دراسات إسلامية
بقلم : الأستاذ محمد قطب عبد العال
القرآن الكريم هو كلام الله المعجز ولقد لمسنا بعض مظاهر الإعجاز في المجال الأسلوبي من حيث جمال الأداء في اللفظ والمعنى ، والروعة والبيان، وجمال التصورير وتنوعه ، والنسق التركيبي في الجرس الصوتي والتآلف المعنوي . وفي الحروف والمفردات والتركيب والبيان التصويري . مثله في ذلك مثل الأداء الحقيقي في مجال الشرائع والأحكام.. وعلومه وحكمه ، وفي كشف الحجب عن الغيوب الماضية والمستقبلة . فإعجاز القرآن (إنما كان بفصاحة ألفاظه ، وروعة بيانه ، وأسلوبه الفريد ، الذي لايشابه فيه أسلوب ، لا من نثر، ولامن شعر، ومسحته اللفظية التي تتجلى في نظامه الصوتي وجماله اللغوي وبراعته الفنية)(1)..
إلا أن إعجاز القرآن لا يقتصر على هذا الجانب كما ذكرنا سابقًا ، بل هناك وجوه أخرى لإعجاز القرآن .
وسنتناول في هذا الجانب موضوعين ..
** الأول : الإخبار عن المغيبات ..
ومن هذه المغيبات ما ورج عن الحرب التي ستقع بين الروم والفرس .. وهي أمور وقعت في المستقبل وما كان لأحد أن يعلمها إلا من قبل العليم الحكيم .
قال تعالى : ﴿الم * غُلِبَتِ الرُّوْمُ * فِيْ أَدْنىٰ الأَرْضِ وَهُمْ مِّنْ بَعْدِ غَلبِهِمْ سَيَغْلِبُوْنَ * فِيْ بِضْعِ سِنِيْنَ ، لِلّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ، وَيَوْمَئِذٍ يَّفْرَحُ الْمُؤْمِنُوْنَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَّشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيْزُ الرَّحِيْمُ﴾(2).
سورة الروم مكية ، تهدف كطبيعة السور المكية معالجة قضايا العقيدة الإسلامية المتمثلة في الوحدانية ، والرسالة ، والبعث .
ولقد بدأت السورة بالحديث عن حدث غيبي هذا الحدث أخبر عنه القرآن قبل وقوعه .
والآيات سبة وذلك حين انتصرت فارس إلى الروم وكان بينهما عداء مستحكم لديانة المسيحية على حين تغوص فارس في وثنيتها الدينية . ولقد كانا يفرضان بطريقة أو بأخرى سيطرتهما على أطراف الجزيرة العربية فيما يجاورهما من أماكن . وتشير الآيات إلى أن الروم قد انهزمت أمام جيوش فارس وشاع ال . وكان ذلك أثناء الجدل الدائر بين المسلمين والمشركين في مكة حول الإسلام ولقد وجد المشركون في ذلك فرصة للنيل من عقيدة الإسلام ، ومناسبة للاستعلاء بالشرك ، وفألاً بإنتصار ملة الكفر. وكانوا يقولون في تيه وعجب ألم تنتصر الفرس وهي الوثنية على الروم وهم أصحاب كتاب؟ وتصوروا بعقلهم القاصر وبوجدانهم المختلط أنهم سيظهرون على المسلمين وسيكون لهم الغلبة . وما انتصار فارس إلا إشارة إلى ذلك ..
ولقد أثر ذلك على المسلمين فاغتموا وحزنوا لهزيمة الروم وهم أهل كتاب . فنزلت الآية القرآنية الكريمة لتبشر المؤمنين بانتصار الروم على الفرس بعد زمن قليل في بضع سنين ، وأثارت البشرى بعض العجب والدهشة . كيف تنتصر الروم على الفرس وقد أنهكتها الحروب وأضعفتها ؟ وكيف تنهزم الفرس وهي الدولة القوية المسيطرة ؟ ..
ولم تمض المدة حتى انتصر الروم وانهزم الفرس وتحققت نبوءة القرآن . وكان ذلك في السنة الثانية من الهجرة النبوية ..
(قال أبو السعود : وهذه الآيات من البيانات الباهرة ، الشاهدة بصحة النبوة ، وكون القرآن من عند الله عز وجل ، حيث أخبر عن الغيب الذي لايعلمه إلا العليم الخبير ووقع كما أخبر)(3).
.. والآيات تتضمن إيحاءات تبرز مدلولات تصاحب هذا الحديث الهام ..
