إشراقة

       إذا كان الذلُّ مما ينبغي أن يتحاشاه كلُّ إنسان ، ولاسيّما كلُّ مسلم يَتَّبـِع دينًا يُلَقِّنه الإباءَ والشموخَ، وبالأخص كلُّ عالِم؛ حيث إنّ العلم يأبى كلَّ نوع من التسافل إلي أيّ نوع من الحضيض الذي لايليق إلاّ بالجهل؛ فإنَّ بعضَ الناس يُفْطَرون على الإباء وإنكار الذلّ والضيم مهما أدّى به ذلك إلى دفع ثمن غال واحتمال خسارة كبيرة .

       وإذا يجوز أن تُقَدَّر قيمةُ إنسانٍ ما أو عظمتُه بمقاييس عديدة، فإنّ الإباءَ وصفةَ إنكارِ الذلّ ربّما يكون أوفى مقياس لتقدير ما عنده – الإنسان – من العظمة والقيمة . الإباءُ جِماعُ الصفات الإنسانية والقيم الشريفة؛ فهو مصدرُ خير كثير. وحسبك بالإنسان أبيًّا يتسامى عن سفاسف الأمور والخصائل التي يمكن أن تُصَنَّف ضمن «الذل».

       الأبيّ المتحاشي الذلَّ الذي يجمع المروءةَ والكرمَ والرجولةَ وصفاءَ القلب وسلامةَ دواعي الصدر وما إلى ذلك من الصفات التي تنحت من الإنسان إنسانًا سويًّا مطلوبًا لدى كل موقف يتطلّب التعاملُ معه المعانيَ الإنسانيةَ الصحيحةَ والقيمَ الآدميَّةَ النبيلةَ، أرفعُ إنسان بكل الاعتبارات .

       حُرِمْتُ أشياءَ كثيرةً في الحياة أَسِفْتُ عليها طويلاً؛ ولكني شكرتُ اللهَ ربي أنّه وفّقني أن أتّصف بالصفة الإنسانية العظيمة الغالية، وهي الإباء وتقصّي الاحتراز من مواقف الذُلّ والعار. إنّها جَنَّبَنِي كثيرًا من مواقف الحرج والإثم والترامي إلى مِنَنِ اللئام . الأمر الذي رأيتُ كثيرًا ممن أُعْطُوا فضائلَ يتورّطون فيه؛ لأنهم خُلِقُوا فاقدين هذه الصفةَ الأصيلةَ العزيزةَ .

       لابأسَ أن تُحْرَمَ كلَّ شيء غالٍ ورخيصٍ في هذه الحياة الفانية إذا اتَّصفتَ بالإباء والشموخ وإنكار الضيم والظلم والذلّ وكل ما يخدش المروءة ويجرح الكرم ويمسّ الشرفَ الرفيعَ الذي أُكْرِمتَ به من فضل الله؛ لأنك إذن حَظِيتَ بكل شيء؛ حيث إنّ هذه القيمة الإنسانية تجمع كلَّ النعم الكبيرة التي يحلم الإنسانُ أن يَسْتَوْفِيَها، حتى تكون حياتُه سعيدةً رغيدةً؛ فهي كالفرأ الذي يستغي به الصائد عن كل صيد سواه، فكلُّ الصيد في جوف الفرا .

       وأثرت كتبُ التراث عن الإمام الشافعيّ رحمه الله قولَه الخالد الماجد: «والله لو علمتُ أنّ شربَ الماء يَثْلُمُ مروءتي ما شربتُه طولَ حياتي». ومن الأبيات الرائعة التي ظلّت العربُ ترددها بشوق وتذوّق بيتُ الشاعر الجاهلي الكبير عنترة بن شدّاد العبسي (نحو 525م – نحو 615م) أحد شعرا المعلقات المعروفين:

لاَ تَسْقِنِي مَـــاءَ الْحَيَــاةِ بـِذِلَّـــــــةٍ  *     بَلْ فَاسْقِنِي بِالْعِزِّ كَأْسَ الْحَنْظَلِ

وقد اُثِرِ عن العرب – الذين بُعِثَ فيهم ومنهم خاتَمُ الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد ﷺ – القصص الكثيرة التي تتصل بالقيم الإنسانية النبيلة حتى في عهد جاهليتهم الذي كان لا يجمعهم فيه دين ولا حضارة. وكان على رأسها المروءة والكرم والإباء: تلك الصفات التي حافظوا عليها بشكل لم يُؤثَرْ عن قوم غيرهم . وكأنها كانت قِوَامًا عُجِنَت به طينتهم باعتبارهم القوم المؤهلين لأن يُخَاطَبُوا بالوحي الإلهي الأخير مباشرة وقبل جميع الأمم والأقوام على ظهر البسيطة ليكونوا مُعَلِّمي الإنسانية الأوّلين، ومُؤَسِّسِي الحضارة المثلي .

