الأدب الإسلامي
بقلم : د. السيدة مسرت جمال
الأستاذة المساعدة بقسم اللغة العربية جامعة بشاور – باكستان
الأدب يُمثِّل الحياة ويُصوِّرها، ويعرض على القارئ والسامع صورًا تنعكس وتبدو من مجالات العيش المختلفة، ويعرض عرضًا جميلاً ومؤثـِّرًا لشتى جوانبها وأشكالها، فتبدو فيه ملامح السكون والحياة وأشكالها المتنوعة، فعندما يفوتنا النظر إلى الحياة مباشرة ننظر إليها ونشاهدها في مرآة الأدب شريطةَ أن يجيد الأدب عمله وتصدق من صاحبه المقدرة وتحسن ملكتُه، وبذلك يصبح الأدب سببًا لتخليد أحداث الحياة وصورها، فهي تلمس وتشاهد ولو بعد وقوعها بزمن بعيد إذا بقيت العبارة المُصوِّرة لها، وبقي التعبير الفني الجميل منها وبقيت معانيها وكلماتها مفهومة مثلما كانت مفهومة في أوانها .
ويتسع الأدب باتساع الحياة وتتعدد جوانبه ونواحيه كما تتعدد جوانب الحياة ونواحيها ، ويستطيع به القارئ أو السامع أن يطل على حياة البعيدين في المكان أو السالفين في الزمان مهما قدم تاريخهم أو بعدت أوطانهم .
صلة الأدب بالإسلام :
ثم إن الدين الإسلامي لم يكن دينًا قاصرًا محدودًا في العبادات وحدها حتى يقال عنه إنه إذا سايره أدب كان منحصرًا في العبادات وحدها؛ بل إنما الإسلام هو الدين الفريد الذي اتسع كاتساع الإنسان وامتد كامتداد حياته، ولم يتعارض إلا مع ما يتعارض مع مصلحة الحياة الإنسانية ذاتها ومع ذوقها الجميل، وإنه إذا تعارض فيتعارض مع عمليات الهدم والإخلال بصالح الإنسان وإنسانية .
بين الأدب الإسلامي وغير الإسلامي :
فموضع الاختلاف بين الأدب الإسلامي وغيره من أجناس الأدب هو في رعاية مصلحة الحياة الإنسانية وعدم رعايتها حيث إن الأدب الإسلامي يرى مجالات العمل في الكون والحياة ويميز بين اللائق بإنسانية الإنسان وغير اللائق بها، فهو أدب ملتزم في هذا المعنى؛ ولكنه ملتزم بالمفيد الصالح لا بالجمود والتقليد؛ أما الأدب غير الإسلامي فهو لا يبالي بمجالات العمل في الكون والحياة ، يدخل في كل مكان مثل البهيمة الهاملة ترعى فيما تشاء ولا تفرق بين الصافي والعفن، والطيب والخبيث ولا تبالي بالفرق بين المراعي الفائحة والقاذورات النتنة؛ الأدب الإسلامي لايحب هتك العورات ولا إثارة المزابل إلا في نطاق هادف محدود؛ أما الأدب غير الإسلامي فلا يبالي أين وقع وماذا أفسد، بل إن حينما يجرد نفسه من الالتزام يرى أحب مجالات عمله كل صورة مثيرة للعواطف وكل معنى يُغذّي النزوات مهما أتى به في إثره من فساد وانهيار؛ الأدب الإسلامي يتلقى روحه وهدايته من الإسلام، ومن حياة نبي الإسلام (ﷺ)؛ والأدب غير الإسلامي يلتقي روحه وإرشاده من هوى الإنسان وحياة كل هائم من الحيوان، وليس صحيحًا أن الأدب بعد التزامه بالإسلام يصبح محدودًا وقاصرًا؛ لأننا حينما نشطب جانب الفساد والقبح من الحياة فالذي يبقى بعده في الأدب هو واسع وكثير ومتنوع الجوانب ومختلف الصور والأشكال، ولن يشعر الممارس له والمستفيد به أي قصور فيه لقضاء حاجته من الأدب بل إنما يجده بخدمة في كل ما يعينه في حياته .