وأول هذه الإيحاءات ذلك الترابط بين الشرك والكفر في كل مكان وزمان أمام دعوة التوحيد والإيمان . فلقد اعتبر مشركو مكة أن انتصار الفرس انتصار لهم .. والايحاء الثاني هو إبراز قوة العقيدة في النفوس وقوة الثقة المطلقة بالله .. ذلك أن التبشير بنصر أهل الكتاب تغلغل إلى النفوس وتمكن في القلوب حتى أن أبا بكر راهن على النصر .. وكسب الرهان وهذه الثقة هي التي ملأت قلوب المسلمين قوة ويقينًا وثباتًا ..
والإيحاء الثالث (هو في تلك الجملة المعترضة في مساق الخبر من قول الله سبحانه ﴿لِلّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾ والمسارعة برد الأمر كله لله .. فالنصر والهزيمة وظهور الدول ودثورها ، وضعفها وقوتها . شأنه شأن ما يقع في هذا الكون من أحداث ومن أحوال مردّه كله إلى الله)(4).
ومن ثم يصبح التسليم والاستسلام أقصى ما يملكه البشر امام قدر الله وما يجريه في الكون .
* والعقيدة الإسلامية وهي ترد الأمر كله إلى الله لاتعفى البشر من الأخذ بالأسباب وتتضمن الآيات نبوءة أخرى وبشرى طيبة .
تلك النبوءة تشير إلى أن المسلمين سيفرحون بنصر قريب ، في الوقت الذي ينتصر فيه الروم ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَّفْرَحُ الْمُؤْمِنُوْنَ بِنَصْرِ اللهِ﴾.. ولقد صدق الله وعده وتحققت النبوءة وذلك حين انتصر المسلمون في موقعة بدر الكبرى .. وتنسم المسلمون هواء النصر .. والتحم النصران معا على الكفر والشرك ..
قال ابن عباس : كان يوم بدر هزيمة عبدة الأوثان ، وعبدة النيران . يقول الزمخشري في تعليقه (وهذه الآية من الآيات البينة الشاهدة على صحة النبوة ، وأن القرآن من عند الله لأنها إنباء عن علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله)(5).
** وفي هذا المجال فإننا يجب أن نؤكد أن الإخبار عن المغيبات اتخذ طريقين : طريق المستقبل.. أي الإخبار عن أمور مستقبلية .. وقد تحقق ذلك جميعًا ولقد ذكرنا نموذجًا لذلك .. وطريق الماضي .. أي الإخبار عن غيوب الماضي التي اطلع عليها الرسول ولم يكن له بها علم. مثل القصص القرآني ..
ولقد وردت آيات قرآنية كثيرة تتضمن المنّ على رسول الله بما جاء حول قصص الأنبياء وأممهم ومواقفهم .
قال تعالى : ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوْحِيْهَا إِلَيْكَ ، مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَقَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ * إنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِيْنَ﴾(6).
والإخبار بالغيب من دلائل الإعجاز ..
(ووجه الإعجاز في الماضي وقصصه أن النبي ﷺ نشأ أُميّا لايقرأ ولا يكتب . ولم تكن نشأته بين أهل الكتاب ، حتى يعلم بالتلقين علمهم .. وكان قومه أميين لايسُود فيهم علم من أي طريق كان إلا أن يكون علم الفطرة والبيان ، وإرهاف أحاسيسهم بالشعر والكلام البليغ)(7).
ونزل القرآن في هذا الوسط الأمي ، يتحدث عن أمم سابقة ، وأنبياء مضوا في التأريخ حملوا الرسالة ، ودعوا إلى التوحيد ، وواجهوا أمم الكفر والوثنية .. وأظهر ما حل بالذين كفروا وضلوا . وطالبهم بأن يروا الشواهد والآثار الدالة على ذلك من بقايا الأمم الضالة ..
لقد جاء القرآن بتفصيله الصادق المحكم عن أخبار الرسل والأنبياء .. ولقد صدق القرآن فيما حكاه حول الرسل والرسالات .. في حين اختلفت الصورة عما ورد في كتب أهل الكتاب .. من يهودية ونصرانية .
ولنذكر دليلاً قرآنياً على هذا الجانب الغيبي الخاص بقصص الأولين ..
قال تعالى : ﴿ذلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوْحِيْهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُوْنَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُوْنَ * إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيْحُ عِيْسى بْنُ مَرْيَمَ وَجِيْهًا فِيْ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِيْنَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِيْ الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَّمِنَ الصَّالِحِيْنَ * قَالَتْ رَبِّ أنَّىٰ يَكُوْنُ لِيْ وَلَدٌ وَّلَمْ يَمْسَسْنِيْ بَشَرٌ قَالَ كَذلِكَ اللهُ يَخْلُقُ مَايَشَاءُ ، إِذَا قَضـٰـى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُوْلُ لَه كُنْ فَيَكُوْنَ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ والإِنْجِيْلَ﴾(8).
