الفكر الإسلامي 

(محاضرات نخبة من العلماء وعلى رأسهم الإمام محمد قاسم النانوتوي في معرض

معرفة الذات الإلهية المنعقد 7/مايو 1876م في «تشاندافور»

بمديرية «شاه جهان فور» بولاية أترا براديش ، الهند)

تعريب :  الأستاذ محمد ساجد القاسمي / أستاذ بالجامعة

التثليث في التوحيد يعارض العقل :

       إنَّ عقيدة تعدُّد الآلهة وعقيدة التكفير معارضتانِ العقلَ كلَّ المعارضة وباطلتان كلَّ البطلان . ثم إنَّ عقيدة تعدُّد الآلهة مع وحدة الإلـٰـه مما لايقبله أحد من الناس ، صغيرًا كانَ أو كبيرًا ، شابًا كان أو شيخًا ، كاملَ العقل كان أو ناقصه ، حتى إنَّ النصارىٰ أنفسهم يرون – بموجب العقل – اجتماع التعدد والوحدة الحقيقيَّيين من جملة المستحيلات ؛ فكل ذي عقل يراه باطلاً . فما يدركه العقل دونما دليلٍ أي لايحتاج في إدراكه إلى دليلٍ ، لايُثْبِتُه حتى ألف دليل ؛ لأنَّ ما ثبت بدون دليل فهو كالمشَاهَد، وما ثبتَ بالدليل فهو كالمسموع ، وشتّان ما بين المشاهد والمسموع .

       ومثله كمثل عالم رياضيٍ بارع يقول عند غروب الشمس وهو ينظر إلى ساعته : «قد غربت الشمس» ورجل غير مثقف واقف على مكانٍ مرتفع ينظر بأم عينيه أنَّ الشمس لم تغرب حتى الآن. فكما أنَّ هذا الرجل – بالرغم من قلّة ثقافته وعدم معرفته بالأوقات بالساعات واعترافه بفضل العالم الرياضي البارع – لايصدِّق العالم الرياضي في قوله المبرهن بالدليل لما شاهده بأم عينيه ، مهما ادّعى حتى ألف عالم رياضي غروب الشمس مستدلين بالساعات . فكذلك العقل يرى – لما حصل له العلم دونما دليل والذي هو بمثابة المشاهدة عن هذه المستحيلات – هذه المستحيلات المبرهنة بالدلائل – مهما قدَّمَها العقلاء – خاطئةً .

العقل يقضي :

       فكما أنَّ ذلك الرجل غير المثقف يرى ما تُشِيْرُ إليه الساعة خاطئًا ويقول عنها : «إنها متعطلة وأما مشاهدتي فليست خاطئة» وإن لم يعلم ما فيها من التعطل ، فكذلك عقول عامة الناس وخاصتهم لن تُسَلِّمَ وتُصدِّق – لما تدركه من استحالة اجتماع التوحيد والتثليث دونما دليل – دعوى التثليث في الإنجيل المُسْتَخْرَجة من بعض نصوصِه التي لاتحتمل إضافةً ولازيادةً ولو فرضًا بلْهَ الإذعان بالإضافة والزيادة ، وإنما ترى الإنجيل محرَّفًا ، وتقول: إنه قد دَخَلَه التحريف والخطأ . وإن لم تعلم ما فيه من التحريف .

لم يتمَّ محاضرة الشيخ محمد قاسم لقلَّة الوقت :

       كان الشيخ محمد قاسم يلقي محاضرتَه ، وإذا الأسقف أخبره بأنَّه وقته المحدَّد – وهو خمس عشرة دقيقة – قد انتهىٰ ، فأوقف الشيخ محاضرته ، فأَسِف المسلمون على انتقاص محاضرته .

       وقد كان الشيخ يوضَّح الفرق بين المستحيلات والمتشابهات ، لأنَّ المتشابهات كذات الله تعالى وصفاته وأرواح بني آدم يحتار العقل في إدراكها، وأما المستحيلات فلا يحتار العقل في إدراكها ، وإنما يدرك عدمها واستحالتها دونما صعوبة ، والفرق بين إدراك العدم وعدم الإدراك كالفرق بين الأرض والسماء .

اعتراض سخيف :

       انتهت محاضرة الشيخ فعاد إلى مجلسه ، ونهض الأسقف وقال: «إنَّ الشيخ لم يُبيِّن من فضائل دينه شيئًا ، وإنَّما وجَّهَ اعتراضًا إلى ديني». إنَّ الأسقف لم يستطع أن يعترض على ما اشتملت محاضرته من الحقائق ، وكان اعتراضه هذا غايةً في السخافة . أراد الشيخ أن ينهض ويردَّ عليه ، إلا أنه لم يأتِ دوره حتى قام الشيخ أحمد علي النكينوي أحد المحامين في محكمة «شاه جهانفور» وقال: «هذه هي فضائل ديني . وأما الأديان الأخرى ففيها معائب سردها الشيخ محمد قاسم في محاضرته، وأما الإسلام فليس فيه منها شيء».