الأدب الإسلامي قسمان :
والأدب الإسلامي ينقسم – بصلته إلى الحياة – إلى قسمين : قسم يؤدي دور نشر الواعي الإسلامي وتبليغ الدعوة والفكر الإسلامي، ويشتمل على الابتهالات والدعوات؛ وقسم آخر يتصل بالحياة الإسلامية العامة ويخدم جانبًا من جوانبها. وهذا القسم الثاني يحمل حينًا شعارًا إسلاميًا واضحًا، وقد يخلو من شعار واضح منه؛ ولكنه يخضع للإسلام بالتزامه بالإطار المسموع للأدب من الإسلام .
أدب الدعوة والدين :
فالقسم الأول من الأدب الإسلامي إنما يوجد في مجالات الدعوة والتوعية الإسلامية ونصوص المبتهالات والدعاء وفي التعبير من الكلمة الإسلامية، وهذا القسم واضح المعالم وبين الملامح في إسلاميته وله أمثلة كثيرة في كلام الدعاة والصالحين .
الأدب العام :
أما القسم الثاني فربما يشك في أمره ويظن أنه ليس من الإسلام ؛ لأنه لا يحمل دائمًا شعارًا إسلاميًا ولكنه يدخل في الإطار الإسلامي ما دام يكون خاليًا مما نهى الله ورسوله (ﷺ) عنه، فقد رضي الرسول (ﷺ) بهذا القسم من الأدب؛ فإنه استمع إلى شعر الأدب الجاهلي ونثر العهد الجاهلي بدون أن ينعى عليه، ويدل على ذلك قبوله لشعر كعب بن زهير(1) وإعطاءه جائزة عليه، وتحدثـُه بحديث أم زرع وقاله بعده لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: >أنالك كأبي زرع لأم زرع(2)<، وقد جرى على سنته خلفاؤه كما ظهر من استماع سيدنا عمر بن الخطاب لقصيدة رثاء مالك بن نويرة(3) ورغبته مثل هذا الرثاء لأخيه أيضًا .
وكان ذلك لكون هذه النصوص الأدبية غير خارجة من الحدود المسموحة للأدب، وكلما خرجت نصوص أدبية من هذه الحدود المرسومة استدركوها وحكموا عليها بحكم الإسلام كما ظهر من سيدنا عمر بن الخطاب نفسه لما ثبت لديه أن الحُطيئة(4) أساء إلى سمعة الصحابي الجيل الزبرقان بن بدر(5) بهجائه له، ولم يكن يجوز له ذلك؛ لأن الزبرقان بن بدر لم يظلمه ولم يبخس حقه ولا أساء إليه، بل إنما كان أمره أن قرأه للشاعر لم يبلغ مبلغ رضاه ورغبته وكان الحطيئة يقوم بمثل هذه الإساءة إلى كرامة الناس بصورة عامة ومتكررة فعاتبه سيدنا عمر بن الخطاب معاقبة صدّتْ شره من وصوله إلى الناس، ثم أطلق سراحه بعد فترة من الزمن بعد توبته من قول السوء(6)، وشهد بذلك أيضًا ما وقع بين الشاعر الكبير جرير(7) والخليفة المسلم سيدنا عمر بن عبد العزيز(8).
فالقسم الثاني من الأدب الإسلامي قد يشتبه أمره في نظر بعض الناس لعدم وضوح حاله وخضوعه الملموس للإسلام؛ فإنما يُنْظَر إليه من ناحية التزامه بالإطار الإسلامي، ويُقْبَل على أساس تقيُّده بالقيود المرسومة للأدب عند الإسلامي هي قيود صلاح وبناء للإنسانية جمعاء؛ فإن الإسلام لا يعارض إلا الفاسد والمفسد، ويستحسن الحسن منه ويقوِّيه، ويقبح منه ويوهيه(9).
نشأة الأدب الإسلامي :
(الف) الأدب الذي بدأ ظهوره منذ البعثة النبوية الشريفة، والذي استقام عوده في ظل الدولة والحضارة الإسلاميّتين، بغض النظر عن كون هذا الأدب معبرًا في محتواه عن آفاق العقيدة الإسلامية، أو مشتملاً على بعض المعاني والقيم التي أفرزتها حركة الحياة الجديدة، أو مدلِّلاً على الالتزام بالأعراف المعنوية التي سادت في العصر الجاهلي وأقرها الإسلام .
ومن شأن هذا المعنى أن يقيد اصطلاح الأدب الإسلامي في قالب زمني يتسع لحقب زمنية متعاقبة ومديدة؛ ولكن مغزاه آل إلى الانحسار بمرور بعض الوقت وصار يختص بالمرحلة الأولى من تاريخ الدولة الإسلامية التي تنتهي بانتهاء الخلافة الراشدة. وشاعت في كتابات الكاتبين تسميات زمنية أخرى حلت محل الأدب الإسلامي على عصور سياسية لاحقة من قبيل الأدب الأموي والأدب العباسي وغيرهما .