.. الآيات الكريمات تتناول مواقف متنامية لقصة مريم وابنها عيسى عليه السلام . وهي أمور مغيبة لايعرفها الرسول ﷺ فدخلت بذلك في باب الإعجاز بالمغيبات الماضية .
وتبدأ الآيات باسم الإشارة البعيد (ذلك) .. إشارة إلى الموقف الأول في القصة وهو ولادة امرأة عمران لمريم .. ونذرها لعبادة الله .. وكفالة زكريا لها .. حتى إذا بلغت مبلغ النساء انزوت في محرابها تتعبد الله . وكان زكريا كلما دخل عليها المحراب يجد عندها الطعام والشراب .. وكان يدهش لما يرى وكانت تجيبه : أن ذلك رزق من الله ﴿إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ .
إن هذا الموقف الذي تنامى من لحظة الولادة إلى لحظة الانقطاع إلى العبادة وما جرى فيه .. وحي أو حي به الله إلى محمد ﷺ .. وما كان يعلمه .. وتشير الآية إلى موقفين .. لم يرد في كتب النصارى .. وهو تسابق سدنة الهيكل إلى كفالة مريم . والنص هنا يشير إلى حادث إلقاء الأقلام لمعرفة من تكون مريم له . وكعادة القرآن في قصصه فإنه لا يفصل الحادث ، وإنما يختار ما يريد لهدف ديني أو عظة تربوية ..
وربما كان هذا الحادث – حادث حركة رمى الأقلام – من أسرار السدنة التي لا تفشى ولا تباح فجاءت في القرآن دليلاً على الوحي . ومن ثم فقد ورد أنهم لم يجادلوا فيه .
روى كما جاء في الطبري – أن حنَّة حين ولدتها لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد – الهيكل – ووضعتها عند الأحبار وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة. فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم ثم اقترعوا فخرجت في كفالة زكريا فكفلها .
وتنتقل الآيات إلى موقف قصصي آخر وهو البشارة بمولد المسيح ..
فهاهو جبريل يبشر مريم بمولود يكون بكلمة من الله دون واسطة بشرية . يكون سيدًا في الدنيا والآخرة .. وتجري المعجزات على يديه طفلاً وكهلاً .
يقول الزمخشري (ومعناه .. يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت من حال الطفولة وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل ويستنبأ فيها الأنبياء)(9)
.. وتقف مريم مندهشة متعجبة وتتساءل كيف آتى بولد دون زوج !.. ويأتيها الجواب .. إن أمر الله عظيم لايعجزه شيء فإذا أراد شيئًا حدث دون تأخر ..
ويمضى السياق ساردًا صفات عيسى عليه السلام .. إذ تؤكد الآية أن الله أعطاه الكتاب وصواب الرأي وحفظ التوراة والإنجيل .. ثم يجتبيه رسولاً إلى بني إسرائيل .. (لقد بشرت الملائكة مريم بكلمة من الله اسمه المسيح عيسى بن مريم فتضمنت البشارة نوعه واسمه ونسبه ، وظهر من النسب أن مرجعه إلى أمه ، ثم تضمنت البشارة كذلك صفته ومكانه من ربه .. كما تضمنت معجزة تصاحب مولده .. ولمحة من مستقبله .. وسمته والموكب الذي ينتسب إليه)(10).
.. وكشفت الآية موقف الفتاة الحريصة على الشرف والكرامة في موقف المفاجأة المدهشة .. وأبرزت الانفعال الذي يطغى على الأنثى في مثل هذا الموقف فاتجهت إلى الله ضارعة أن يفك لها هذا اللغز ..
وحين يأتي الجواب برد الأمر كله إلى الله ، تزول الحيرة ويذهب العجب ، ويطمئن القلب ويفيد النص أن رسالة عيسى كانت لبني إسرائيل. ومن ثم فإن التوراة المشرِّعة والمنظمة لحياة الجماعة الإسرائيلية هي كتاب عيسى عليه السلام ، فضلاً عن الإنجيل الذي تضمن إحياء الروح وإيقاظ الضمير .
* ولقد جاءت القصة في أسلوب سردي وحواري مما أثار الانفعال الوجداني في نفس القارئ، وتضمنت نقلات في الزمان . واختزالاً له. فمرة نحن أمام مريم طفلة ، تحتاج إلى الرعاية والكفالة . ومرة فتاة ناضجة تتلقى البشارة بميلاد طفل .