يُلْقِي الأسقف «مولا دادخان» محاضرةً مثيرةً للغضب :

       ثم قامَ بعض الأساقفة الهنود الذين أصَمُّو آذان الحضور في الحفل ، وكان منهم الأسقف «مولا دادخان» الذي ألقى محاضرةً فارغةً عن المعنى تَشِفُّ عن الإساءة إلى سيدنا محمد ﷺ ، وكانت الإساءة حيلةً احتالها . ومن دأب الأساقفة أنّهم يسيؤون الأدب إلى نبيّ الإسلام في حوارهم تخلُّصًا من المسلمين . ولما كان المسلمون يتورعون عن مثل هذه الأمور ولايبادلون الإساءة بالإساءة؛ لأن سيدنا عيسى عليه السلام وحواريه والأنبياء السابقين محترمون ومعظمون لديهم كذلك ، فيضطرُّونَ إلى الـردِّ عليهم باليد دون اللسان مما يتيح لهم الفرصة أن يُشَهِّروا بأنَّ المسلمين إذا لم يتمكنوا من الردِّ أو لم يتوصلوا إلى الإجابة بدؤوا يحاريون أو يلوذون بالفرار ، فينتصر الأساقفة .

       على كلٍ فهم ينبذون الإنصاف والخوف من الله وراء ظهورهم ويسيؤون الأدب ؛ فقد حذا الأسقف مولا داد خان حذوهم ، وأسوق خلاصة ما قالَه في محاضرته ، ولايطاوع القلم واللسان لشناعة ما قاله فيها ، فقال: «ادّعى نبيُّ المسلمين النبوّة كما ادّعى سيِّد الحُوْلِ . وقال عيسى عليه السلام : الذين يأتون بعدي يكونون سُرَّاقًا وقطاع الطريق» وذلك يعني أنه لن يأتي بعده نبي.

يؤاخذ الشيخ السيد أبو المنصور الأسقفَ على إساءته:

       ردَّ الشيخ السيد أبوالمنصور علي الأسقف قائلاً: «أسفًا عليك أيها الأسقف! لقد أمضيت طول عمرك في دراسة الإنجيل ، ولاعِلْمَ لك بما فيه. ليس فيه «الذين يأتون بعدي يكونون سُرّاقًا وقطاع الطريق» وإنما جاء فيه «الذين أتوا قبلي كانوا سُرَّاقًا وقطاعَ الطريق» فأصرَّ الأسقف على ما قاله. فقال الشيخ السيد أبوالمنصور: هَلُمَّ الإنجيل . فقاطع الأسقف «نولس» الحديث وقال: لقد أخطأ صاحبنا، والشيخ على الصواب . إلا أنَّ اللفظ العبري المترجَم إلى «بعد» مشترك بين معنيين: «قبل» و «بعد» كالمضارع . فرَدَّ السيد أبو المنصور قائلاً: إن كان اللفظ العبري مشتركاً بين معنيين فلا بأس. فترجمة اللفظ العبري المشترك إلى «قبل» تدل على أنَّ المراد به «قبل» لا «بعد» .

       سُقِطَ الأسقف «مولا داد خان» في يده ، وأطرقَ رأسه خجَلاً ، وظلَّ صامتًا إلى نهاية الحوار. كما أنحى المسلمون والهندوس عليه بالملام ؛ فقد قام «أجوديا برساد» الهندوسي وأطالَ الكلام في الموضوع قائلاً : «لاينبغي الإساءة إلى الشخصيات المقدَّسة في أيِّ دين» فتكرر اعتذار الأسقف أنه لم يتعمّد صاحبنا الإساءة إلى إيِّ شخصٍ ، وكان لايضرّ المسلمين أن يُسَلِّموا ترجمة اللفظ إلى «بعد» وإنّما يضرُّنا أنفسنا ذلك ؛ لأنه حينئذ يصير الحواريون سُرّاقًا وقطاع الطريق أولاً ثم غيرهم .

       على كلٍ فترجمة اللفظ إلى «قبل» أو «بعد» تُشَكِّل صعوبةً ومشكلةً للأساقفة ؛ لأنه يؤدِّي إلى أنكار نبوَّة الأنبياء السابقين في صورةٍ و إنكار رسالة الحواريين في صورة أخرىٰ .