وإن اعتماد الدلالة الزمنية لتمييز الأدب الإسلامي جعل كل إنتاج أدبي يرتقي إلى الحقبة التاريخية الإسلامية الأولى >أدبًا إسلاميًا< من غير التفاف إلى عقيدة المنشئ أو درجتها من جهة، ومن غير عناية كافية بمدى انعكاس الرؤية الإسلامية في محتوى النص من جهة أخرى. وإن استقراء ما تم إنتاجه في العصور الإسلامية المختلفة سيبين أن قسطاً كبيرًا منه ظل محتفظاً بالتقاليد المعنوية والتعبيرية التي أرساها الشعراء والأدباء السابقون، والجاهليون منهم خاصة. فلم يكن في مقدور تلك النتاجات – التي توصف بالإسلامية تبعًا لزمن ظهورها – أن تشي بالفهم الإسلامي للأدب إن لم تكن مُسهِمَة في ترك انطباع غير دقيق عن الإسلام ومُثُله. إن ما كتب في العصور الإسلامية المختلفة لا يصبح كله بالضرورة مادة لاستنباط الخصائص المميزة للأدب الإسلامي أو تحديد الركائز التي يقوم عليها، أو يستهدي بها، هذا الأدب في أزمنة أخرى .
ولعل قائلاً يقول إن النتاجات الأدبية المتقاطعة مع القيم الإسلامية كالقصائد التي تتغنى بالخمرة الحقيقية، أو الغزلية المتهتكة المكشوفة، أو الهجائية التي لا تخدم هدفًا إسلاميًا وغيرها، تبقى دائرة في فلك الأدب الإسلامي طالما أنها أُنْتِجت في ظل الحضارة الإسلامية الخاضعة لسنن الحضارات الأخرى في عدم خلوها من الخطأ والزيغ والانحراف . وقد يقبل مثل هذا الرأي ممن ينظر إلى الأدب الإسلامي من زاوية زمنية أو ممن يتعامل معه على أنه لعبة لغوية لا رسالة عقدية. ويسعى مثل هذا الناظر في هذه الحال إلى إيجاد تأويل أو تسويغ لأي نتاج أدبي يشذ عن روح الشخصية الإسلامية. وربما يكون غريبًا أن يبدي أصحاب الرؤية الإسلامية رايًا كهذا؛ لأن هؤلاء يدركون أكثر من سواهم خطورة الكلمة في الحياة العقائدية، ولئن كان رأيهم مبنيًا على اعتبار هذا الضرب من التعبير مظهرًا مرَضيًا يبغون تشخيصه وعلاجه لكان له وجه من القبول؛ ولكن الغرابة كامنة في وضع هذه النتاجات تحت عنوان >الأدب الإسلامي< بدعوى أنها نتاج مجتمع إسلامي يجمع أخلاطاً من الناس وأشتاتًا من الطبائع وألوانًا من القول. وينجم عن مثل هذا الفهم، بلا أدنى ريب، إخلال بالقيم التي يسعى الإسلام إلى إشاعتها وترسيخها وذلك بتقديم نماذج في إطار >الأدب الإسلامي< يكون ما يستنبط منها متعاكسًا مع الإسلام .
إن انتماء الإنسان إلى الإسلام يحتم عليه ألا يكون مواربًا في القضية، وألا يختار رأياً يرعى من خلاله أولئك الذين لم يستقر في قلوبهم الإيمان. كما يجب في الوقت عينه ألا تهوله كثرة النصوص التي لا تنسجم مع الفهم السليم للأدب الإسلامي والتي ينبغي أن توضع جانبًا في دراسة التاريخ الحقيقي للأدب الإسلامي أو في السعي لإرساء معالم واضحة لنظرية أدبية إسلامية . ويبدو أن المعنى الثاني للأدب الإسلامي يحسم هذه الوجهسجم مع الفهم السليم للأدب الإسلامي والتي ينبغي أن توضع جانبًا في دراسة التارية في الفهم والمعاجلة .
