درسات إسلامية

إعداد : فضيلة الأستاذ بدرالحسن القاسمي/ دولة الكوبت

نائب رئيس مجمع الفقه الإسلامي بالهند

       الحمد لله والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى ومن ناصره ووالاه وبعد:

       فإن انعقاد هذا الملتقى العالمي لعلماء المسلمين في رحاب الأرض الطاهرة وفي ظل كعبة الله المشرفة ببلد الله الأمين مكة المكرمة خطوة مباركة وتاريخية تستحق المملكة العربية السعودية المتمثلة في رابطة العالم الإسلامي كل ثناء وتقدير على توجيه الدعوة إلى هذا العدد الكبير من علماء المسلمين من جميع إنحاء العالم لتدارس الوضع واتخاذ ما يناسب من قرارات وإجراءات تحمي العقيدة وتنصر المسلمين.

       ينعقد هذا الملتقى في وقت عصيب يشهد فيه العالم أحداثاً جسامًا لها تأثير كبير ومباشر على الإسلام والمسلمين؛ فالمسلمون يواجهون اليوم تحديات خطيرة تستهدف كيانهم وتتعرض معتقداتهم وبلادهم لهجمات شرسة وجائرة كما تتعرض رموزهم ومقدساتهم للسخرية والاستهزاء.

       وهناك معاهد ومؤسسات وحركات وجمعيات تُخطِّط وتتآمر لتشويه صورة الإسلام والمسلمين وإثارة قضايا تجعل المسلمين في دوامة الردود والانفعالات.

       ومن أبرز التحديات التي يواجهها المسلمون اليوم:

       – هيمنة القوى الطاغية المُدجَّجة بالأسلحة المُدمِّرة والفتاكة على ناصية الأمور، فهي تدير الأحداث وتتصرف تصرفات هوجاء من أجل بسط نفوذها وإكمال سيطرتها على موارد الشعوب ومُقدَّراتها.

       – وجود أجهزة الإعلام المستحدثة ووسلائلها الإلكترونية المؤثـّرة تقوم ببث السموم وترويج الأفكار المنحرفة ونشر القِيَم الأخلاقية الفاسدة لها تأثير خطير على عقول الناشئة وسلوك الشباب عمومًا وشباب المسلمين بصفة خاصة .

       – وجود فئة متدينة من الشباب مندفعة نحو معالجة الأمور بتهور ومغالاة متجرأة على الإفتاء في الدين في أدق قضايا المسلمين من غير أن تملك الحد الأدنى من الكفاءة والتأهيل الشرعي، فتَحوَّل بعض منها عن قصد أو من غير قصد إلى أدوات تدمير بلادهم وتخريب بيوتهم بأيديهم وأنفسهم.

       وهذه الأمور تؤكد على أهمية انعقاد مثل هذا الملتقى العالمي لعلماء المسلمين حتى يقوموا بوضع الخطوط الأساسية لمواجهة تلك التحديات ونشر الفكر الإسلامي المعتدل والمتوازن ، وترسيخ مفاهيم >الوَسَطِيّة< بين الشباب بدل الغلو والتطرف، وتوحيد صفوف المسلمين وإزالة أسباب الفرقة والإختلاف ووضع ضوابط شرعية دقيقة للتعامل مع الأمم والشعوب الأخرى غير المسلمة في ظل أفرازات مصطلحات وشعارات >العولمة< و>صدام الحضارات< و>الإرهاب< وما تطالبه المصالح الآنية والمستقبلية لدفع الأذى عن المسلمين.

       ولا شك أن أوّل خطوة نحو بناء المستقبل هو توحيد صف المسلمين لأن التناحر بين فئات الأمة المختلفة يجعلها لقمة سائغة للأعداء وتمنحهم فرصة سانحة لإشعال مزيد من الفتن وتمزيق وحدة المسلمين وإضعاف قدراتهم، من هنا جاء عنوان هذا الملتقى >وحدة الأمة الإسلامية<.

       إن الإسلام يربط المسلمين برباط عقائدي وثيق ويقيم بين كافة أتباعه علاقة >الأخوة الإيمانية< تنصهر فيها كافة الأعراق والأجناس وينخرط في عقدها كل من نطق بالشهادتين مهما تباعدت البلاد والأقطار وتناءت الديار والأمصار.

       يقول الله عزوجل: >إِنَّمَا الْمُؤْمِنونَ إِخْوَةٌ< (الحجرات:10).

       ويقول: إِنَّ هـٰـذِه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَّاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (الأنبياء:92).

       ويقول النبي ﷺ :

       >إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا – وشبك بين أصابعه< (رواه البخاري ومسلم) .

       >مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمى< (رواه البخاري ومسلم) .

       فالمسلمون جميعًا كأغصان شجرة واحدة انبثقت من أصل واحد وسيقت من معين واحد، فلا فرق بين أسود و أحمر ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى وسمّو الروح والتنفس.

