومقابلته والاستفادة منه للقدر الذي كنّا نتمنّاه، وإنّما كنّا نقابله بعد شهور عديدة، فضلاً عن أن نؤدّي حقوقه التي كانت واجبة علينا من الجهات العديدة التي ذكرناها آنفًا.

       وقد كان – رحمه الله – مفطورًا على الحبّ والعطف على صغاره، فكان يُنَبِّههم إذا وجدهم يُقَصِّرون في الواجبات التي تعود عليهم نحوه؛ فكنا نسعد بالزجر المعجون بالعطف، الذي كان يتناولنا به عندما كان يصادفنا في مَدْرَج من مدرجات الجامعة ذهابًا أو إيابًا فيما بين الفصول أو المكاتب. جزاه الله خيرًا عن كل حبّ تَعَامَلَ به معنا وعن كل فائدة علميّة أو تربويّة أسداها إلينا؛ فقد كان رجلاً لا يُضْمِر الحقدَ لأحد، وإنما كان يُكَاشِف جميعَ المعارف بأي شكوى كانت تتسلّل إلى قلبه نحوهم؛ إذ كان سليمَ دواعي الصدر لاباسطاً أذى ولا قائلاً هُجْرًا.

       ولكنّه عندما تُوَفِّي شَعَرْنا شعورًا عميقًا بالتقصير الذي حصل منّا نحوه عن غير عمد، وإنه لم يحصل إلاّ لكوني مشغولاً جدًّا بالأشغال الرتيبة التي لاتزال كقيد في رِجْلَيَّ وغُلّ في يديّ لافكاكَ لي منه. وإن كانت هذه الأشغالُ نافعة في مكانها؛ ولكنّها ظلّت تعوقني عن أداء كثير من الحقوق والواجبات التي أرجو الله عزَّ وجلَّ أنه سيغفر لنا التقصير الذي حصل مني بشأن أدائها، وأنه سيجعل قلوبَ عباده الذين كانت تتعلّق بهم صافيةً فيما يتّصل بنا ومُجَرَّدةً من جميع الأكدار.

       ومثلُ هذا التقصير حَصَلَ منَّا نحو فضيلة الشيخ المفتي ظفير الدين/ حفظه الله مع الصحة والعافية والتوفيق لكلّ خير، الذي عمل في الجامعة نحو خمسين عامًا مديرًا لقسم المخطوطات بمكتبة الجامعة، وكاتبًا تعريفًا بهذه المخطوطات، ومُدَوِّنًا لفتاوى دارالعلوم/ ديوبند، ومفتيًا بالجامعة، وأستاذًا لطلاب قسم الإفتاء. وهو رجلٌ محبٌّ للعلم وطلاّبه وحامليه، وظلّ في الجامعة مساعدًا للطلاب على الدراسة الحُرَّة، وباعثًا لهم على الكتابة والإنشاء، وموجدًا فيهم الرغبةَ فيها والتذّوقَ لها، يُوَفِّر لهم الأسبابَ، ويُهَيِّئ لهم الجوَّ، ويُعِيْنُهم على اقتناء الكتب النافعة غير الدراسيّة في شتى المواضيع الإسلاميّة، وعلى الجرائد والمجلاّت الأرديّة القيّمة، وظلّ يُوَجِّهُهم، ويشيرهم وينير لهم الطريقَ نحو السير إلى إتقان الكتابة والتأليف. وظلّ الطلاب ينجذبون إليه عفويًّا، ويتّصلون به، ويتحلّقون حوله للاستفادة منه، لحلمه وكرمه، ولين جانبه، وطلاقة وجهه، وعفويّتـه في جميع شؤون الحياة؛ فكانوا لايتردّدون أو يشعرون في الاتّصال به بأيّ حاجز نفسيّ، يشعر به المرأ لدي الاتّصال بإنسان يتنأنّق في شؤون الحياة، ويعمل بترتيبات خاصّة وبنوع من التصنّع في كل شيء.

