دراسات إسلامية
بقلم : د / مسرت جمال
الأستاذة المساعدة بقسم اللغة العربية
جامعة بشاور، باكستان
أنه عند علماء البلاغة الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه الضرب من التأويل إفادة للخلاف لا بوساطة وضع كقولك أنبت الربيع البقل ، وهزم الأمير الجند ، فالحكم في أنبت الربيع البقل بكون الإنبات فعلاً للربيع مكانه الأصلي عند العقل كونه فعلاً لله عز وجل، وفي هزم الأمير الجند بكون هزم الجند فعلاً للأمير، مكانه الأصلي عند العقلاء كونه فعلاً لعسكر الأمير، ويسمى عقليًا لعدم رجوعه إلى الوضع ، ولاعتداء حكمه عن مكانه الأصلي.(1)
فالمجاز العقلي هو ما أُسنِدَ فيه الفعل أو شبهه إلى غير صاحبه ، الذي هو ملابس له، وله ملابسات كثيرة وهي :
(1) الزمانية : هي أن يُسنَد إلى الزمان ماحقه أن يُسَنَد إلى ما يقع فيه، نحو: ليلة مقمرة: فالليلة لاتقمر، وإنما هو زمان إقمار القمر .
(2) المكانية: هي أن يُسنَدَ إلى المكان ما حقه أن يُسْنَد إلى ما يقع فيه ، نحو : فاض النهر ، أي ماءه – فالنهر لايفيض ، وإنما هو مكان الماء الذي يفيض.
(3) الفاعلية : هي أن يُسنَد الفعل المبنى للمفعول إلى الفاعل، نحو: «حجابًا مستورًا» اى ساترًا . فالحجاب فاعل الستر، ولايوصف المستور وإنما يوصف بالساتر.
(4) المفعولية : هي أن يُسنَد الفعل المبني للفاعل إلى المفعول، نحو: «خُلق من ماء دافق». فالماء مفعول في المعنى، ولا يوصف بالدافق، إنما يوصف بالمدفوق .
(5) السبية : هي أن يضاف الفعل إلى سببه لا إلى فاعله، نحو: بنى سليمان الهيكل . فسليمان لم يبن الهيكل بيديه ، إنما كان سببًا لبناءه .
(6) المصدرية : هي أن يضاف الفعل إلى المصدر ما حقه أن يُسنَد إلى فاعله، نحو: جدّ جدّك. فالجد لم يجد بنفسه، وإنما مصدر لصاحبه.(4)
ألوان جمال المجاز العقلي
المجاز العقلي كسائر الأساليب القرآنية لايخلو من الجمال والروعة ، وهذا الجمال يرجع إلى اللفظ والمعنى. فأما ما يــرجع إلى اللفظ فهو الإيجاز الأنيق، وخفة لفظه على اللسان واستقامة الوزن، القافية والسجع .
وأما مايرجع إلى المعنى فهو المبالغة البديعة، والدقة الرائعة . فلو نقول أن جمال المجاز العقلي من أربعة وجوه(5) فلا نكون مخطئين :
(1) المبالغة البديعة والدقة الرائعة : كما نراها في قول الشاعر(6):
مَلَكْنَا فكانَ العفوُ منا سَجِيّـةً
فلمَّا مَلَكْتُم سَالَ بالدم أبطح
الشاعر يفتخر بأن قومه قدروا ولكنهم عفوا وصفحوا، بينما المخاطبون حينما قدروا أسرفوا في سفك الدماء حتى سال الدم بالأبطح(7)، لكن المجاز صور كثرة الدم حتى غمر المكان وطفح من كل جوانبه، وكأن المكان نفسه وبما فيه يسيل، مبالغة في كثرة الدم وغمر المكان به .