       وقد حث الإسلام المسلمين على توحيد الصف والاتفاق، ومنَعَهم من التفرق والشقاق. ولقد أمر الله سبحانه وتعالى المسلمين قائلاً:

       >وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيْعًا وَّلاَتَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِه إِخْوَانًا< .

       وقد روى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أن رجلاً سأل رسول الله ﷺ: أي المسلمين خير؟ قال: >من سلم المسلمون من لسانه ويده< .

       ففيه الحث على الكف عما يؤذى المسلمين بقول أو فعل، بمباشرة أو سبب، وفيه الحث على الإمساك عن احتقارهم، وفيه الحث على تألُّف قلوب المسلمين واجتماع كلمتهم واستجلاب ما يحصل ذلك .

       يقول القاضي عياض رحمه الله: والألفة إحدى فرائض الدين وأركان الشريعة ونظام شمل الإسلام.

       وعن حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ: >المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا ثم شبك بين أصابعه<(متفق عليه)

       قال الإمام النووي رحمه الله: هذا الحديث صريح في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وحثهم على التراحم والملاطفة والتعاضد في غير إثم ولا مكروه(1).

       ويقول المناوي: المراد: بعض المؤمنين لبعض كالبنيان أي الحائط لا يتقوى في أمر دينه ودنياه إلا بمعونة أخيه كما أن بعض البنيان يُقوِّي ببعضه ثم شبك بين أصابعه تشبيهًا لتعاضد المؤمنين بعضهم ببعض كما أن البنيان المُمَسِّك بعضُه ببعض يشد بعضه بعضًا(2).

       يقول الإمام الغزالي رحمه الله: إن الألفة ثمرة حسن الخلق، والتفرق ثمرة سوء الخلق؛ فحسن الخلق يوجب التحاب والتآلف والتوافق، وسوء الخلق يثمر التباغض والتحاسد والتدابر(3).

       وقد قيل قديمًا: اتباع الأهواء يُفرِّق؛ والحب والإخاء يجمع؛ وإن الاتحاد قوة والتفرق وهن وضعف؛ وإن سبيل الله واحدة وسبل الشيطان متفرقة فمن تبعها فقد ضل وغوى.

       أما ما يتعلق بطعن العلماء بعضهم في بعض فقد عقد الإمام ابن عبد البر في كتابه النافع: >جامع بيان العلم< بابًا في حكم قول العلماء بعضهم في بعض بدأ فيه بحديث الزبير رضي الله عنه: دبّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء.

       وروي بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: استمعوا علم العلماء ولا تصدقوا بعضهم على بعض، فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايرًا من التيوس في زروبها .

       وعن مالك بن دينار: يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض .

       بل نقل عن ابن وهب: أنه لايجوز شهادة القارئ على القارئ يعني العلماء؛ لأنهم أشد الناس تحاسدًا وتباغضًا.

       ومن هنا قيل: إنه لايسمع كلام الأقران بعضهم في بعض(4).

       وهناك نصوص كثيرة تحث على التضامن والتعاون وتمنع من الفرقة والاختلاف منها ما روي عن عبد الله رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ: لايحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة< (رواه البخاري 7868- ومسلم1677).

       وقد روت عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت النبي ﷺ يقول: >الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف< (رواه البخاري)

       وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي ﷺ يقول: >إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم< (رواه مسلم)

       والتحريش بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتن وغيرها. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: >وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه< (الأنعام 153). وفي قوله تعالى: >أَنْ أَقِيمُوا الدَّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيه< (الشورى 13) قال: أمر الله تعالى المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والتفرقة .

       الذين دخلوا في الإسلام أصبحوا إخوانًا، فهم أولياء بعضهم بعضًا لا يصدهم عن ذلك اختلاف أنساب وتباعد مواطن. وقد امتن الله عليهم بتغيير أحوالهم من أشنع حالة إلى أحسنها من حالة العداوة التنافس والتقاتل إلى الاخوة والتضامن .

       وإن الأخوة الإسلامية التي يربط بها الإسلام اتباعه من حقوق هذه الاخوة :

  • أن يحب المسلم لأخيه ما يحب لنفسه .
  • وأن يبتعد عن أسباب التنازع والفرقة .
  • وأن لا يذله ولايسلمه لمن يخذ له .
  • أن يدافع عن ماله وعرضه .
  • أن يحمل تصرفاته على حسن النية .

ومن فوائد هذه الأخوة:

  • الترابط والتماسك في المجتمع الإسلامي .
  • تحقيق التوازن الإجتماعي .
  • توفير مناخ مناسب للعلاقات الإجتماعية .
  • الحث على الإبداع والابتكار .
  • مواجهة المشكلات بالتعاضد والتعاون .
  • تحقق التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع .

       إن توحيد صف المسلمين وجمع كلمتهم ورصّ صفوفهم واجب ديني وفريضة شرعية .

       فقد روي الإمام مسلم رحمه الله بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: >إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً؛ فيرضى لكم أن تعبدوه ولاتشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا؛ ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال .

       والمراد من الاعتصام بحبل الله هو التمسك بعهده، واتباع كتابه العزيز، وإقامة حروفه وحدوده والتأدب بأدبه؛ والمراد من عدم التفرق لزوم جماعة المسلمين، وتعاون بعضهم مع بعض وهي من قواعد الإسلام، وإن التفرق مذموم .

       وقد تجلت مظاهر إتحاد المسلمين وتضامنهم في كافة العبادات فالصلاة فُرِضَت جماعة، وخصص شهر الصيام لكافة المسلمين مهما تباعدت البلاد وتناءت الأقطار، وفريضة الزكاة تؤدى بروح التكافل وحسب نظام واحد في المقادير والأنصبة .

       والحج أيضًا يؤدى في زمان واحد ومكان واحد يجتمع فيه المسلمون من كافة أنحاء العالم .

       ثم إن الصلاة فيها انتظام الألفه بين المتجاورين في طرفي النهار وجوف من الليل.

       نقل الإمام الطيبي رحمه الله: >لعل الفائدة من صلاة الجماعة هي اجتماع المسلمين مصطفين كصفوف الملائكة<.

       فلم يكن السلف الأقدمون يتصورون الصلاة من غير جماعة فقد غضب الصحابي الجليل أبو الدرداء رضي الله عنه يومًا على تخلف بعض الناس عن صلاة الجماعة فلما سئل عنه قال:

       والله ما أعرف من أمة محمد (ﷺ) إلا أنهم يصلون جميعًا(5).

       قال الإمام الشافعي رحمه الله: وإذاكان للمسجد إمام راتب ففاتت رجلاً أو رجالاً فيه الصلاةُ صلوا فرادى ولا أحب أن يصلوا فيه جماعة فإن فعلوا أجزأتهم الجماعة فيه وإنما كرهت ذلك لهم لأنه ليس مما فعله السلف قبلنا بل قد عابه بعضهم.

       قال رحمه الله: وأحسب كراهية من كره ذلك منهم إنما كان لتفرق الكلمة، وأن يرغب رجل عن الصلاة خلف إمام جماعة فيتخلف هو ومن أراد المسجد في وقت الصلاة فإذا قضيت دخلوا فجمعوا فيكون هذا اختلاف وتفرق كلمة(6).

       يقول الشيخ أحمد شاكر: والذي ذهب إليه الشافعي من المعنى في هذا الباب صحيح جليل ناشئ عن نظر ثاقب وفهم دقيق، وإدراك لروح الإسلام ومقاصده، وإن أولَّ مقصد لازم ثم أجلَّه وأخطره توحيد كلمة المسلمين وجمع قلوبهم على غاية واحدة هي إعلاء كلمة الله وتوحيد صفوفهم في العمل لهذه الغاية .

       وإن عبادة الله وحده وعدم الشرك به مصدرُ القوة الروحية ومصدر التسامح والمحبة بين البشر وأن الاعتصام بحبل الله جميعًا وعدم التفرق على الحق هو وحدة الصف في لغة العصر.

       إن وحدة الأمة الإسلامية وحدة عقيدة، وحدة قبلة، وحدة قرآن.

       هذه هي عوامل الوحدة وهي لاتتنافى مع الاستقــلال الـــذاتي لكل مجمــوعــة ؛ لكنها تكون أسرة مُوَحَّدة يشدُّ بعضها بعضًا، وترتبط برباط روحي وتلتقي على مبادئ سامية كفيلة بإيجاد أواصر المحبة والتعاون والتناصح على نحو يترتب عليه نتائج إيجابية .

       إن الوحدة الإسلامية أبعد أثرًا وأوفر سلامة وأكرم روحًا فهي يحمي الفرد والجماعة وتُربِّي الفرد تربية روحية.

       قال القرطبي في تفسير قوله تعالى:

       وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَتَفَرَّقُوا (آل عمران103).

       >إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالأُلْفَةِ وينهى عن الفرقة لأن الفرقة هلكة والجماعة نجاة< .

       وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إن حبل الله هو الجماعة يقول القرطبي: ويجوز أن يكون المعنى: ولا تفرقوا متابعين الهوى والأغراض المختلفة بدليل قوله تعالى بعد ذلك .

       وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَليكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِه إِخْوَانًا (آل عمران:103).

       وليس في الآية دليل على تحريم الاختلاف في الفروع لأن الإختلاف ما يتعذر معه الائتلاف والجمع وليست كذلك مسائل الاجتهاد .

       لأن الاختلاف فيها يسبِّب استخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع، ومازالت الصحابة رضي الله عنه يختلفون في أحكام الحوادث وهم مع ذلك متآلفون(7).

       وكما هو معروف أن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله حينما عرض عليه رجل كتابًا في الاختلاف قال: لاتُسَمِّه: >كتاب الاختلاف<، سمّه: كتاب السعة أو كتاب السند .