(ب) ويتمثل هذا المعنى الثاني بجعل عبارة الأدب الإسلامي مقتصرًا على النماذج الإبداعية التي تمثَّلت الإسلام وتشبّعت بروحه وصدرت عنه، فأصبحت بالتالي نماذج عقائدية تعكس الرؤيا الإسلامية للإنسان والكون والحياة وما بينها من صلات وأواصر في حاضرها المحسوس وغائبها المعتقد فيه، الذي يستشرفه المسلم بقلب مؤمن مطمئن .
وقد يفهم من هذا الكلام أن محتوى الأدب الإسلامي سينحصر في الوعظ والإرشاد ما دمنا نريد له أن يكون وعاءً لقيم الإسلام ومثله وأن يصير ذا رسالة دعوية. بل قد يفهم منه أن الأدب الإسلامي سيتصف بالمباشرة والتقريرية اللتين تسمان أية دعوة فكرية أو دينية. وعلى الرغم من أن صفة كهذه غدت سلبية في التثقيف الأدبي، وتطلق على أعمال شتّى من أجل إخراجها من دائرة الأدب والإبداع إلا أن علينا ألا نتعجل فننفي وجودها في الأدب الإسلامي بنية حسنة وهي الحرص على إبقاء هذا الأدب في دائرة الإبداع المقبول . وعدم التعجل مردود إلى أن الوعظ والمباشرة ليسا صفة سلبية دائمًا، وإن تهويل تأثيراتهما السلبية صادر عن أولئك الذين يفرغون الأدب – على وجه العموم – من رسالته في الحياة . وعلى هذا فإن التركيز على >سلبية< هذه الصفة يخدم رؤية للأدب ليس من الضرورة أن نتفق معها.
إن الأنواع التي يعالجها الأدباء، ومنهم الإسلاميون، تتوزع بين الشعر والقصة والمسرح وتفرعاتها. ولكل من هذه الأنواع منطقه الخاص به أو طبيعته التي يحتمها النوع نفسه . ولابد للأدب الإسلامي أن يراعي ذلك المنطق وتلك الطبيعة إذا ما أريد له أن يكون فاعلاً ومؤثرًا وجديرًا بالتقدير. ولابد أيضًا أن نستوحي ذلك المنطق وتلك الطبيعة من روح الإسلام نفسه، لا أن نستوردهما من عقليات غير إسلامية ونخضع نتاجنا الإسلامي لهما، ولئن أخذنا من >الغير< ما نظن أنه نافعٌ لأدبنا الإسلامي فلا بد من أن يوضع ذلك >المأخوذ< في القالب الإسلامي ليصبح جزءًا طبيعيًا من فكرنا وثقافتنا ورؤانا. فلا يراد من الشعر مثلاً أن يكون نثرًا منظومًا، وإن طبيعته لا تتحمل الوعظ والإرشاد المباشرين، ولئن حصل أن صار كذلك فعلينا ألا نخشى من القول إنه نظم مفتقر إلى الفهم الفني السليم؛ ذلك أن المحتوى الإسلامي وحده لا يحقق نصًا فنيًا إسلاميًا . بينما نرى أن الوعظ قد يكون مستسرًا في سياق القصة والمسرحية ومفهومًا من مجريات الحدث(10).
مشكلات وقضايا :
تثير الدعوة إلى تنظير الأدب الإسلامي مشكلات كثيرة ، وتطرح قضايا وفيرة للبحث والمناقشة، فثمة أسئلة تقفز إلى الأذهان كلما طُرِح مصطلح >الأدب الإسلامي< من مثل :
ما دلالة هذا المصطلح؟ أولاً يصدم – أو حتى يخدش – مصطلح الأدب العربي ؟ ألا يؤدي إلى تنظير ذخيرتنا الأدبية – إن لم نقل تشتيلها – توزيعها بين إسلامي وغير إسلامي؟ ألا يفتح الباب لمذهبية أدبية يتوزع فيها أدبنا إلى : إسلامي ونصراني ولا ديني.. إلخ
وإن كان أدبًا جديدًا فما الصلة بينه وبين تراثنا الأدبي ؟ هل يزاحمه على مقاعده أم يجاوره؟ وهل تقوم بينهما جسور وصلات أم يبقيان في خطين متوازيين لا يلتقيان ؟؟
هذه الأسئلة – وأمثالها – تواجه الدراسين كلما طرحت قضية تنظير الأدب الإسلامي ، وهي أسئلة وجيهةً ولاشك ، تضع أمامنا مشكلات حقيقية ينبغي حلها ، وقد واجهنا في سنوات بهذا الأدب أشكالاً وصياغات كثيرة لها، وقد نلمح في عيون المتسائلين المشفقين على الأدب العربي خشية صادقة، وألمح في عيون النافرين من الصبغة الإسلامية، الكارهين لأن يَخرج الإسلامُ من حدود الشعائر الدينية إلى آفاق الحياة الواسعة.