       فكنّا أيَّامَ تحصيلنا لصيقين به جدًّا لهذه الأٍباب التي ذكرناها، وكنّا نحبّه جدًّا، وظلنا نحبّه أينما عَمِلْنا أساتذة ومُدَرِّسين أو عاملين في أي من قطاعات الحياة. وصرنا أساتذةً بالجامعة الإسلاميّة دارالعلوم/ ديوبند، فرجونا قبل أن ندخل غُمَارَ الأشغال أن اتّصالنا به سيَكْثُر، واختلافنا إليه سيتكثّف، واجتماعنا به سيَتَّصِل ليلَ نهارَ، ونستفيد منه بشكل أكثر مما كنّا نستفيد أيّامَ تحصيلنا. إن الفرصة ستكون ذهبيَّةً، وإنّ الله هو الذي ساق إلينا هذه المناسبةَ الغاليةَ: مناسبةَ انتخابنا أساتذةً في الجامعة، إننا سنتلافى الحرمانَ الذي عشناه ونحن على بعد عن الجامعة وعلى مسافة من الشيخ/ حفظه الله.

       ولكنّه ما إِنْ كنّا أساتذةً بالجامعة، حتى دَاهَمَتْنا الأشغالُ، واقتحمت علينا الأعمالُ، وحَاصَرَتْنا الواجباتُ والمسؤوليَّاتُ من كل جانب؛ فلم نتمكّن من الاتّصال به لحدّ الوجوب، فضلاً عن أن نَتَّصِل به إلى حدّ الاستحباب، ولم نقدر على أداء أيّ حقّ واجب علينا نحوه، فضلاً عن الحقوق النافلة الكثيرة التي كان فيها لنا ثوابٌ مذخورٌ، وجزاءٌ موفورٌ.

       إنّ الأشغالَ الواجبةَ هي التي منعتنا عن أداء هذا الحقّ الواجب، وعن جني هذه الفوائد الغالية، رغم رغبتنا فيها، وحرصنا عليها، وتفكيرنا دائمًا في قيمتها وأهميّتها. وعندما غَادَرَ الشيخ المفتي/ حفظه الله يوم الأحد 20/ شعبان 1429هـ = 21/سبتمبر 2008م الجامعةَ لظروف صحيّة ناتجة عن الشيخوخة الزائدة أرغمته على المغادرة والاستقالة من منصبه، مُثَل في ذهني بشدّةٍ الإهمالُ الذي حَصَلَ منّي نحو أداء حقّه، وزادنا أسفًا وقلقًا، وحَزَّ في قلبي بشدّة لاأكاد أصفها، ولا أدري إلى متى سيظلّ يَحُزُّ فيه.

*  *  *

       الأشغالُ المُزْدَحِمَةُ لم تجعلني فقط أُقًصِّر في أداء هذه الحقوق التي سبقتِ الإشارةُ إليها؛ بل عُدْتُ من أجلها أرجو اللهَ أن لاينزل عليّ الضيوفُ مفاجأةً، ولاسيّما لدى اشتغالي بالكتابة والدراسة اللتين تتطلبان الشيءَ الكثيرَ من الهدوء والفرصةَ الفارغةَ. وصرتُ أخاف الضيوفَ المُدَاهِمِين في أيّ وقت دونما إعلام مُسَبَّق يجعل المُزَاحَمِين بالأعمال يُرَتِّبُونها، ويُنَسِّقُون الأوقاتَ، ليقتطعوا منها ما يُفَرِّغُونه للاحتفاء بالضيف واستضافته، والجلوس إليه، والاستماع له، حول قضيّة من القضايا ساقتْه إليهم. وأصبحتُ أَتَضَايَقُ بالضيوف إذا لم يكونوا من ذوي القربى أو الصلة العلميَّة أو الدينية القويَّة، أو لم يكونوا من الذين مُفْروضٌ عليَّ احترامُهم لسبب من الأسباب، ولاسيّما إذا اقتحموا عليَّ وأنا قد بسطتُ أدواتِ الكتابة والمصادرَ والمراجعَ التي أستمدّ منها، فدخلوا عليَّ وأنا مُهَيَّؤُ الذهن ومُلَقَّح التفكير، أغتنم وقتَ الصفاء، وأَسْتَلْهِم المعانيَ دونما صعوبة.