       وكان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجة قاطعة وإختلافهم رحمة واسعة ويقول الإمام ابن قدامة المقدسي:

       وأما النسبة إلى إمام في فروع الدين كالطوائف – أي المذاهب الأربع – فليس بمذموم فإن الاختلاف في الفروع رحمة والمختلفون فيه محمودون في اختلافهم، مثابون في اجتهادهم، واختلافُهم رحمة واسعة واتفاقهم حجة قاطعة. (لمعة الاعتقاد)

       ولإمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله مواقف عظيمة في سدّ أبواب الفتنة .

       فقد روي الحافظ أبو نعيم في حليه الأولياء عن عبد الله بن الحكم قال: سمعت مالك بن أنس رحمه الله تعالى يقول:

       >شاورني الرشيد في أن يعلِّق الموطأ الكعبة ويحمل الناس على ما فيه فقلت: لا نفعل فان أصحاب رسول الله ﷺ اختلفوا في الفروع وتفرقوا في البلدان وكل عند نفسه مصيب، فقال: وفقك الله أبا عبد الله(8).

       كذلك روى ابن سعد في الطبقات عن محمد بن عمر الأسلمي الواقدي قال: سمعت مالك بن أنس يقول: لما حج المنصور قال لي: إني قد عزمت على أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فننسخه، ثم أبعثُ إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها بنسخه وآمرهم أن يعملوا بما فيهما، ولا يتعدوه إلى غيره فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ودانوا به من اختلاف الناس فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم(9).

       وهكذا سد هذا الإمام العلم باب الفتنة الكبرىالتي كانت ستحدث في حالة إرغام الناس على نمط واحد من الفهم وطريقة واحدة من الاجتهاد.

       وكذلك كان موقف هذا الإمام الجليل في سد باب الفتنة في باب العقيدة حينما سأله سائل عن الاستواء فقال: الإستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة، ثم زجر السائل وطرده من مجلسه لما تفرس فيه الجنوح إلى الفتنة والولوع بالخوض فيما لاينبغي فيه الخوض للإنسان .

       وقد كره النبي ﷺ من المجادلة ما يفضي إلى الاختلاف والتفرق، فخرج على قوم من أصحابه وهم يتجادلون في القدر، فكأنما فقىء في وجهه حب الرمان وقال: أبهذا أُمِرْتم؟ أم إلى هذا دعيتم: أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض .

       قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: فما أغبط نفسي كما غبطتها أن لا أكون في ذلك المجلس. (رواه أبوداود)

       وليس موقفه في مسألة إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم تنفيذًا لما أبدى النبي ﷺ من رغبته في ذلك حيث إن الخليفة المنصور لما سأله فقال: لا تفعل حتى لا تكون الكعبة ألعوبة في أيدي العابثين من الحكام. أقول ليس هذا الموقف من هذا الإمام الجليل أقل أهمية في درء الفتنة عن الأمة وعدم إثارة أمور تحدث الشقاق وتشق عصا الوحدة.

       وإني قد تعودت على ذكر هذه المواقف الثلاث للإمام مالك رحمه الله التي أرشده الله سبحانه إليها باعتبار أنه من خلال رده في مسألة الاستواء درأ >فتنة الاعتقاد< ومن خلال رفضه لإجبار الناس على العمل بما في المؤطأ درأ >فتنة الفقه< ومن خلال منعه الخليفة من إعادة بناء الكعبة درأ >فتنة سياسية ودينية مزدوجة< فلله دره ما أعظم إخلاصه وزهده وما أبعد نظره رحمه الله رحمة واسعة .

       وكذلك نرى الإمام الشافعي رحمه الله يناظر معاصره الإمام الحافظ أبا موسى يونس بن عبد الأعلى المصري الصدفي في مسألة، ويرى أن الحق معه ويفترق عن صاحبه دون إقناع أو إقتناع مع ذلك يقول أبو موسى:

       ما رأيت أعقل من الشافعي ناظرته يومًا في مسألة ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانًا، وإن لم نتفق في مسألة فلا داعي إلى التشدد والإنكار في الأمور الخلافية بين علماء الأمة وأئمتها.

       ويقول الإمام ابن تيميه رحمه الله: وكان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، بما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين.

       نعم من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافاً لا يُعْذَر فيه، فهذا يُعامَل فيه معاملة أهل البدعة .

       وكذلك يقول في موضع آخر:

       أما الاختلاف في الأحكام فأكثر من أن ينضبط فكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يختلفان ويتنازعان ولا يقصدان إلا الخير وقد قال ﷺ في يوم بني قريظة الخ.

       كذلك يقول متحدثاً عن قاعدة أهل السنة والجماعة في أهل الأهواء والبدع :

       >ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة< فإن الله تعالى قال حاكيًا دعاء المؤمنين >رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَّسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا< وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم .

       والخوارج المارقون الذين أمر النبي ﷺ بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين على بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفر هم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام، أغاروا على أمور المسلمين فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار؛ ولهذا لم يسب حريمهم ولم يغنم أموالهم. ثم يقول:

       والأصل إن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم مُحرَّمة من بعضهم على بعض لاتحل إلا بإذن الله ورسوله قال ﷺ >كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه< وقال: من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ذمة الله ورسوله<

       وقال: إذا قال المسلم لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما.

       وبعد ذكرِ قصة عمر رضي الله عنه مع حاطب بن أبي بلتعة، وقصة أسيد بن الحضير مع سعد بن عبادة، وقتال أهل الجمل وصفين يقول الإمام ابن تيمية:

       ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضًا موالاة الذين لايعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض، ويأخذ بعضهم العلم من بعض، ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون معاملة المسلمين بعضهم مع بعض رغم ما كان بينهم من القتال والتلاعن، ويمر ذلك فالمتأول والجاهل المعذور ليس حكمه حكم المعاند الفاجر (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)(10). يقول الإمام الشاطبي رحمه الله في كتاب الاعتصام :

       وقد اختلفت الأمة في تكفير هؤلاء الفِرَق أصحاب البدع العظمى؛ ولكن الذي يقوى في النظر وبحسب الأثر عدم القطع بتكفير هم، والدليل عليه عمل السلف الصالح فيهم ألا ترى إلى صنع علي رضي الله عنه في الخوارج، وكونه عَامَلَهم في قتالهم معاملة أهل الإسلام، على مقتضى قول الله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بِينَهُمَا) .

       فانه لما اجتمعت الحرورية وفارقت الجماعة لم يهاجهم علي رضي الله عنه ولا قاتلهم ولو كانوا بخروجهم مرتدين لم يتركهم لقوله عليه السلام: >من بدل دينه فاقتلوه< ولأن أبا بكر رضي الله عنه خرج لقتال أهل الردة ولم يتركهم فدل ذلك على اختلاف ما بين المسألتين(11).

       كذلك يقول العلامة المحدث علي القاري رحمه الله: نقلاً عن ابن حجر الهيثمي المكي: الصواب عند الأكثرين من علماء السلف والخلف: أنا لانكفر أهل البدع والأهواء، إلا إذا أتوا بمكفر صريح لا استلزامي لأن الأصح إن لازم المذهب ليس بلازم(12).

       ومن ثم لم يزل العلماء يعاملونهم معاملة المسلمين في نكاحهم وإنكاحهم والصلاة على موتاهم ودفنهم في مقابرهم؛ لأنهم إن كانوا مخطئين غير معذورين وانما بذلوا وسعهم في إصابة الحق فلم يحصل لهم؛ لكن لتقصير هم بتحكيم عقولهم وأهويتهم وإعراضهم عن صريح السنة والآيات من غير تأويل سائغ .

       وبهذا فارقوا مجتهدي الفروع، فإن خطأهم إنما هو لعذرهم بقيام دليل آخر عندهم، مقاوم لدليل غيرهم من جنسه، فلم يقصّروا ومن ثم أثيبوا على اجتهادهم(13).

       فإن عامة اختلافات الفقهاء والتنازعات الشائعة بين اتباعهم والذين لا يقلدونهم في أمور مستحبات ومكروهات لا في واجبات ومحرمات، فإن الرجل إذا حج متمتعًا أو قارنًا أو مفرداً كان حجه مجزئًا عند عامة المسلمين وإن تنازعوا في الأفضل من ذلك .

       كذلك الأذان سواء رجّع فيه أو لم يرجّع فإنه أذان صحيح عند جميع سلف الأمة وعامة خلفها وسواء ربع التكبير في أوله أو ثنّاه وإنما يخالف في ذلك بعض شواذ المتفقهة .

       وكذلك الإقامة يصح فيها الإفراد والتثنية بأيتها أقام صحت إقامته عند عامة علماء الإسلام إلا ما تنازع فيه شذوذ الناس .

       كذلك الجهر بالبسملة والمخافتة كلاهما جائز لا يبطل الصلاة وإن كان من العلماء من يستحب أحدها أو يكره الآخر أو يختار أن لا يقرأ بها وإلا فالصلاة بأحدهما جائزة عند عامة العلماء .

       إن الإسلام دين ائتلاف واتفاق ودين وحدة واجتماع وإن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة كلها تدعوا إلى الأخوّة والوئام والاندماج والانسجام وتمنع من التقاتل والتناحر والتشرذم والنصوص الشرعية في هذا الموضوع أكثر من أن تُحصى .

       إن الإسلام دين كامل وتعاليمه شريعة خالدة فإذا كانت أصول العقيدة واضحة ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان وكذلك أصول الفرائض ومنصوصات المحرمات قطعية غير قابلة للتحويل والتبديل، فهناك آيات بينات واضحات تهدي إلى أحكام قضايا عملية ذكرت في صورة أصول وكليات يمكن استنباط المزيد من الجزئيات منها مع تطور الحياة وتغير الظروف والملابسات، فلا تغيير في القطعيات ولا تبديل في الإيمانيات؛ لكن لا خطر من إعمال الفكر الإجتهادي في الأمور الفقهية الكليات لاستخراج مزيد من أحكام الجزئيات. والاختلاف أن يأخذ كل واحد طريقًا غير طريق الآخر في حاله أو قوله؛ والخلاف يدل على تباين في الآراء والمواقف حول أمر من الأمور واختلاف في وجهات النظر وهو أعم من التفرق فليس لك خلاف تفرقًا .