وكما ننتظر من دعاة الأدب الإسلامي أن يقدموا مُسوِّغات نظريتهم ننتظر منهم أيضاً أن يفسروا ما غمض على الآخرين، ويدفعوا الشبهات التي تنصب في طريقهم ؛ لتكون دعوتهم واضحة للناس ، تكشف بجلائها ما غمض عنهم ، وتدفع شبهات المشبهين .
وأما أن أجدادنا لم يستخدموا اصطلاح الأدب الإسلامي فهذه حقيقة لا تضير الأدب الإسلامي في شيء ، وذلك لسببين رئيسين :
الأول: أنه من النادر أن نجد أديبًا أو ناقدًا عربيًا تجاوز الأدب العربي إلى أدب الشعوب الإسلامية ، أو حاول أن يتتبع جوانب التأثير والتأثر بينهما ، أو يدرس قضية ما في هذه الآداب، على نحو ما تفعله الدراسات المقارنة اليوم، وعلى نحو ما تقتضيه دراسات المذاهب الأدبية في عالمنا المعاصر. وليس هذا تقصيرًا في الأدب العربي أو أدبائه ونقاده القدامى ، بل هو سمة عامة في آداب العالم قاطبة ، فقلما يتجاوز أديب أو ناقد قبل العصر الحديث أسوار لغته ، وإن فعل فبقدر ضئيل لا يعطيه النظرة الشاملة التي تتميز بها الدراسات في عصرنا الحديث .
الثاني : إن عدم وجود مصطلح الأدب الإسلامي عند أسلافنا لا يدينهم ولا يديننا في شيء .. فثمة مصطلحات كثير لم يعرفها أجدادنا، ومع ذلك فنحن نستخدمها اليوم في الأدب والنقد، بل وفي الفقه والثقافة الإسلامية العامة .. فالمذاهب الأدبية لم تكن معروفة من قبل، ولا يمنع غيابها عن التراث أن نستخدمها اليوم ، ومصطلحات النقد الكثير مثل (الشكل، المضمون، الصورة، الإيقاع، الموسيقي الداخلية، التجربة الشعورية، التوتر، التوصيل، الأسطورة، الأدب الملتزم .. الخ) لم تكن معروفة عند نقادنا القدامى ، ولم ترد في أي كتاب نقدي قديم، ولا يمنع غيابها عن التراث أن نستخدمها اليوم .
إن من التزيد أن نحتكم إلى التراث في قضية المصطلحات، ومن التزيد أيضًا أن نحاسبه أو نحاسب أنفسنا على مناهج وعلوم لم تكن موجودة من قبل، فندين ماضينا لأنه لم يعرفها، أو ندين أنفسنا لأننا نبتدع بدعة لم يعرفها أجدادنا. فتاريخ الأدب نفسه – مصطلحاً – وعلماً – لم يكن موجودًا من قبل، وتاريخ الأدب العربي لم يكتبه أجدادنا على النحو الذي نكتبه اليوم، فقد كانت معظم كتاباتهم تراجم الأدباء، تدرس أهم أحداث حياتهم، أو عرضًا لموضوعات أدبية تختلط بالأحداث والترجمة، وليس من المحرج أن نقول: إننا لا نملك تاريخًا أدبيًا قديمًا ذا منهج يوافق مناهج التاريخ الأدبي الحديث .