       فلما آخذ الشيخ السيد أبو المنصور الأسقف المتقدِّم ذكره ، وصدَّقه الأسقف «نولس» فيما آخذه، وقد كان الأسقف يهدف إلى إبطال نبوّة سيدنا محمد ﷺ بالإنجيل ، جرى النِّقاش عن إثبات نبوّة سيدنا محمد ﷺ بالإنجيل ؛ فذكر الشيخ السيد أبو المنصور نبوءاتٍ عن نبوّة سيدنا محمد ﷺ وردت في التوراة ، ومنها أنَّ الله تعالى قال لسيدنا موسى عليه السلام : «أبعث نبيًا مثلك من إخوانك ، وألقي كلامي في فيه». ثم أضاف الشيخ قائلاً: «أنا أستطيع أن أُثـْبِتَ المماثلة بين سيدنا محمد ﷺ وسيدنا موسى عليه السلام في أربعين خصلةً .

الأساقفة يُلْقُونَ كلماتٍ فارغةً :

       لم يَجْرِ في هذا اليوم من الحوار بين المسلمين والنصارىٰ إلا ما قدَّمته آنفًا . ومن الجدير بالذكر أنه لم يكن من بين النصارى من يكون أهلاً للحوار إلا الأسقفَ «نولس» . فلو قلت إن غيره من الأساقفة كانوا يلقون كلماتٍ فارغةً لكنت مصيبًا.

المسلمون ينتصرون :

       ابتدأ الحوار في التاسعة ضحىً وانتهىٰ في الثانية ظهرًا . ثم صلى علماء المسلمين الظهر وتغدَّوا ، وتبادلوا التهانئ فيمابينهم ، وشكروا الله على ذلك. وقد طار في المدينة أنه انتصر المسلمون ؛ فتدَفَّقَ الناس كالسيل في اليوم التالي .

       وبالجملة قد أصبح ذلك حديث القوم ، فقال الشيخ محمد قاسم : تأكَّدت – ولله الحمد – أنه ليس في الأساقفة من نخشاه إلا أنَّ عنادهم وقلَّة إنصافهم يُحْزِنُنا .

علماء المسلمين يلقون خطبًا في المعرض :

       ثم قال الشيخ محمد قاسم لعلماء المسلمين بأن يتفرقوا في المعرض ويلقوا خطبًا على عامة الناس ؛ فتفرَّق علماء المسلمين وألقوا خطبًا في حقانية الإسلام وإبطال المسيحية ، فما إن أمسى المساء حتى تبدَّل الوضع غير الوضع ، ولم يتشجَّع أحد من الأساقفة للردِّ عليهم . وغابوا كأنهم اختفوا في مغارة .

       وقد كان الشيخ محمد قاسم أعدَّ كتابة(1) على عجَلٍ في حقانية الإسلام و كان أخذها معه ، كما ألقى الشيخ خطبةً في إبطال عقيدة التكفير عند النصارىٰ ، فقال الشيخ : سجِّلوا خطبتي هذه ، فإن مسَّت الحاجة غدًا اقرؤا كتابتي وخطبتي في الحوار. ثم تشاوروا وصلُّوا العشاء وتعشَّوا ثم ناموا هادئين مطمئنين . ثم استيقظوا صباحًا مبكرا وصلُّوا الفجر. وكانوا كما قال الشاعر الأردي :

       «إنَّ الناس ينصرفون إلى أعمالهم في الصباح الباكر ، وأما المحبّون فهم يُؤمِّمون وجوههم شطر منزل الحبيب» .

       ثم أمر الشيخ علماء المسلمين بانصرافهم إلى مهمتهم ، فتفرَّقوا في المعرض وألقوا خطبًا في حقانية الإسلام ، فجزاهم عن جميع المسلمين خير الجزاء ، فيما يبدو أنَّ النفع بإلقاء الخطب كان أمرا موهومًا ، إلا أنَّ الحال قد تبدَّلت في هذا اليوم منذ ذلك الوقت .

       استمرّ الإلقاء إلى التاسعة ضحىً ، وكان الأساقفة يتجولون في المعرض ، وكان عامة الناس يُعيِّرونهم قائلين : «مالكم لاتنطقون ؟ وقد كنتم تهدِّدوننا من قبل» . وكان الهندوس فرحين مسرورين كذلك .