       وقد عَبَّر عن معنى الإباء أحد شعراء الحماسة وهو من شعراء بني أمية الفصحاء المطبوعين: محمد بن بشير، بشعر فصل جزل :

لَأَنْ أُزَجِّــيَ عِنْــدَ الْعُــرْيِ بِالْخَلَــقِ

وأَجْتَــــزِي مِنْ كَثِيـر الــزَّادِ بـِالْعُلَـقِ

خَيْرٌ وَأَكْرَمُ لِي مِــــنْ أَنْ أَرَىٰ مِنَـــنًا

مَعْقُــودَةً لِلِئَـامِ النَّاسِ فــي عُنُقِــــي

إنِّي وَ إِنْ قَصُرَتْ عنْ هِمَّتِيْ جـِدتِي

وَكَانَ مَالِــيَ لاَيَقْــوَىٰ عَلَـىٰ خُلُقِـي

لَتـَارِكٌ كُلَّ أَمْـــــــرٍ كَانَ يُلْــــزِمُنِـــي

عَارًا وَيُشْرِعُنِيْ فِـي الْمَنْهَلِ الــرَّنِقِ

       وهذه الصفةُ تكون طبيعةً مركوزةً في شخص الإنسان: الفرد والقوم . قد تجوز أن تُثَار عن طريق التوعية؛ ولكنها في الأصل تكون طبعًا ولا تكون تطبّعًا. إنها تنبع من داخل الطبيعة السليمة، ولا تُرْتَدى كالملابس . إنّها مخبريّة قبل أن تكون مظهريّة. إنها تعيش في داخل النفس، قبل أن تظهر على مسيرة حياة المرأ، وقبل أن تمتثل في سلوكه وأدائه في المشوار الحياتي الواعي. إنّها عصِيَّة لمن لايُولَد عليها وطيِّعة لمن فُطِرَ عليها؛ بل المفطور عليها مُضْطَرٌّ أن لايخرج عن إطارها في أي حركة وسكون في حياته؛ وغيرُ المفطور عليها يشقّ عليه أن يتبنّاها ويتلبّس بها.

       دينُ الله الإسلام يأمر أتباعَه باجتناب كلّ ما يمسّ كرامتَه ويتعارض مع إبائه ومروءته؛ لأنه دينُ سموّ وعلوّ، ودينُ عزّ ومجد، ودين شرف وكرامة، ودين مروءة ورجولة، ودينُ جميع معاني النبالة التي تتسامى بأبنائه إلى سماءِ الفخار بالقيم الأصيلة..

       الحقيقةُ أن هذه الصفات الشامخة شموخَ الجبال في السهول هي التي تُشَكِّل من الإنسان الذي قد يكون المادةَ الأولية أو المادّة الخام، إنسانًا يجمع معظمَ أو كلَّ المقومات الإنسانية التي يودّ الإسلامُ أن يجمعها، فيتأتى كاملاً متكاملاً في المظهر والمخبر، والشكل والمعنى؛ فلو فَقَدَها وجَمَع كلَّ ما سواها، كان ناقصًا مهما ادّعى الكمالَ؛ لأنّه لا يساعده في استيفاء المعاني الإنسانيّة رغم كل المساعي التي يُكَثِّفُها ويواصلها. أمّا هي فتكفيه كلَّ نقص يوجد فيه – إن وُجِد – لأنها تجبر النقص وتُعَوِّضُ عما فات من الفضيلة والنبوغ .

       الفاقدُ لها يقترف أيَّ جريرة، ويرتكب أيَّ جريمة، ويتسفّل إلى أي حضيض؛ والمستوفي لها يتسامى بنفسه عن كل رذالة ونذالة في حال منامه ويقظته؛ لأنه يكون مطبوعًا على الإعراض عن كلّ ما يُدَنِّس عرضه، ويُكَدِّر مشربَه، وينال من عظمته؛ فلا يمكن أن يهبط به أيُّ موقف من مواقف الحرج إلى الحدود الدنيا التي لاتليق بكرامته.

