الفكر الإسلامي
بقلم : الدكتور حسن محمد باجودة
إن مظاهر الحماية لعفاف الأسرة المسلمة في القرآن الكريم وفي سنة المصطفى ﷺ كثيرة. وسنحاول أن نسير مع بعض هذه المظاهر الواحدة تلو الأخرى، وهي على النحو التالي:
(أ) لباس الجلال والجمال والكمال :
من مظاهر الحماية لعفاف الأسرة المسلمة الحديث في آية كريمة واحدة من القرآن الكريم عن إنزال الله تعالى على بني آدم نوعين من اللباس: لباس الجلال والوقار الذي يواري السوءات، ولباس الجمال والزينة الذي يتجمّل به الإنسان ويتزيّن، وقد ضمت الآية الكريمة إلى هذين النوعين من اللباس الحسي لباسًا آخر معنويًا خيرًا من اللباسَين السابقَين، وهذا النوع الثالث هو لباس التقوى. قال تعالى(1): ﴿يَا بَنِيْ آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُّوَارِيْ سَوْءَاتِكُمْ وَرِيْشًا. وَلِبَاسُ التَّقْوٰى ذٰلِكَ خَيْرٌ. ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُوْنَ﴾ إن ربّ العزة يخاطب بني آدم ويمن عليهم بأنه – جل وعلا– قد أنزل عليهم لباسًا يغطي سوءاتِهم وعوراتِهم والأجزاءَ الخاصة من الإنسان الذي يسؤوه انكشافها، وأنزل عليهم لباسًا يتزيّنون به اُسْتُعِيْرَ له لفظُ الريش. والرياش والريش واحد وهو ما ظهر من اللباس(2) وريش الطائر معروف. وقد يخص الجناح من بين سائره ولكون الريش للطائر كالثياب للإنسان اُسْتُعِيْرَ للثياب. قال تعالى: ﴿وَرِيْشًا. وَلِبَاسُ التَّقْوٰى﴾(3) ولما كان جمال ريش الطائر من أهم ملامحه، بل إن جمال هذا الريش يكاد يكون جل جمال الطائر كالطاؤوس مثلاً فإن استعارة لفظ الريش للنوع الآخر من اللباس دليل على أن المراد ثياب الجمال والزينة، ودليل على عناية الإسلام بالجمال وعدم إغفاله أو إهماله لصفة الجمال، وإنما يعطيها القدر الذي تستحق من العناية أو الاهتمام والذي يتأخر عن قدر العناية بكلّ من الحق والخير. وفي الكلام بلاغة بالحذف، والتقدير: يابني آدم قد أنزلنا عليكم من السماء ماء مما يشرب الناس والأنعام والنبات؛ فيحيا الناس والأنعام والنبات، ويحصل الناس من أصواف الضأن، وأوبار الإبل، وأشعار المعز، ومن القطن والكتان وما إليهما مما يمكن الحصول عليه عن طريق النبات، يحصل الناس على أنواع لباس الوقار والجلال والاحتشام، وأنواع لباس الزينة والجمال والرياش.
على أن ثمّة لباسًا آخرَ معنويًا خيرًا من اللباسَين السابقَين، وهذا اللباس هو لباس التقوى والكمال. وبهذا يتّصف من ارتدى هذه الأنواع الثلاثة من اللباس بالثلاث الصفات من الجلال والجمال والكمال. إن لباس ستر العورات جلال، وإن لباس الزينة جمال. وإن لباس التقوى كمال. إن كلاً من لباس الباطن ولباس الظاهر من آيات الله – تعالى – لعلنا نتذكّر ونتّعظ، وإن لباس التقوى، وهي الوجه الآخر من الإحسان خير من اللباسين السابقَين. والإحسان كما بيّن معناه «المصطفى» – ﷺ – : هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك(4) يقول ابن كثير(5): (فاللباس ستر العورات وهي السوءات، والرياش والريش مايتجمّل به ظاهرًا، فالأول من الضروريات والريش من التكمّلات والزيادات) وإن الآية الكريمة في بلاغتها بالحذف تُذَكِّرُنا بإنزال الله – تعالى – الأنعام في قول الحق – جلا وعلا –(6) : ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَّاحِدَةٍ ثـُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأَنْعَامِ ثـَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَّخْلُقُكُمْ فِيْ بُطُوْنِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِيْ ظُلُمَاتٍ ثـَلاَثٍ. ذٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَه المُلْكُ لاَ إِلـٰـهَ إِلاَّ هُوْ فَأَنّىٰ تُصْرَفُوْنَ﴾ .