كيفية الاجتماع الثاني يومَ الاثنين 8/ مايو 1876م :

المستمعون يزدحمون :

       فما إن كانت الساعة التاسعة حتى ذهب المحاورون من المسلمين والمستمعون إلى الخيام ، وإذا الكراسي الموضوعة فيها حافلة بالجالسين ولم يبق إلا عدد من الكراسي خالية ، وهم قد سبقوا إليها شوقًا إلى استماع الحوار، وبعضهم كانوا يندفعون إلى الاجتماع اندفاعًا ، وبعضهم كانوا واقفين على الأقدام حول الخيام ، فحالَ رجال البوليس دون اندفاعهم . فنظراً إلى ازدحام الناس وكثرتهم أمر المشرفون على الاجتماع بالكراسي فجُلِبَتْ وصُفَّتْ متجاورةً ، مع هذا فكان كثير من الناس بين قِيَامٍ وجُلوس .

يتلَهف الناس شوقًا إلى استماع الحوار:

       نصبت الخيام القائمة على الأعمدة الدقيقة ، فتوسَّعت ظلالها التي استظل بها الواقفون ، وكانت الكثرة الكاثرة من الناس واقفين خارجها حيث يصل الصوت لايبالون بالشمس وحرارتها. وكان فصل الصيف ، وكان الحر شديدًا ، وكان موقع الاجتماع في الصحراء بعيدًا عن المدينة ، لاتُظِلُّه إلا الخيام وأشجار الأنبج ، مع هذا فكان الزحام شديدًا، ولو كانت الترتيبات كاملةً لاغتصَّ المعرض بالجموع الحاشدة من الناس .

شروط الحوار :

       فلما أخذ الحضور مجالِسَهم أعلَنَ الأسقف «نولس» – طبقًا لما اصطلحوا عليه – أنَّه تمَّ اختيار خمسة ممثِّلين من كلِّ دين ، ولايكون الإذن بإلقاء الكلمة والمحاضرة عامًا . وذلك لأنَّ كثيرا من النصارىٰ والهندوس أصمُّوا الآذان وضيَّعوا الوقت دونما جدوى في الاجتماع السابق ، فكان الاجتماع ثقيلاً غير مُمْتِع ؛ فطلب علماء المسلمين من الأسقف «نولس» ألاّ يسمح كلَّ من هبَّ ودبَّ من الناس بالإلقاء ؛ لأنَّ ذلك لايُجْدِي نفعًا . والأولىٰ أن يتمَّ اختيار عدد من الممثلين من كل دين. على هذا فتَمَّ اختيار خمسة ممثلين من كل دين.

الممثِّلون من الإسلام :

       تمَّ اختيار الشيخ السيد أبو المنصور المعروف بالشيخ منصور علي ، والشيخ السيد أحمد علي ، والشيخ ميرزا موحد ممثلين من الإسلام ، وهؤلاء الثلاثة بارعون في فنّ المناظرة ، وإفحام الخصم . كما تمَّ اختيار اثنين من العلماء ، وهما الشيخ أحمد حسن الأمروهوي ، والشيخ محمد قاسم ، إلا أنَّ اسمه كُتِبَ لمصلحةٍ «الحافظ خورشيد حسين» (2) بدلاً من اسمه المعروف محمد قاسم .

الممثلون من المسيحية والهندوسية :

       كما اخْتِيْرَ من النصارى الأسقف «نولس» وأربعة غيره ، وخمسة من الهندوس . بل طلب الهندوس أن يُخْتَار ممثلوهم من كل فرقةٍ من الديانة الهندوسية ففُعِلَ .

علماء المسلمين يطالبون الأسقف «نولس» بالإجابة :

       فلما انتهى الأسقف من تغيير النظام في الاجتماع طالبه علماء المسلمين بالإجابة عما أوردوا عليه من الاعتراضات في الاجتماع بالأمس تتميمًا للبحث . فقال الأسقف: «لقد مضى الأمس بما فيه» فتبادل الفريقان الإصرار والإنكار، فحزِنَ على ذلك بعض علماء المسلمين وقالوا: «إن كان الأسقف على ماهو عليه من قلة الإنصاف فما ذا نرجو من حوار اليوم ، فأرادوا أن ينهضوا من الاجتماع. إلا أنَّ الشيخ محمد قاسم لم يوافقهم ، وقام وقالَ بصوت جهوري : اسمعوا أيها الحضور! قد بقي الإجابة في ذمة الأسقف عن الاعتراضات التي أوردناها بالأمس ، وكنا لانتوقع من عدل الأسقف وإنصافه أنه لايجيب عن اعتراضاتنا . فلما أبى كلَّ الإباء اضطررنا أن نصبر ونأذن ببدء الحوار وقال للشيخ «موتي ميان» أن يسجِّلَ ذلك .

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الأولي 1427هـ = يونيو 2006م ، العـدد : 5 ، السنـة : 30.


(1) هي رسالته المعروفة بحجة الإسلام .

(2) كان الاسم التاريخي للشيخ محمد قاسم خورشيد حسين.

Related Posts