       إنّها جَعَلَتْني كذلك في شبه عزلة عن الناس، لا أحتكّ بهم إلاّ لدى حاجة شديدة؛ لأن الاختلاطَ بالناس وملاقاتهم أكبرُ عامل في ضياع الأوقات، وفقدان الهدوء؛ فعادوا يعيبونني بالانطواء على النفس، وبسوء الأخلاق، وبالإعجاب بالنفس والنرجسيّة، على حين إنّي – والله أعلم بأحوال عباده – لستُ من هذه الصفات السلبيّة في شيء، وإنما الأشغالُ والمسؤوليَّات هي التي قطعتني عن كلّ شيء لذيذ وعزيز. من لايَوَدُّ أن يحتكّ بالناس كثيرًا، فيعلمه الجميعُ، ويَتَعَرَّف عليه العامَّةُ والخاصَّةُ، ويُطَبِّق صيتُه الآفاقَ، فيكسب المنافعَ، ويجني الفوائدَ، ويجمع الثناءَ.

       إنّها جعلتني أنني أحيانًا ما توفَّرتُ على نقل مقال أو بحث من الأرديَّة إلى العربيَّة أو بالعكس أو إعداد دراسة حولَ موضوع، أو تبييض كلمة أو بحث خلالَ حفلة تُعْقَد في قاعة أو ساحة، وأنا منقطع إلى مثل هذا العمل؛ لأنتهى منه عاجلاً، فيُقَدَّم إلى الحفل؛ لأنّ غيري من الأكفاء والمُؤَهَّلين لم يستعدّوا ليقوموا بالعمل خلالَ هذا الوقت القياسيّ والمدة الزمنيّة القصيرة. إنّ غيري حضروا الحفلَ، وتمتّعوا بالاستماع – مثلاً – إلى كبار الرجال في العلم والمعرفة والسمعة، أو الدين والدعوة والخطابة، فاستفادوا من كلماتهم، وادَّخروا في ذاكراتهم توجيهاتهم العلميّة والدينية الغالية، التي رجعوا إليها كلما احتاجوا إليها. أمّا أنا فقد حُرِمْتُ هذا المكسبَ الكبيرَ، وما جنيتُ من وراء هذه الأشغال إلاّ الخمولَ والانطواءَ على النفس.

       في جامعتنا: دارالعلوم/ ديوبند، حَدَثَ مرَّات عديدة أنه وَرَدَها ضيوفٌ معروفون بالعلم والدراسة، يحملون سمعةً واسعةً، فانْتَظَمَتْ حفلةٌ أو مجلسٌ، وحَضَرَ الحلفةَ أو مجلسَ اللقاء والتعارف كثيرٌ من الأساتذة؛ فتعارفوا على الضيوف وتعارف الضيوف عليهم، واستفادوا منهم علمًا وفضلاً، وحَصَلُوا على معلومات، وجَنَوْا فوائدَ لاتُعَدُّ. أمّا أنا فقد بَقِيْتُ حبيسَ الأعمال الكتابيَّة والدراسيَّة التي أَنْشَبَتْ فيَّ أظفارَهَا؛ فقد حَدَثَ أحيانًا أنّ العددَ القادم من “الداعي” حان صدورُه، فلَزِمَني أن أُعِدَّ له مقالات، وأكتب له من الموادّ ما قد تحمّلتُ مسؤوليَّة كتابته، واعتدتُ إعدادَه بنفسي. أو اضطرَّتْني أعمال علميَّة أخرى كانت مُلِحَّةً بالنسبة إلى مصير الشعب المسلم الهندي أو الأمة المسلمة في العالم، فآثرتُ القيامَ بها على لقاء الضيوف، والتعرّف على الإخوان، المُتَوَافِدِين إلى الجامعة من مدن في الهند أو في خارجها.