وإن حديث الآية الكريمة عن اللباس يُذكِّرنا بمثل هذه الآية الكريمة في تعداد نعم الله تعالى على بني آدم في سورة النحل(7): ﴿وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ بُيُوْتِكُمْ سَكَنًا وَّجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ جُلُوْدِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّوْنَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثـَاثاً وَمَتَاعًا إِلىٰ حِيْنٍ﴾.
ومن الواضح أنّ لباسَ التقوى المعنوي أو الكمال يأتي فوق الرياش ولباس الزينة والجمال، وأنَّ الرياشَ يأتي فوق اللباس الذي يواري السوءة أي لباس الوقار والجلال. إن ذلك يعني أن لباس التقوى أو الكمال يفترض وجود لباس ستر العورة ولباس الزينة أو الجمال، ففي الحديث الصحيح: إنّ الله جميل يحب الجمال(8) كما يعني أنّ نزع لباس ستر العورة معناه نزع آخر لباس للإنسان. فما الذي يحرص عليه الشيطان الرجيم الذي أعلن عداوته الصريحة لجنس الإنسان؟ إنه يحرص على نزع اللباس الذي يواري السوءة ويغطّي العورة. وهاهي ذي الآية الكريمة من سورة الأعراف كذلك تحذّرنا من هذا الهدف الرخيص للّعين، قال تعالى(9): ﴿يَابَنِيْ آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمْ الشَيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْءَاتِهِمَا. إِنَّه يَرَاكُمْ هُوْ وَقِبِيْلُه مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ. إِنَّا جَعَلْنَا الشَيَاطِيْنَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِيْنَ لاَيُؤْمِنُوْنَ﴾.
إنّ ربّ العزّة ينهى بني آدم أن يفتنهم الشيطان الرجيم ويخدعهم(10) ويضلّهم(11) فتنة كفتنة إخراج أبويهم من الجنة «آدم» و «حواء» – عليهما السلام . وما هي وسيلة فتنة الشيطان اللعين لبني آدم؟ : «يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا» والمعروف أنّ النزع يرتبط به العنف والقوة في الجذب. جاء في نزع الملائكة أرواح الكافرين بقوة كما يغرق نازع القوس في النزع والجذب قول الحق – جل وعلا– (12): ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا﴾(13) إنّ اللعين من القباحة والوقاحة إلى الحد الذي يعمد معه مباشرة إلى نزع لباس كل من الجنسَين. ولماذا ينزع اللعين بهذه الطريقة العنيفة الوقحة لباس كل من الجنسَين وهو الذي يرانا هو وذريته كما جاء في الآية الكريمة؟ الجواب في الآية الكريمة ذاتها: «لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا» إنّ الهدف من نزع اللعين اللباس الداخلي لكل من الجنسَين أن يرى كل من الجنسَين عن طريق الحرام سوءةَ الآخر وعورتَه والعضوَ الخاص الذي يسوء الإنسان السوي انكشافه. إنّ اللعين هو وجنوده(14) يرون بني آدم من حيث لايرونهم، وإن الذين يستجيبون لإغواء الشيطان الرجيم وإرائه هم أولياؤه غيرالمؤمنين، أما المؤمنون فإنّ الله – سبحانه وتعالى – هو وليّهم ومولاهم قال – تعالى – (15): ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِيْنَ آمَنُوْا يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلىٰ النُّوْرِ وَالَّذِيْنَ كَفَرُوْا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوْتُ يُخْرِجُوْنَهُمْ مِنَ النُّوْرِ إِلىٰ الظُّلُمَاتِ . أُوْلـٰـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُوْنَ﴾ وقال تعالى(16): ﴿ذٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِيْنَ آمَنُوْا وَأَنَّ الكَافِرِيْنَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ﴾.