       والإختلاف والتنوع سنة من سنن هذا الكون وإنما يكون الإختلاف مذمومًا إذا كان ناتجاً عن اتباع الهوى والتعصب الممقوت لشخص أو جماعة .

       يقول الله عز وجل :

       وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَل النَّاسَ أُمَّةً وَّاحِدَةً وَّلاَ يَزَالُونَ مَخْتَلِفَيْنَ إِلاّ مَنْ رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ (سورة هود: 118-119)

       يقول الإمام الشاطبي رحمه الله:

       وللإختلاف خلقهم ليكونوا فريقًا في الجنة وفريقًا في السعير ونحوه عن الحسن فالضمير في خلقهم عائد إلى الناس فلا يمكن أن يقع منهم إلا ما سبق في العلم(14).

       خلق أهل الإختلاف للإختلاف وأهل الرحمة للرحمة، ومما يدل على أن الإختلاف سنة من سنن الله ما رواه الإمام مسلم رحمه الله من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ أقبل ذات يوم حتى مر بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه دعا به طويلاً ثم انصرف إلينا فقال:

       >سألتُ ربي ثلاثاً فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة<

       سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا تهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمَنَعَنيه< (رواه مسلم)

       وهذه إشارة إلى أن التفرقة والاختلاف لابد من وقوعهما في الأمة وكان يحذِّر أمته ينجو من شاء الله له السلامة(15).

       ولقد أمر الإسلام بالتعاون والائتلاف والتماسك والإتحاد بين أفراده ونبذ الخلاف وأسباب التناحر والشقاق وذم التفرق والتقاطع قال تعالى:

       >يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِه وَلاَ تَمُوْتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُوْنَ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِه إِخْوانًا وَّكُنْتُمْ عَلىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ< (آل عمران 102-103)

       وفي هذه الآية الكريمة أمر بلزوم تقواه وبالاعتصام والتمسك بدينه والحذر من التفرق عن الحق وذلك بوقوع الخلاف بينهم والشقاق كما كان الأمر في الجاهلية .

       فلا يجوز التفرق بذلك بين الأمة ولا يُعْطَى المستحبُ فوق حقه كما لا يجوز أن تُجعَل المستحبات بمنزلة الواجبات بحيث يمتنع الرجل من تركها ويرى أنه خرج من دينه أو عصى الله ورسوله بل قد يكون ترك المستحبات لمعارض راجح أفضل من فعلها بل الواجبات كذلك .

       وان ائتلاف قلوب الأمة أعظم في الدين من بعض هذه المستحبات فلو تركها المرء لائتلاف القلوب كان ذلك حسنًا. وذلك أفضل إذ كان مصلحة ائتلاف القلوب فوق مصلحة ذلك المستحب.

       وقد أخرجا في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال لها:

       >لولا أن قومكم حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة ولألصقتها بالأرض ولجعلت لها بابًا يدخل الناس منه وبابًا يخرجون< .

       وقد استدل البخاري رحمه الله وغيره على أن الإمام قد يترك بعض الأمور المختارة لأجل تأليف القلوب ودفع نفرتها .

       ولهذا نص الإمام أحمد على أن الجهر بالبسملة عند المعارض راجح قال: يجهر بها إذا كان بالمدينة قال القاضي: لأن أهلها إذ ذاك كانوا يجهرون فيجهر بها للتأليف .

       وفي صحيح البخاري عن رفاعة بن رافع الزرقي قال: كنا نصلي وراء النبي ﷺ فلما رفع رأسه من الركعة قال سمع الله لمن حمده قال رجل وراءه: >ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركاً فيه< فلما انصرف قال من المتكلم؟ قال أنا قال: رأيت سبعة وثلاثين ملكاً يتبدرونها إليهم يكتبها أوّل .

       ومعلوم أنه لولا حمده بها جهرًا لما سمع النبي ﷺ ولا الراوي ومعلوم أن المستحب للمأموم المخافتة بمثل ذلك .

       وكذلك ثبت في الصحيح عن عمر أنه كان يجهر بدعاء الاستفتاح: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ولا إله غيرك .

       وعن ابن عباس أنه جهر بقراء الفاتحة على الجنازة وقال: لتعليمه إنها السنة .

       وكذلك كان ابن الزبير يجهر بالبسملة ولم يكن يجهر بها ابن مسعود وغيره .

       كذلك القنوت في الفجر، والقنوت في الوتر، والتسليمة الثانية في الجنازة، وكذلك تكبيرات العيد الزوائد، وأنواع التشهدات وأنواع الاستفتاح في الصلاة وصيغة الاستفتاح .