       الأشغالُ المتلاحقةُ جعلتني أزهد في السفر إلاّ لدى حاجة شديدة. والأسفارُ ذات منافع لاتُحْصىٰ من جهات كثيرة؛ فهي تزيد المرأ تجربةً، وتُحَقِّق له مكاسبَ ماديَّة، وتفيده صحيًّا، وتنفعه نفسيًّا، وتُرِيحه من العناء، وتزيل عنه الهمومَ، وتُكْسِبُه انتعاشًا نحو الأعمال التي يقوم بها، وتخلق له معارفَ وأصدقاءَ يساعدونه لدى الحاجة، ويشقُّون له سبلَ الحياة، ويفتحون له من الأبواب ما يكون قد انسدَّ، ويكونون أعوانًا له على الخير، وعوائق له دون الشرّ. وما إلى ذلك من الفوائد التي يتوق الإنسان إلى تحقيقها.

       ثم إنَّ التوفُّرَ على الأعمال الكتابيَّة والدراسيَّة بشكل أكثر وبصورة مُرَكَّزَة، نال من ملكتي الخطابيّة، وقَلَّصَتْ فُرَصَ ممارسة الأعمال الخطابيَّة؛ لأن الكتابةَ تقتضي كثرةَ الدراسة في هدوء، والتفكير في جِدّ، والإنتاجَ في مَهْل، والجلوس لذلك كلّه في خلوة، وفي بعد عن الضوضاء والجلبة، وعزلة من الناس. والخطابة ضدُّ ذلك كله فهي تقتضي الاحتكاكَ بالناس، ومواجهتَهم، ومشافهتَهم ولاعلاقةَ لها بالهدوء أو التفكير الجادّ، وإنما هي الارتجالُ، والتلقائيَّةُ، وإطلاقُ الحنجرة بشكل عفويّ، وحبُّ الظهور أمام الناس، والرغبةُ الزائدة في تجمهرهم.

       إنَّ الأولى – الكتابة – تجعل صاحبَها ينكمش وينعزل، ويصير مطمورًا مغمورًا، يقلّ معارفُه، ويكثر مجاهلُه، وتسهل هي – الكتابة – عليه، وتصعب عليه الخطابةُ بقدرما تسهل الأولى عليه. إنّها – الكتابة – تقتضي الإكثارَ من الدراسة، والتوسُّعَ فيها، والصدورَ عن التعمق فيها؛ فقد يحتاج الكاتب أن يقرأ مئةَ صفحة أو أكثر ليكتب سطرًا واحدًا؛ فهي تُحْوِجُه إلى الضنّ بالوقت، والشحّ به، والحرص عليه حرص الفاحش – البخيل – المُتَشَدِّد بالإبقاء على عقيلة ماله وكريمة مُدَّخِراته.

       أمّا الخطابةُ فهي تُعَمِّم صاحبَها، وتُشْهِره، وتُظْهِر اسمَه، وتُضَخِّم شخصَه، وتُكَبِّره أكثرَ من أصله بل أضعافَ أضعافه، فتَعْرِفُه الأقاصي والأداني، ويحتفى به العلماءُ والجهالُ، ويحترمه الكبارُ والصغارُ، ويتقرّب إليه المخلصون والمغرضون، وينفعه الأقارب والأباعد. وهي لاتُحْوج صاحبَها إلى كبيرِ عناءٍ، وطولِ دراسةٍ، وعمقِ تفكيرٍ، وضنٍّ بالوقت، وشحٍّ بالفرصة، وتطواف على الكتب.. وبالإيجاز: إنها تنفع أكثر ممّا تضرّ؛ ولكن الكتابة “ضرُّها” – إذا صَحَّ التعبير –أكثرُ من “نفعها” وفي أحسن الأحوال: هي لاتنفع ولاتضرّ.