وإنّ معنى قوله تعالى : ﴿لاَ يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الجَنَّةِ﴾ لايفتننّكم فتنة كفتنة إخراج أبويكم من الجنة(17) يحملنا على أن نقف على بعض الآيات الكريمات التي تتحدّث عن فتنة الشيطان لأبوينا: «آدم» و «حواء» – عليهما السلام – وإخراجهما من الجنة. وإن أقرب الآيات الكريمات هي السابقات مباشرة . قال تعالى(18): ﴿وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هـٰـذِهِ الشَّجَرَةِ فَتَكُوْنَا مِنَ الظَّالِمِيْنَ. فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَاوُوْرِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هـٰـذِه الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُوْنَا مَلَكَيْن أَوْ تَكُوْنَا مِنَ الخَالِدِيْنَ. وَقَاسَمَهُمَا إِنِّيْ لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِيْنَ. فَدَلاَّهُمَا بِغُرُوْرٍ. فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَّرَقِ الجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِيْنٌ. قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَتَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ. قَالَ اهْبِطُوْا بَعْظُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَّلَكُمْ فِيْ الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وِّمَتَاعٌ إِلىٰ حِيْنٍ. قَالَ فِيْهَا تَحْيَوْنَ وَفِيْهَا تَمُوْتُوْنَ وَمِنْهَا تُخْرَجُوْنَ﴾ .
إن اللعينَ خدع أبوينا عليهما السلام وضلَّلهما بأن زيّن لهما معصية الله تعالى بالأكل من الشجرة ليظهر لكلّ منهما سوأة الآخر وعورته ويخرجهما من الجنة. وإنّ اللعين الذي تعهد بإغواء جنس الإنسان إلا عباد الله تعالى المخلصين يزيّن للإنسان معصية الله تعالى بعامة، في مجال علاقة الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر بخاصة، مما له علاقة بإبداء كل من الجنسين عورته للآخر عن طريق الحرام، لصرفهما عن الجنة إلى النار والعياذ بالله .
والحقيقة أنّ هذه الآيات الكريمات من «سورة الأعراف» على جهة الخصوص تُبَيِّن أهمّ أسباب قيام الحضارات واستمرارها وهذا السبب هو العفاف والطهر. عفاف الرجال والنساء على السواء وطهرهم. إن كل الحضارات التي قامت ودامت أمدًا طويلاً كان حظها من العفاف كبيرًا. وإن هذا السبب المهم في قيام الحضارات نتبينه من ارتداء لباس كل من الجلال والجمال والكمال، أي ستر العورة، وأخذ لباس الزينة التي تليق بكل من الجنسَين دون إسراف بما في ذلك أخذ لباس الزينة عند كل مسجد، وارتداء لباس التقوى بطاعة الرحمن الرحيم، وعصيان الشيطان الرجيم. كما نتبين هذا السبب المهم في قيام الحضارات في قول الحق – جل وعلا – عن «آدم» و «حواء» – عليهما السلام – في الآية الكريمة من سورة الأعراف(19): ﴿وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَّرَقِ الجَنَّةِ﴾ والمعنى أن «آدم» و «حواء» – عليهما السلام – لما بدت لهما سَوْآتهما وعوراتهما أقبلا وجعلا(20) وأخذا(21) يخصفان ويشدّان(22) ويلزقان(23) عليهما من ورق الجنة. وما معنى أن يشد الزوجان ويلزقا عليهما من ورق الجنة؟ معناه أنهما القمة في الحياء مع أنهما زوجان يفضي كل منهما إلى الآخر ويصل منه إلى فضائه وأعمق أعماقه – بإذن الله تعالى – عن أنس قال : قال رسول الله – ﷺ – : إن لكل دين خلقًا. وخلق الإسلام الحياء(24) وقال النبي ﷺ إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ماشئتَ(25).