       يقول الإمام أبوبكر الجصاص الرازي في أحكام القرآن :

       أمر الأذان والإقامة، وتكبير العيدين والتشريق ورفع اليدين في تكبير الركوع من الأمور التي نحن مخيرون فيها وإنما الخلاف بين الفقهاء في الأفضل منها ويحمل الأمر في ذلك على أن النبي ﷺ قد كان منه جميع ذلك تعلميًا منه وجه التخيير(16) .

       وقال أبو حيان: نهى المسلمون (في هذه الآية) عن التفرق في الدين والاختلاف فيه كما اختلف اليهود والنصارى وعن ما يوجب التفرق ويزول معه الاجتماع(17).

       ويقول ابن كثير: إن الله أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة وقد وردت أحاديث كثيرة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف .

       وقد ضمن الله لهم العصمة من الخطأ عند اتفاقهـم وخيف عليهم الخطأ عنـد افتــراقهم واختلافهم .

       إن هذا الوقت العصيب الذي تمر به الأمة تكالبت فيه قوى الشر لتقويض بلاد الإسلام ونهب خيراتها فهي تمارس الضغوط لتذويب كيانها وإخراجها من خصائصها ومميزاتها بل بدأت تستهزئ برموزها وتدنس شعائرها ومقدساتها ولا تملك الأمة قوة رادعة لتلك الدسائس والمؤامرات .

       في هذا الوقت العصيب قد ازدادت مسؤوليات علماء الأمة ودعاتها لأداء دورهم التاريخي :

       أوّلاً : في إنقاذ الأمة مما تعانيه من تحديات وما يحيط بها من أخطار .

       ثانيًا : بوضع الضوابط الشرعية الدقيقة وبيان شروط الإفتاء في الدين وإيضاح أحكام الشريعة للمسلمين ، خاصة في القضايا التي تتعلق باستباحة أرواح الناس وأعراضهم وممتلكاتهم .

       ثالثاً : بوضع الحد لظاهرة الغلو والتطرف التي تكاد تقضي على الأخضر واليابس والتي دخلت في مرحلة تخريب بيوت المسلمين بأيديهم .

       رابعًا : بتأصيل >الوسطية< وتقعيد قواعدها وضبط أصولها ، حتى لا تكون الدعوة إلى الوسطية انبطاحًا أمام الآخرين وتفريطاً في حقوق المسلمين .

       – فيجب أن يكون الحكم بالتوسط داخلاً ومندرجات تحت أصل من أصول الدين .

       – وأن لايعارض ما هو ثابت بالضرورة من أمور المسلمين .

       – أن لا يؤدي التوسط إلى مفسدة أكبر بدل تحقيق مصلحة مقصودة .

       – أن لايكون الحكم بالتوسط في القضايا الشرعية منصوصة الحدود والمعالم .

       ومن أجل سد الفجوة بين الفئات المختلفة من المسلمين يتطلب الأمر من جديد إلى تفعيل القرار التاريخي الذي كان قد اتخذه المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته العاشرة المنعقدة سنة 1408هـ.

       بشأن موضوع الخلاف الفقهي بين المذاهب وكان أصدر بيانًا واضحًا بعد المداولات تنبيهًا وتبصيرًا جاء فيه :

       أولاً : حول اختلاف المذاهب :

       إن اختلاف المذاهب الفكرية القائم في البلاد الإسلامية نوعان :

       أ – اختلاف في المذاهب الإعتقادية .

       ب – واختلاف في المذاهب الفقهية .

       فأما الأول ، وهو الاختلاف الاعتقادي، فهو في الواقع مصيبة جرَّت إلى كوارث في البلاد الإسلامية، وشقَّت صفوف المسلمين ، وفرَّقت كلمتهم، وهي مما يُؤسَف له، ويجب أن لايكون، وأن تجتمع الأمة على مذهب أهل السنة والجماعة الذي يمثّل الفكر الإسلامي النقي السليم في عهد رسول الله ﷺ وعهد الخلافة الراشدة، التي أعلن الرسول أنها امتداد لسنّته بقوله: >عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسّكوا بها وعَضَّوا عليها بالنواجذ<

       وأما الثاني، وهو اختلاف المذاهب الفقهية في بعض المسائل، فله أسباب علمية اقتضته، ولله سبحانه في ذلك حكمة بالغة، ومنها: الرحمة بعباده وتوسيع مجال استنباط الأحكام من النصوص، ثم هي بعد ذلك نعمة وثروة فقهية تشريعية تجعل الأمة الإسلامية في سعة من أمر دينها وشريعتها، فلا تنحصر في تطبيق حكم شرعي واحد حصرًا لا مناص لها منه إلى غيره، بل إذا ضاق بالأمة مذهب أحدِ الأئمة الفقهاء في وقتٍ ما، أو في أمر ما، وجدت في المذهب الآخر سعة ورفقًا ويسرًا، سواء أكان ذلك في شؤون العبادة أم في المعاملات وشؤون الأسرة والقضاء والجنايات، على ضوء الأدلة الشرعية .