(2) الإيجاز الأنيق : وذلك أن المجاز العقلي يعرض المعنى في أقل ما يمكن من اللفظ ، فمثلاً إذا قلنا:
«فتح عمروبن العاص مصر»
لاشك إننا نجد فارقا في قوة العبارة وإيجازها عن قولنا:
«فتح جشُ المسلمين مصر بقيادة عمروبن العاص»
(3) الخفة السهولة : وذلك أن اللفظ الدال على سبيل المجاز قد يكون أخف على اللسان من الحقيقة، أما لخفة مفرداته، أو لحسن تركيبه فيعدل إلى المجاز، مثل قول الشاعر(8):
دَعِ المــكارِمَ ، لاتَـــرْحَـلْ لِبُغْيَتِـــهَا
واقْعُد فَإنَّكَ أنتَ الطاعِمُ الكاسي
فهناك نسبة الطاعم إلى «أنت» نسبة مجازية، وكذلك نسبة الكاسي إليه، حيث أن مراد الشاعر هو أنه المطعوم والمكسي لكن عدل عنه إلى الطاعم والكاسي، إلى جانب لطائف اُخرى فيها: لخفة كلمة الطاعم والكاسي في مقابلة كلمة المطعوم والمكسي، وذلك لأن كلمة «طاعم» و «كاسي» ذات أربعة أحرف حينما كلمة «مطعوم» و «مكسي» ذات خمسة حروف، ومن المعلوم أن الكلمة الخماسية بالنسبة إلى الرباعية ثقيلة على اللسان كما أن الرباعية ثقيلة بالنسبة إلى الثلاثية، وهذا هو الوجه بأن الأبنية الخماسية(9) والرباعية قليلة في اللغة العربية .
(4) القافية أو السجعة : وربما تطلبت القافية أو السجعة المجاز، فيلجأ إليه لاحكام صنعته ؛ فإن للمجاز العقلي أثرًا كبيرًا في توسعة اللغة، وتغيير صورة العبارة بحيث تعين الاديب على آداء معانيه بصورة مختلفة حسبما تقتضيه الجملة ويتطلبه الوزن والقافية في بعض الأحيان(10). ومن ثم قال عبدالقاهر:
«هو كنز من كنوز البلاغة، ومادة الشاعر المفلق، والكاتب البليغ في الإبداع والاحسان والاتساع في طرق البيان… وإنه يدق ويلطف حتى يمتنع مثله إلاَّ الشاعر المفلق والكاتب البليغ(11).
وخير مثال لاستقامة وزن القافية بالمجاز العقلي هو ما قال العبدى(12):
أشاب الصغير وأفنى الكبيرَ كرالغداة ومرالعشي
وملتنا أننــا المسلمون على دين صــديقنا والنــبي
حيث أن بإبدال نسبة أشاب وأفنى إلى الفاعل الحقيقي، وهو خالق الزمان يتحقق الاضطراب والخلل في الوزن والقافية كليهما .
ومن روعة المجاز العقلي، ورشاقته هي كونه في بعض الأحايين ذريعة التحايل على دفع التهمة، والتملص من الجريمة. فيُسنَد الفعل إلى سببه: كماقالوا:
«فلان قتله جهله»، وكأنما يريدون ان يبرئوا قاتله من جريمة قتله.
ولعل ذلك يذكرنا بقصة سيدنا عمار بن ياسر رضي الله عنه – يوم صفين . فلما قُتِل اضطرب أهل الشام لعلمهم بقول النبي ﷺ – «عمار تقتله الفئة الباغية» فقال لهم معاوية – رضي الله تعالى عنه– .
«إنما قتله من أخرجه». فقد وجه معاوية –رضي الله تعالى عنه – في المجاز دفعًا للتهمة عن جماعة(13).
وإليك لمشاهدة هذه الروعة والجمال في المجاز العقلي في الأمثلة التالية من الآيات القرآنية:
(1) «وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُه زَادَتْهُمْ إِيْمَانًا» (14)
إن إسناد فعل «زادت» إلى «الآيات»، لايصح على سبيل الحقيقة؛ لأن الآيات ليست بنفسها مما تزيد إيمان المؤمن ، بل إن المؤمن بنفسه يزيد في إيمانه بسبب الآيات، فكأنها ذريعة في ازدياد إيمان المؤمن. فعلاقة الآيات بالزيادة هي علاقة سبب .