والحقيقة أن هذه الآيات الكريمات من سورة الأعراف تُبَيِّن أهمّ أسباب انهيار الحضارات كلها وبدون استثناء، وهذا السبب هو الفجور والعهر. فجور الرجال والنساء وعهرهم على السواء. إن كل الحضارات التي انهارت كان حظ رجالها ونسائها من الأخلاق المنحطة كبيرًا . وإن هذا السبب المهم في انهيار الحضارات نتبينه فيما جاء عن اللعين في قول الحق – جل وعلا – في سورة الأعراف(26): ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُوْرِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهمَا﴾ وفي قول الحق – جل و علا–(27): ﴿يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا﴾ .
وقد تبين من امتنان الله تعالى على عباده من إنزال الريش عليهم. بمعنى تسهيل الأسباب التي تجعل الإنسان في مقدوره أن يعمل الثياب الجميلة ويحصل عليها ويرتديها، تبين أن الإسلام الذي يُقدّم الحق والخير على الجمال، شأنه في ذلك شأن كل دين سماوي، لايُهمل جانب الجمال أو الزينة ونستطيع أن نقول عن الزينة في حق الرجال والنساء بأن المسموح منها هو ما كان مبقيًا للرجل في دائرة الرجال وللمرأة في دائرة النساء، وذلك في ضوء الحديث النبوي الشريف الذي رُوِيَ عن «ابن عباس» – رضي الله عنهما – قال : لعن رسول الله – ﷺ – (28) المتشبِّهِيْنَ من الرجال بالنساء، والمُتَشَبِّهَات من النساء بالرجال(29) ويفهم عدم الإسراف في الزينة لكل من الرجال والنساء على السواء؛ لأن الإسلام دين الوسطية في كل شيء. إن الآية الكريمة من سورة الأعراف التي تأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد وتأمر بالأكل والشرب أمر إباحة تنهى عن الإسراف في الأكل والشرب، ومن باب الأحرى والأولى أن يكون عدم الإسراف منسحبًا على الزينة، قال تعالى(30): ﴿يَابَنِيْ آدَمَ خُذُوْا زِيْنَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَّكُلُوْا وَاشْرَبُوْا وَلاَ تُسْرِفُوْا. إِنَّه لاَيُحِبُّ المُسْرِفِيْنَ﴾؛ بل إن السورة الكريمة لتنكر في أسلوب الاستفهام على من حرّم زينة الله – تعالى – لعباده والطيّبات من الرزق وتقرر أن الزينة والطيبات هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا على جهة الاستحقاق وإن شاركهم فيها سواهم، وأنها خالصة للذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم القيامة. قال تعالى(31): ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِيْنَةَ اللهِ الَّتِيْ أَخْرَجَ لِعِبَادِه وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ . قُلْ هِيَ لِلَّذِيْنَ آمَنُوْا فِيْ الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَّوْمَ القِيَامَةِ . كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَّعْلَمُوْنَ﴾.
(ب) العفاف وعدم إبداء النساء زينتهن والحجاب :
إذا كانت الغاية البعيدة من الزواج الإنجاب والحصول على الذريّة؛ فإن غايته القريبة العفاف والإحصان. ومن هنا كان أمر القرآن الكريم أولي الأمر بإنكاح الأيامي، وهم من لا أزواج لهم من الجنسَين، قال تعالى(32): ﴿وَأَنْكِحُوْا الأَيَامـٰـى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِيْنَ مِنْ عَبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ . إِنْ يَّكُوْنُوْا فُقَرَاءَ يُغْنِهِم اللهُ مِنْ فَضْلِه. وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيْمٌ﴾ والأيامىٰ جمع الأيم. وهي المرأة التي لا بعلَ لها، وقد قيل للرجل الذي لا زوجَ له، وذلك على طريق التشبيه بالمرأة فيمن لا غناء عنه لا على التحقيق(33) ومن البيّن عناية الآية الكريمة بالدين . فكما تُفضَّل المرأة ذات الدين يُفضَّل الرجل ذو الدين. وإن يكن الأزواج فقراء؛ فسوف يغنيهم الله تعالى من واسع فضله. وبهذا تؤخّر الآية الكريمة المال عن الدين. وقد بيّنت الأحاديثُ النبوية الشريفة هذه المعاني القرآنية السامية. عن «أبي هريرة» قال: قال رسول الله ﷺ: (إذا خطب إليكم من ترضون دينَه وخلقه فزوجوه. إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)(34) وفي رواية أخرى(35): (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد). قالو يارسول الله: وإن كان فيه؟ قال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه. ثلاث مرات. وعن «أبي هريرة» أنّ رسول الله – ﷺ – قال: ثلاثة حق على الله عونهم. المجاهد في سبيل الله. والمكاتب الذي يريد الأداء. والناكح الذي يريد العفاف(36) وعن «عبد الله بن مسعود» قال: كنا مع النبي – ﷺ – شبابًا لا نجد شيئًا . فقال لنا رسول الله ﷺ: يامعشر الشباب، من استطاع (منكم)(37) الباءة فليتزوّج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج. ومن لم يستطع فعليه بالصوم. فإنه له وجاء(38) يُخاطب المصطفى – ﷺ– الشبابَ جمع الشاب وهو مابين السادسة عشرة إلى الثانية والثلاثين(39) قال «النووي»: اختلف العلماء في المراد معناها اللغوي وهو الجماع. فتقديره من استطاع منكم الجماع لقدرته على مُؤَنه، وهي مؤن النكاح، فليتزوج. ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مُؤنه فعليه بالصوم ليدفع شهوته ويقطع شر منيه كما يقطعه الوجاء. وعلى هذا القول وقع الخطاب مع الشباب الذين هم مظنة شهوة النساء ولا ينفكّون عنها غالبًا. والقول الثاني أن المراد هنا بالباءة مؤن النكاح، سُمِّيَتْ باسم مايلازمها وتقديره: من استطاع منكم مؤن النكاح فليتزوج، ومن لم يستطع فليصم لدفع شهوته(40) وقوله: فإنه: أي الصوم: له وجاء: بكسر الواو والمد، أصله الغمز، ومنه وجأة في عنقه إذا غمزه دافعًا له، ووجأه بالسيف إذا طعنه به، ووجأ أنثييه غمزهما حتى رضهما(41) والأنثيان الخصيتان(42) وإذا كان الصوم من وسائل الاستعفاف بغضّ البصر وحفظ الفرج فإن أمر المصطفى – ﷺ – الشباب غير القادر على الزواج بالصوم ذو علاقة بأمر الآية الكريمة من سورة النور(43) الذين لا يجدون نكاحًا بالاستعفاف. قال تعالى: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِيْنَ لاَ يَجِدُوْنَ نِكَاحًا حَتّىٰ يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِه. وَالَّذِيْنَ يَبْتَغُوْنَ الكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوْهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيْهِمْ خَيْرًا. وَآتُوْهُمْ مِنْ مَّالِ اللهِ الَّذِيْ آتَاكُمْ . وَلاَ تَكْرَهُوْا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوْا عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَمَنْ يُّكْرِهْهُنَّ فَإِنَ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُوْرٌ رَّحِيْمٌ﴾ .