       فهذا النوع الثاني من اختلاف المذاهب، وهو الاختلاف الفقهي، ليس نقيصة ولا تناقضًا في ديننا، ولا يمكن أن لا يكون، فلا يوجد أمة فيها نظام تشريعي كامل بفقهه واجتهاده ليس فيها هذا الاختلاف الفقهي الاجتهادي .

       فالواقع أن هذا الاختلاف لا يمكن أن لايكون، لأن النصوص الأصلية كثيرًا ما تحتمل أكثر من معنى واحد، كما أن النص لايمكن أن يستوعب جميع الوقائع المحتملة؛ لأن النصوص محدودة والوقائع غير محدودة، كما قال جماعة من العلماء رحمهم الله تعالى، فلا بد من اللجوء إلى القياس والنظر إلى علل الأحكام وغرض الشارع والمقاصد العامة للشريعة، وتحكيمها في الواقع والنوازل المستجدة .

       وفي هذا تختلف فهوم العلماء وترجيحاتهم بين الاحتمالات، فتختلف أحكامهم في الموضوع الواحد، وكلّ منهم يقصد الحق ويبحث عنه، فمن أصاب فله أجران، ومن أخطأ له أجر واحد، ومن هنا تنشأ السعة ويزول الحرج .

       فأين النقيصة في وجود هذا الاختلاف المذهبي الذي أوضحنا ما فيه من الخير والرحمة، وأنه في الواقع نعمة ورحمة من الله بعباده المؤمنين، وهو في الوقت ذاته ثروة تشريعية عظمى ومزية جديرة بأن تتباهى بها الأمة الإسلامية؛ ولكن المضلّلين من الأجانب الذين يستغلّون ضعف الثقافة الإسلامية لدى بعض الشباب المسلم، ولاسيما الذين يدرسون لديهم في الخارج، فيصوّرون لهم اختلاف المذاهب الفقهية هذا، كما لو كان اختلافًا اعتقاديًا ليوحوا إليهم – ظلمًا وزورًا – بأنه يدلُّ على تناقض الشريعة دون أن ينتبهوا إلى الفرق بين النوعين، وشتان ما بينهما !.

       ثانيًا : وأما تلك الفئة الأخرى التي تدعو إلى نبذ المذاهب ، وتريد أن تحمل الناس على خط اجتهادي جديد لها ، وتطعن في المذاهب الفقهية القائمة، وفي أئمتها، أو بعضهم : ففي بياننا الأنف عن المذاهب الفقهية، ومزايا وجودها وأئمتها: ما يوجب عليهم أن يكفُّوا عن هذا الأسلوب البغيض الذي ينتهجونه ويضلّلون به الناس ويشقُّون صفوفهم، ويفرقون كلمتهم، في وقت نحن أحوج ما نكون إلى جمع الكلمة في مواجهة التحديات الخطيرة من أعداء الإسلام، بدلاً من هذه الدعوة المفرّقة التي لا حاجة إليها .

       وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرًا، والحمد لله ربّ العالمين .

       ينبغي أن يكون هذا القرار التاريخي الصادر عن رابطة العالم الإسلامي وبتوقيع كبار الفقهاء المشهود لهم بالعلم والفضل أساسًا للانطلاقة نحو توحيد صف الأمة على اختلاف فئاتها ومذاهبها . والله ولي التوفيق،،،

*  *  *

الهوامش :

  • شرح صحيح مسلم : 16/139 .
  • بيض القدير : 6/252 .
  • أحياء علوم الدين : 1/181 .
  • راجع الرفع والتكميل : 258-276 .
  • فتح الباري ج 2/162 .
  • الأم : 1/154 .
  • الجامع أحكام القرآن : 4/159 .
  • حلية الأولياء : 2/332 .
  • طبقات ابن سعد / 444 القسم الأخير .
  • مجموع الرسائل والمسائل لابن تيمية : 5/201 .
  • الاعتصام : 2/185-187 .
  • ورحم الله الإمام أبا حنيفة النعمان أنه لما سئل: لم لا تكفر الناس الذين يكفرونك؟ فرد قائلاً: إنهم كذبوا عليّ ولم يكذبوا على الله سبحانه وتعالى فهم كاذبون وليسوا كفرة.
  • المرقاة شرح المشكاة : 1/147-148، وراجع السيل الجرار للشوكاني : 4/578-579، 584-585 .
  • الاعتصام : 2/670 .
  • اقتضاء الصراط المستقيم : 1/122 .
  • أحكام القرآن : 1/203-204 .
  • البحر المحيط : 3/21 .

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محـرم – صفـر 1428هـ = فبـراير – مارس  2007م ، العـدد : 1-2  ، السنـة : 31.


(*) كلمة مقدمة إلى الملتقى العالمي لعلماء المسلمين الأول المنعقد بمكة المكرمة في 3-5/3/1427هـ الموافق 1-3/4/2006م .

Related Posts