وسر جمال هذه العلاقة هو المبالغة في مدخلية السبب في حصول الفعل حتى صار كأنه الفاعل الحقيقي، وهو سوّغ المجاز وحسّنه. ومع ذلك أن الموسيقى الذي يوجد في التعبير على سبيل المجاز العقلي في هذه الآية لايوجد في التعبير على سبيل الحقيقة في تلك الآية . أي
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُه زَادتْهُمْ إيمانًا»
لانه يفقد في صورة التعبير الحقيقي ذلك الانسجام الذي تملكه الآية. وهذه هو الوجه حيث وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة تحت هذه العلاقة . مثلاً:
«إنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِيْ الأرْضِ، وَجَعَلَ أهْلَهَا شِيَعًا، يَّسْضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْي نِسَآءَهُمْ» (15).
في هذه الآية يخبرنا الله سبحانه عن فرعون وأنه كان يذبح أبناء بني اسرائيل، في قوله: «يذبح ابناءهم». ويستبقي نساءهم . فالفعل «يذبح» و «يستحي» أسنِدَ إلى غير فاعله الحقيقي، لان فرعون لم يكن يذبح بنفسه، ولا يستحي بنفسه، بل كان يأمر بذلك جنوده واتباعه، وبما انه كان سببًا في ذلك لكونه آمرًا به، فقد صح إسناد الفعل إليه على سبيل المجاز لما بين الفاعل – الحقيقي والمجازي – من علاقة وتشابه في تعلق الفعل بهما، فتعلقه بالفاعل الحقيقي من حيث صدوره منه، وبالفاعل المجازي من حيث أنه السبب فيه(16).
ويا أيها القارئ والناظر هل تجد جمالاً في بيان:
«يذبح أتباع فرعون أبناء بني إسرائيل»؟ لا، وكلا! لان هذا حقيقة، والحقيقة أقل جمالاً من المجاز هنا. ومن هذا القبيل قوله تعالى :
«وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنُ لِيْ صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ» (17)
وقوله عزوجل: «فَأَوْقِدْ لِيْ يَا هَامَانُ عَلَى الطِّيْنِ، فَاجْعَلْ لِيْ صَرْحًا».(18)
ففي الآيتين أسنِدَ الامرُ في «أوقد» و«اجعل» و«ابن» إلى ضمير هامان مع أن هذه الأفعال من صنع العمال، وإنما أُسنِدت إلى هامان لأنه السبب، فالعلاقة في تلك الأساليب هي السببية.
ولوقيل: ياهامان مربالبناء لي، ومربان يوقد لي ياهامان على الطين، ومربان يبنى لي صرح، لاصبح نغم الآيتين مضطربًا، وتذهب تلك الموسيقية والمبالغة اللتان توجدانِ في الأسلوب المجازي القرآني.
(2) «لاَعَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِاللهِ إلاَّ مَنْ رَحِمَ» (19)
أسنِد «عاصم» وهو وصف مشبه بالفعل – اسم فاعل – إلى ضمير اسم المفعول لعلاقة المفعولية، بدليل قوله تعالى: «إلا من رحم» اي لا معصوم إلا من رحمه الله .
ومثله قوله تعالى :
«اِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ» (20).
«وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا» (21)
«وَإذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ» (22)
و«خُلِقَ مِنْ مَّآءٍ دَافِقٍ» (23) وغيرها .
وفي كل واحدة من هذه الآيات أسنِد اسم فاعل «واقعة»، «آمنا»، «خاسرة»، «دافق» – إلى ضمير اسم المفعول لعلاقة المفعولية .
وسرالجمال في هذه العلاقة المفعولية هو المبالغة البديعية ونغماتها الرائعة بخلاف إتيان صيغ المفعول – موقوعة ، مأمونا ، مخسورة ، مدفوق – اذ لايوجد فيه جرس الموسيقي ولايوجد الأثر البديع، مع أن فيه يوجد ثقلاً وعِبأً في هذه المواضع. وللالفاظ دور كبير في تكوين الفني في الكلام ، حتى قال بعضهم(24):
«ان اللفظ في ذاته كالموسيقي يخلب الأذن، ويلذ الشعور، وإن لم يترجم، أما المعنى فكالكهرباء إذا لم يكن لفظه جيد التوصيل انقطع تياره فلا يعرب ولا يطرب(25).