والمؤمنون مأمورون بغضّ أبصارهم وبحفظ فروجهم . قال تعالى(44): ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ يَغُضُّوْا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوْا فُرُوْجَهُمْ ذٰلِكَ أَزْكَى لَهُمْ. إِنَّ اللهَ خَبِيْرٌ بِمَا يَصْنَعُوْنَ﴾ عن «علي» قال: قال لي رسول الله ﷺ : لا تتبع النظر النظر، فإن الأولى لك، وليست لك الأخيرة(45) بمعنى أن النظرة الأولى غير المتعمدة لا يؤاخَذ عليها الإنسان ولكنه مؤاخذ على ماوراء ذلك. وفي تقديم الآية الكريمة الأمر بغضّ البصر وتأخير الأمر بحفظ الفرج دليل على أن النظر إلى الحرام يؤدي إلى ارتكاب جريمة الزنا – لا سمح الله .
والمؤمنات مأمورات بغضّ أبصارهن وبحفظ فروجهن وبعدم إبداء زينتهن باستثناء الزينة الظاهرة، وبأن يضربن بخمرهن على جيوبهن. وبشأن الزينة بالباطنة عيّن الشارع الحكيم الفئات التي تبدي المرأة زينتها لهم ابتداء بالأزواج. قال تعالى(46) ﴿وَقُلْ لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوْجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِيْنَ زِيْنَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوْبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِيْنَ زِيْنَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُوْلَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُوْلَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُوْلِتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْبِنِيْ إَخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِيْ أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَو التَابِعِيْنَ غَيْرِ أوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَال أَوْ الطِّفْلَ الَّذِيْنَ لَمْ يَظْهَرُوْا عَلَى عَوْراتِ النِّسَاءِ. وَلاَ يَضْرِبْنَ بأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمْ مَا يُخْفِيْنَ مِنْ زِيْنَتِهِنَّ . وَتُوْبُوْا إِلَىٰ اللهِ جَمِيْمًا أَيُّهَا المُؤْمِنُوْنَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ﴾ تأمر الآية الكريمة المصطفى – ﷺ – أن يأمر المؤمنات بأن يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن وقد أمر بذلك الرجال من ذي قبل. ولما كانت المرأة تنشأ في الحلية وفي الزينة وقد قال الحق – جل وعلا –(47) ﴿أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِيْ الحِلْيَةِ وَهُوَ فِيْ الخِصَامِ غَيْرُ مُبِيْنٍ﴾ فقد تحدّثت الآية الكريمة في زينة المرأة خلْقةً وخَرْقَةً. إنّ الآية الكريمة في القول: ﴿وَلاَ يُبْدِيْنَ زِيْنَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ تنهي المؤمنات عن إبداء زينتهن إلا ماظهر منها. «فلا يحلّ لإمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تبدي زينتها إلا لمن تحلّ له، أو لمن هي محرمة عليه على التأبيد، فهو آمن أن يتحرك طبعه إليها لوقوع اليأس له منها» (48). وبشأن الزينة الظاهرة: «اختلف الناس في قدر ذلك، فقال «ابن مسعود»: ظاهر الزينة هو الثياب، وزاد «ابن جبير» الوجه. وقال «سعيد بن جبير» أيضًا و «عطاء» و «الأوزاعي»: الوجه والكفان والثياب. وقال «ابن عباس» و «قتادة» و«المسور بن مخرمة»: ظاهر الزينة هو الكحل والسوار والخضاب إلى نصف الذراع والقرطة والفتخ(49) ونحو هذا فمباح أن تبديه المرأة لكلّ من دخل عليها من الناس» (50) «وقد قال «ابن خويز منداد» من علمائنا: إن المرأة إذا كانت جميلة وخِيْفَ من وجهها وكفيها الفتنة فعليها ستر ذلك، وإن كانت عجوزًا أو مقبحة جاز أن تكشف وجهها وكفيها» (51) و «من الزينة ظاهر وباطن. فما ظهر فمباح أبدًا لكل الناس من المحارم والأجانب، وقد ذكرنا ما للعلماء فيه. وأما ما بطن فلا يحلّ إبداؤه إلا لمن سمّاهم الله تعالى في هذه الآية، أوحلّ محلهم» (52).