وفي المرة الأولى : تقف على حركة الصراع حول الكفالة .. وحدة الانفعال ، أو الآراء المتصارعة .. تكشف المفردتان (ألقوا) و (يختصمون) ، تلك الحركة المنفعلة الراغبة في فعل الكفالة . كما تكشف رغبات سدنة الهيكل في الاستئثار بهذا الفعل تقربًا ..
وفي المرة الثانية : نقف بعد نقلة زمنية أمام موقف يتسم بالدهشة والغرابة والاصطفاء معا . فمريم الفتاة المتعبدة تفاجأ بملك يبشرها بمولد طفل منها ..
وهنا تنداح الانفعالات البشرية المختلطة والممزوجة بين الحيرة والقلق والخوف .. ويبرز هذا السؤال كيف ؟ .. ويحمل السؤال كل الانفعالات التي تخضع لها الأنثى في مثل هذا الموقف ..
ولأن الموقف أنثوى فجاء التعبير (ولم يمسسني بشر) للإيفاء بالمعنى المراد ، دون أن يجرح المشاعر، أو يتخطى جمالية الأداء في الخطاب .. وهذا التعبير الكِنَائي .. يحمل دلالات التعفف والتحصن مما يثير في ذهن مريم حيرة على حيرة وخوفًا على خوف.. ومن ثم فإن عبارة القرآن ﴿كَذَلِكَ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ .. جاءت لترد الأمر كله إلى الله .. ولتزيل الحيرة والشك ولتبعد الخوف ، ولتهيئ مريم للحظة التلقى ..
.. ولقد جاء التعبير القرآني في قصة يحيى على هذا النحو ﴿كَذٰلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ .. فالآيتان متشابهتان في النظم الأسلوبي ولكن الفعل الحقيقي اختلف : ففي الأول ورد اللفظ (يخلُق) والسياق القرآني يعطي المفردة القرآنية دلالتها وسرها التركيبي ..
.. فخلق عيسى من غير أب إيجاد واختراع جاء على غير ما يجئ البشر من التقاء بين الذكر والأنثى ، طبيعة الحياة القائمة على التزاوج بين نوعين يكمل بعضهما الآخر. ومن ثم فإن خلق عيسى لم يأت عن الطريق الطبيعي الذي يستدعي وجود الرجل والمرأة .. وعلى هذا فقد ناسب أن تأتي في السياق القرآني مفردة «يخلق» .
يقول سيد قطب رحمه الله (إن الله شاء أن ينشئ حياة على غير مثال . فأنشأها وفق إرادته الطليقة التي تنشئ الحياة بنفخة من روح الله . ندرك آثارها ، ونجهل ماهيتها) ..
ولقد مضى مألوف الناس على قاعدة أن للنشأة الانسانية طريقًا معروفًا وهو طريق إلتقاء الذكر والأنثى .. حتى شاء الله أن يخرق القاعدة، فتتلقى الأنثى .. الأنثى فقط النفخة التي تنشئ الحياة ابتداءً .
.. أما في الآية القرآنية الخاصة بيحيى .. فالأمر يختلف ..
فالزوج والزوجة موجودان .. ولكن في كل واحد منهما علة ..
فالزوج شيخ كبير هدته الشيخوخة وأضعفته.. إنه زكريا النبي الذي كفل مريم وأخلص لله ..
والزوجة فقدت خصوبة الأنثى الولود إنها عاقر لاتنجب .. إن الأمر يبدو أمام العين البشرية مستحيلاً . ولذلك فقد علا السؤال مدهوشًا وحائرًا في قول زكريا . يذكرنا بنفس الدهشة والعجب اللّذين صاحبا مريم ..
قال زكريا لربه في حيرة العبد المؤمن :
﴿قَالَ رَبِّ أَنّىٰ يَكُوْنُ لِيْ غُلاَمٌ وَّقَدْ بَلَغَنِى الْكِبَرُ، وَامْرَأَتِيْ عَاقِرٌ ، قَالَ ، كَذٰلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَايَشَاءُ﴾(11)
إن قصة ولادة يحيى من عجوز عاقر وشيخ قد بلغ من الكبر عتيًا شيء خارق للعادة . ولذلك لاءم اللفظ القرآني (يفعل) .. السياق العام .. لوجود الزوج والزوجة والعائق فيها .. فناسب أن يأتي الفعل المعجز لوجود أدواته الطبيعية . بخلاف السياق في قصد مريم وولادة المسيح .. فليس هناك وجود طبيعي للأدوات الفاعلة .. فليس ثمة إلا أنثى بما لاءم الخلق الفعل كله ..