إذاً ليست هناك مشكلة في غيبة مصطلح ما، أو منهج معين أو تقنين أو نظرية، عن تراثنا، وليس ضروريًا أن نجد عن أسلافنا بذورًا لما استحدثناه اليوم من مصطلحات، ولا يغض من قدرهم ظهور مصطلحات أو مناهج جديدة، كما أنه لا يغض من قدرنا ظهور مصطلحات ومناهج جديدة في عصور قادمة، وعدم اهتمام أسلافنا بوضع مصطلح محدَّد للأدب الذي يرتبط بالإسلام وقضاياه لا يطعن في فهمهم للإسلام؛ لأن الإسلام كان الهواء الطبيعي الذي يتنفسون فيه ؛ ولأن الأدب الذي يهتم بقضايا الإسلام والمسلمين لم يكن غريبًا عنهم ولا يدهشهم، ولا يزاحمه ما يحدث في عصرنا، وتجاوزات الشعراء وفحشهم ومبالغاتهم لم تكن من الخطورة التي وصلت إليها اعتداءات بعض الشعراء على العقدية الإسلامية وقيمها في العصر الحديث، فضلاً عن أننا لا نجد دارسًا أو ناقدًا واحدًا دافع عن التجاوزات والتعهر.. ومن تسامح مع الشاعر في بعض هناته فقد بنى تسامحه على أن الشعراء >يقولون ما لا يفعلون<، ثم إن المسلمين في هذا العصر أحوج ما يكونون إلى التمسك بشخصيتهم الإسلامية العالمية، وأحوج ما يكونون إلى تأكيد روابطهم العقدية وتجاوز الخنادق القومية التي حُفرت بين بلادهم، وكادت أن تحفر أخاديد مؤلمة بين قلوبهم، فلم يكن العربي المسلم يشعر أن التركي المسلم خصمه أو أن الأفغاني المسلم غريب عنه، ولم يكن الأدب أو الفكر أو الثقافة المنتشرة آنئذ ، لم يكن شيء من هذا يقول له: إن قوميته هي حدود كيانه، وإن الإسلام دين يعيش في زاوية مَنْسيَّة فيه !. والأدباء الذي أبدعوا أدبهم في أكثر من لغة واحدة كانوا يَشْعُرون – ويُشْعِرون قراءهم – أنهم يتجولون في حدود الشخصية الإسلامية الموحَّدة .. ولم يكونوا في حاجة إلى إقناع أحد بأن آدابهم ترتبط في سداها ولحمتها بالإسلام .
لقد تجاوزت الدراسات النقدية الحديثة مصطلحات وقضايا قديمة كثيرة ، ووضعت مصطلحات وقضايا جديدة كثيرة، وفقًا لأعتبارات لم تكن قائمة من قبل، وكان الدافع لذلك حاجة العصر التطور الكبير الذي حل بالأدب في الأمم كلها(11).
دلالة الأدب الإسلامي ومفهومه :
والحديث المتكرر عن مصطلح >الأدب الإسلامي< ومفهومه ودلالته، يوحي بأن وجود الأدب الإسلامي حالة جديدة غامضة تفتقر إلى التوصيف والتوضيح، وهو ما يخالف الواقع .
>فالإسلام قد نشأ في بيئة يشكل الأدب عنصرًا أساسيًا في تكوينها الثقافي، وهي بيئة جزيرة العرب، فليس معقولاً أن يكون الأدب قد بقي بعيدًا عن ذلك الانقلاب الكبير الذي أحدثه الإسلام في حياة العرب الفكرية والاجتماعية والسياسية، والواقع التاريخي يذكر أن هذا الانقلاب قد انعكس على مرآة الأدب بالصورة التي تتناسب مع معطيات العصر الثقافية والفنية؛ ولكن الذي حصل بعد ذلك أن الأدب – بحكم طبيعته – كان شديد التأثر بالتجاوزات التي وقعت في المجتمع الإسلامي على حساب الصورة المثالية للفكرة الإسلامية والواقع الإسلامي وفي الجانب السياسي على الخصوص، وظهر هذا التأثر في مشاعر الشعراء والأدباء وقرائهم، ونتج عنه أدب منحرف عن التصور الإسلامي والمعرفة الإسلامية، واستمر هذا الانحراف وتَعمّق في المجتمعات الإسلامية على مدى قرون طويلة، وزاد وطفح في عصرنا هذا بظهور نظريات وأفكار جعلت من نفسها بديلاً عن الإسلام. وعكّس هذا الأدب الانحراف في صورة أدبية زائغة، ومع ذلك فإن سلسلة أدب إسلامي لم تقطع صلة هذه القرون في قمع الأدب الزائغ المنحرف، فثمة أدب إسلامي أنتجه قرائح صافية استلهمت الإسلام وتفاعلت مع تصوراته وأفكاره، غير أن كتب تاريخ الأدب العربي التي تناولت آداب اللغة العربية حسب عصور التأريخ لم تهتم بهذا الأدب واتجاهاته، بل أن بعضها حاول طمس المعاني الإسلامية في الأدب العربي أو تحجيمها في أغراض محدودة مثل الزهد أو الوعظ<(12)
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محـرم – صفـر 1428هـ = فبـراير – مارس 2007م ، العـدد : 1-2 ، السنـة : 31.