*  *  *

       إنّ السطورَ التي كتبتُها فيما يتعلّق بالأشغال ولاسيّما الكتابيّة والدراسيّة، وما يتفرّع منها، وما يرجع إليها، تجعل عامَّةَ القارئ في أوّل وهلة يُخَيَّل إليه أنّها سيِّئَةٌ سلبيَّةٌ غيرُ جيِّدة وغير إيجابيّة وأن الاحترازَ منها واجبٌ، ومن اتَّقاها ولم يتلبّس بها، فهو خير إنسان صَنَعَ ما ينبغي أن يصنعه، فهو مُوَفَّق سعيد، قَدَّرَ الله له كلَّ خير، وأراد أن يصونه من كلّ شر.

       ولكن القارئ يجب أن ينتبه للحقيقة الصارخة، التي لاتمّحى ولا تكذب أبدًا. وهي أنّ المطايا على قدر البلايا. أي أن الثّوابَ على قدر العمل، والجزاء حسب التحرك والاجتهاد؛ فإن كان المُهْمِلُون العاطلون عن الأشغال في راحة ظاهرة، فإنهم لايكسبون خلودَ الصيت، وألسنةً لاتُحْصَىٰ مُسَخَّرَة للدعاء له، والثناء عليه، والإشادة بذكره، يَكْسِبُها المشتغلون المُجِدُّون المنصرفون إلى الأعمال والأشغال ولا سيّما إذا كانت أعمالهم مما ينفع الناس فيمكث في الأرض.

       إنّ الأشغالَ المزدحمةَ والأعمالَ المتراكمةَ حين تشدّ صاحبَها باستثمار الأوقات واغتنام الفرص والضنّ بها على الناس، وحين تطالبه بالانصراف عن كثير من الناس، وتحرمه الاختلاطَ والتعارفَ والتظاهرَ واللمعانَ بين الجماهير؛ فإنّها تكسبه في الوقت نفسه الجزاءَ الباقي لدى الله، والشكر القائم على ألسنة الناس، والثناءَ الدائم على أفواه الدناة والقصاة من الناس سواء أَ وَصَلَتْهم رشحةٌ من حصيلات أشغاله أم لم تَصِلْهم؛ ولكنّ الجدَّ الذي بَذَلَه، والعمل الذي تَوَفَّرَ عليه، والشغل الذي من أجله انصرف إليه عن الناس يُحَبِّبه بشكل خالد إلى الله وخلقه.

       إنّ “العذابات” أو “الشقاءات” التي يُعانيها المُشْتَغِل الشاعر بالمسؤوليَّة في سبيل القيام بمشاغله وواجباته لاتضيع هدرًا ولاتذهب سُدىً، وإنّما تُقَابَل بحُلْو الجزاء وعَذْب الثواب لدى الله، وحسن الذكر على أفواه الناس، وخالص الأدعية الصادرة من قلوبهم نحوه إلى الله عزّ وجلّ كما تُقَابَل بِعَوضٍ جميل مادِّيّ أومعنويّ ومكسب قيِّم ظاهر أو باطن لايمكن أن يفوتَهم وقد تحمّلوا الشقاءَ وذاقوا الحرمانَ. وقد قَرَّرَ الله تعالى أن الشقاء – إذا صاحبه إخلاصٌ ما – يُقَابَل بمكسب من المكاسب لابدّ أن يكون أغلى من الجِدّ الذي بَذَلَه صاحبُه، والشقاء الذي مُنِيَ به. وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (الأحزاب/62؛ الفتح/23).

( تحريرًا في الساعة 12 من ضحى يوم الجمعة: 21/11/  1429هـ = 21/11/ 2008م ) .

أبو أسامة نور

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند .  محرم 1430هـ = يناير  2009م ، العـدد : 1  ، السنـة : 33

Related Posts