.. ولا يفوتنا أن نذكر أن جميع القصص التي وردت في القرآن الكريم إنما هي باب من الإخبار عن المغيبات في الماضي ، وقد أطلع الله ورسوله محمدًا ﷺ عليها .. ولم يكن له علم بها .. مما يدل على إعجاز القرآن وأنه من عند الله وأنه ليس من كلام البشر كما ادعى الكفرة الجاهلون .
* * *
الثاني : الإشارات العلمية :
القرآن الكريم كتاب الله ودستور المسلمين في إقامة حياتهم على أساس من التشريع الإسلامي المحكم .. وهو يهدي ويرشد إلى السبيل الحق ، ويشرع من الأحكام ما فيه صلاح الأمة ..
ومع ذلك فثمة إشارات علمية دقيقة سبق إليها القرآن مكتشفات العلم الحديث .. فلم تخل آياته من إشارات إلى مجالات في الطبيعة والطب والنفس والتكوين وغيرها . مما يدل على إعجازه العلمي ..
فمحمد ﷺ كان أميًا ، وقد نشأت في بيئة بعيدة عن مظاهر التحضر والتمدن . مما ينتفى معه فهم الإشارات العلمية التي وردت في القرآن .. فما جاء في القرآن من معلومات علمية لم تكن معلومة في عصره .. ولم تُكتشف أسرارها إلا منذ عهد قريب .. ما يؤكد هذا الجانب الإعجازي أنه وحي من الله .
يقول «موريس بوكاى ! (وإن القرآن الكريم ليس فيه مسألة واحدة تناقض العلم الحديث ، بل إن كل ما ورد فيه من آيات وإشارات في علم الفلك وعلوم الحيوان والنبات ، وعن التناسب البشري .. يوافق تمام الموافقة معطيات المعارف العصرية التي كانت مجهولة في عصر النزول)(13)
والقرآن الكريم لايهدف إلى تقرير حقائق علمية ، لأن مقصده الجوهري ديني ، وهو إذ يتحدث عن القدرة الإلهية فإنه يدعو إلى التدبر في ملكوته . وتتخلل الدعوة الإلهية إشارات علمية .. وهذه الإشارات القرآنية تعد حدثا جديدًا في الوحي، جديرًا بالاهتمام .
والقرآن الكريم وهو يشير إلى هذه الإشارات العلمية يشفع كلامه بالتأكيد على منفعته للناس ..
ففي قوله تعالى : ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَق الله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وجَعَلَ الْقَمَرَ فِيْهِنَّ نُوْرًا وَّجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾(14).
وفي قوله تعالى : ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَّجَعَلْنَا سِرَاجًا وَّهَّاجًا﴾(15) .
في هاتين الآيتين وصف الله القمر بأنه منير والشمس بأنها سراج وهاج (ومعلوم أن الشمس نجم ينتج بفعل احتراقه الداخلي حرارة شديدة وضوءًا ، وأن القمر الذي لا يضيء بنفسه يعكس الضوء الذي يتلقاه من الشمس .. وليس في القرآن شيء يناقض ما نعرفه حول هذين الجرمين السماويين (16).
والضياء والطاقة عاملان لازمان لحياة الإنسان والنبات والحيوان . فالشمس مهدت بإذن الله للحياة على الأرض ، فجعلتها صالحة لأن يعيش فوقها الكائن الحي .. وبالشمس تتم الدورة المائية المعروفة .. مما يؤكد ارتباط الإشارات العلمية بما ينفع الإنسان في تنقله برًا وبحرًا ، واهتدائه ومعرفته عدد السنين والحساب .
* * *
الهوامش :
- التبيان في علوم القرآن . محمد علي الصابوني ص 98.
- سورة الروم الآيات 1- 5 .
- صفوة التفاسير ج2 ص 471 .
- الظلال ج 5 ص 2757 .
- الكشاف ج 3 ص 197 .
- سورة هود الآية 49 .
- القرآن المعجزة الخالدة ص 339 .
- سورة آل عمران الآيات 44 – 48 .
- الكشاف ج 1 ص 190 .
- الظلال ج 1 ص 398 .
- الظلال ج 1 ص 398 .
- سورة آل عمران الآية 40 .
- أنظر كتاب القرآن الكريم كتاب أحكمت آياته ج4 وعرض المؤلف الفاضل لكتاب بوكاى .
- سورة نوح الآيات 16-15 .
- سورة النبأ الآيات 12-13 .
- القرآن الكريم كتاب أحكمت آياته ج4 ص 139
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محرم 1426هـ = فبراير – مارس 2005م ، العـدد : 1 ، السنـة : 29.