       قد يكون الإنسان في ظاهره لمّاعًا يبدو كأنّه متدينٌ لآخر الحدود ومُتَّقٍ بكل معاني الكلمة، زاهد في الدنيا وما فيها، راغب إلى الآخرة الرغبةَ كلَّها؛ ولكنّه يكون في الواقع مفلسًا في هذه المعاني السامية التي هي الرصيد الوحيد لمن يرجو الله واليومَ الآخر ويؤثر الاهتمامَ بالآخرة على الاهتمام بالدنيا؛ فيأتي كلَّ شيء يتصادم مع المروءة والإباء والكرم، ولايبالي بما إذا وُطِئَ عرضه، ونيل من كرامته، ومُوْرِسَ التطاول على ما لديه من رصيد العزّ والافتخار. وربّما يرجع ذلك إلى أنه لايكون مفطورًا على معاني الإباء والمروءة، ولا يتأهّل أن يتشرّب روحَ الدين وحقيقةَ مخافة الله عزّ وجلَّ، وإنّما يرتدي الدينَ وشَعَائِرَه كالملابس التي تستر ظاهر بدن الإنسان ولا تؤثّر في باطنه ولا تنزل في قعر داخله؛ فلا تُغَيِّر طبيعتَه بشكل، فتبقى على ما كانت عليه من السفالة والنذالة ومن الانحدار إلى كل حضيض مى السلبيات التي لاتتفق والسموَّ الإنسانيّ .

       المسلم الحقّ، المتدين بالمعنى الصحيح، الراجي رحمة ربّه، والمنيب إليه تعالى في كلّ أمر صغير وكبير، لا يتسفّل، ولا يهبط من مستواه الإيماني وصعيده العقدي مهما كانت الحال، وضاق المقام، وحرج الموقف، وعسر الوضع؛ لأنه في كل حال يتكئ على ربّه، ويفوّض أمره إليه، ويعتمد عليه، ويثق بكونه سندَ من لا سندَ له. أمّا المسلم الصناعي، المتصنع للتدين، فهو ضائع في مهبّ الرياح، وتائه في متاهات عدم الثقة بالله بل الإساءة الظنَّ به تعالى، ولا يجد سندًا في الحياة يستند إليه ولا عروة يثق بها. إنّ تضعضع الإيمان في القلب هو الداء الدويّ الذي لايقبل علاجًا ولا يُشْفَى المصاب به بدواء حدّده له طبيب نطاسيّ. والإيمان الواقر في القلب، المخالط شِعَافَه علاجٌ لكل داء، وشفاء من كل مرض، وترياق لكل سمّ، مهما كان ناقعًا.

       إن الإيمان القوي الصادق ومعاني الإباء والمروءة والكرم صنوان لايفترقان، وتوأمان لايختلفان، وحقيقتان متصلتان، متماثلتان متشابكتان. إذا ثَبَتَ وجودُ إحداهما، ثَبَتَ وجودُ أخراهما بشكل عفويّ أوتوماتيكيّ. فإذا زَعَمَ أحدٌ أنّه مؤمنٌ، وهو خالٍ من هذه المعاني، فثِقْ بأنّ الإيمانَ لم يَصِحَّ ثبوتُه، وأنه لم يَرْتَقِ إلى مستوى إعطائه مفعولَه في القلب المسيطر على الجوارح التي هي مصدر كل حركة وسكون في جسم الإنسان. ولايجوز أبدًا أن يُوْجَد الإيمانُ وحيدًا من صنوه من معاني الإباء والمروءة والكرم وما إلى ذلك، كما لايجوز أن تُوجَد الروحُ وحيدةً من الجسم، والعَرَضُ مُفْرَدًا من الجوهر .

       الإيمان يصنع المعجزات في كل زمان ومكان إذا وُجِدَ بـ«صلاحياته» وسُمِحَ له أن يفعل فعلَه، ويعطيَ مفعولَه؛ فهل يجوزَ أن يُوْجَدَ ولايترك أثرًا في طبيعة صاحبه، ولايُكْسِبه السموَّ والإباءَ والمروءةَ والكرمَ وغير ذلك من المعاني البارعة اللطيفة العزيزة؛ ولا يقلبه ظهرًا لبطن، ولا يصنع منه إنسانًا يلمع في المجتمع البشريّ كلمعان الذهب المُصَفَّى الذي صبيحةَ ديمةٍ يجنيه جانٍ. مستحيلٌ حقًّا وجودُ الإيمان من دون تأثيره، كما استحال وجودُ المصنوع من دون الصانع .

       كُنْ مؤمنًا حقًّا تَلِنْ لك قناةُ كلُّ شيء في الحياة مهما كان عصيًّا مستعصيًّا. كن مؤمنًا بالمعنى الصادق، تَغْنَ بالمروءة والإباء والكرم وما إليه من المعاني التي تحلّت به العرب: قومُ محمد ﷺ حتى في جاهليتها، فاستحقّ أن يُبْعَثَ فيهم النبيُّ الخَاتَم محمد ﷺ، الذي أقَرَّها عليها بعد ما بُعِثَ، ودعا كلَّ مؤمن إليها .

(تحريرًا في الساعة 10 من صباح يوم الأحد: 8/6/1428هـ الموافق 24/6/2007م) .

أبو أسامة نور

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رجب المرجب 1428هـ = يوليو – أغسطس  2007م ، العـدد : 7 ، السنـة : 31.

Related Posts