وإن الآية الكريمة في القول: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوْبِهِنَّ﴾ تأمر المؤمنات بأن يضربن بخمرهن على جيوبهن وصدورهن. «والخمر: جمع الخمار، وهو ماتُغَطِّي به رأسها، ومنه اختمرت المرأة وتخمّرت، وهي حسنة الخمرة. والجيوب: جمع الجيب، وهو موضع القطع من الدرع والقميص، وهو من الجوب وهو القطع(53) فالجيب من الثوب الموضع الذي يدخل الشخص منه رأسه فإذا ارتدت المرأة درعها أو قميصها كانت بحاجة إلى أن تسدل خمار رأسها وغطاءه إلى صدرها كي لا يبين شيء منه(54).
* * *
الهوامش :
- سورة الأعراف /26.
- صحيح البخاري 6/73.
- مفردات الراغب الأصفهاني: «ريش» 207.
- صحيح البخاري 1/20.
- تفسير ابن كثير 2/207 .
- سورلة الزمر 6.
- الآية 80 .
- فقه السنة 2/19 .
- سورة الأعراف 27.
- تفسير «الطبري» 8/112 .
- مفردات الراغب الأصفهاني : «فتن» 372.
- سورة النازعات 1.
- أنظر مثلاً تأملات في سورة النازعات للمؤلف 18 فما بعدها.
- الجلالين وأنظر مثلاً تفسير «الطبري» 8/113 .
- سورة البقرة 257 .
- سورة محمد 11 .
- الجدول في إعراب القرآن وصرفه 4/316 .
- سورة الأعراف 19-25 .
- الآية 22 .
- تفسير الطبري 8/105 .
- الجلالين .
- تفسير «الطبري» 8/105 .
- الجلالين .
- سنن ابن ماجه 2/1399 .
- فتح الباري 10/523 حديث رقم 6120 .
- الآية 20 .
- الآية 27 .
- جاء بعد ذلك مباشرة: قال حجاج : لعن الله .
- مسند الإمام «أحمد بن حنبل» 5/56 حديث رقم 3151 .
- سورة الأعراف 31.
- سورة الأعراف 32 .
- سورة النور 32
- مفردات «الراغب الأصفهاني» : «أيم» 32 .
- سنن الترمذي 3/394 حديث رقم 1084 .
- المرجع السابق 3/395 حديث رقم 1085 .
- سنن الترمذي 4/157 رقم 1655 .
- زيادة في رواية الحديث رقم 5065 من فتح الباري 9/106.
- فتح الباري 9/112 حديث رقم 5066 .
- المرجع السابق 9/108.
- المرجع السابق 9/108 .
- المرجع السابق 9/110 .
- القاموس : «أنث» .
- الآية 33 .
- سورة النور 30 .
- المسند للإمام «أحمد بن حنبل» 2/351 حديث رقم 1369.
- سورة النور 31 .
- سورة الزخرف 18 .
- تفسير القرطبي 4619 طبعة الشعب القاهرة .
- الفتح بفتحتين جمع الفتحة : حلقة كالخاتم لا فصّ فيها .
- تفسير القرطبي 4620. طبعة الشعب القاهرة .
- المصدر السابق 4621 .
- المصدر لاسابق 4621 «من علماء هذا العصر الذين ذهبوا إلى أن الوجه من الزينة الباطنة الشيخ «أبو الأعلى» المودودي أنظر الحجاب فصل: حكم الوجه 284-306 ومن الذين ذهبوا إلى أن الوجه من الزينة الظاهرة؛ ولكن من الأولى ستره الشيخ «محمد ناصر الدين» الألباني حجاب المرأة المسلمة 41».
- تفسير القرطبي 4622 . طبعة الشعب القاهرة .
- في كتابنا : تأملات في سورة الأحزاب 486 – 493 درسنا الكلمات الثلاث: الخمار، الجلاليب، الرداء .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال 1427هـ = أكتوبر – نوفمبر 2006م ، العـدد : 9-10 ، السنـة : 30.