(3) «وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِيْنَ لاَيُؤْمِنُوْنَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مِّسْتُورًا» (26)
أسنِد «مستورًا» إلى ضمير «الحجاب»، والحجاب لايكون مستورًا. انما يكون ساترًا. فاستعمل اسم المفعول مكان اسم الفاعل، فقد أسنِد اسم المفعول إلى ضمير الحجاب إلى غير ما حقه أن يُسنَد إليه لعلاقة الفاعلية ومنه قوله تعالى :
«جَنَّاتُ عَدْنٍ نِالَّتِيْ وَعَدَ الرَّحْمـٰـنُ عِبَادَه بِالغَيْبِ إِنَّه كَانَ وَعْدُه مَاْتِيًّا» (27).
فقد أُسنِد اسم المفعول «مآتيًّا» إلى ضمير الوعد مجازًا عقليًا وعلاقته الفاعلية .
وسرالحسن هنا أولاً خفة المجاز باللسان في إتيان كلمة «مستورًا» و «مآتيًا» حيث أن في كلمة «ساتر» رنين الحركات من الأوسط إلى الأدنى ومن الأدنى إلى الأوسط أقل تدريجًا بخلاف كلمة «مستورًا» فيها من الأوسط إلى الأعلى ومن الأعلى إلى الأوسط. وفي “الساتر» انحدار وفي «المستور» ارتفاع. وهذه الرنة أعلى من تلك الرنة وانظر في كلمة «مآتيًا» تَجِدُ رخوة بخلاف «آتٍ» لأن فيها ثقلاً وشدة .
وثانيًا، في الإتيان بالعلاقة المفعولية يحصل السجع والقافية فيما بينها وبين الكلام السابق واللاحق. ارجع الى النص اي: «مآتيها»: قبلها «غَيًّا» (28). «شَيْئًا» (29). وبعدها «عَشِيًّا» (30) و«نَسْيًا» (31). وهكذا : «حِجَابًا مَسْتُورًا»: قبلها «حَلِيْمًا غَفُوْرًا» (32) وبعدها «نُفُورًا» (33)، و«رَجُلاً مَسْحُوْرًا» (34).
يا أيها الناظر والسامع أليس نغم «مَسْتُورًا» و «مآتيا» اجمل من «ساترًا» و«آتيًا» بلى.
(4) «عزم الامر» (35)
أُسنِد الفعل «عزم» الى المصدر «الامر». والامر ليس هو الفاعل الحقيقي، لأن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى هو الذي يصدر الامر منه، فيُقَال في الحقيقة:
«عزم الله الامر» . ولكن «عزم الامر» .
تجوز في الإسناد، فحُذِف الفاعل الأصلي وأُسْنِد الفعل إلى مصدره، للمشابهة بين الفاعل – الحقيقي والمجازي – في تعلق الفعل بهما، فتعلقه بالفاعل الحقيقي من حيث صدوره منه، وتعلقه بالفاعل المجازي – وهو الصدر – من حيث أنه جزء مفهومه – وهو مصدر – وهذه هي علاقته المصدرية.
ومن هذه الملابسة قد وردت آيات أخرى في القرآن المجيد أيضًا ، منها:
«وَجَآءَتْهُ البُشْرٰى» (36) و «بِدَمٍ كَذِبٍ» (37) و«مَكَرُوا مَكْرًا» (38) و«لاَيُغْنِيْ عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ» (39).
ولذة الجمال في جعل المصدر فاعلاً هي تصور المصدر بصورة متحركة تشعر وتفعل الأمور بإرادتها وفكرتها، حيث أن في الآيات المذكورة «كلمات الامر» و«البشرى» و«كذب» و«مكرًا» و«كيد» لاتستطيع ان تؤدى المعاملات في الحقيقة واذا جوزت عن الحقيقة وخلعت بالمجاز العقلي فأصبحت هذه المصادر غير متحركة مثل التماثيل والصور ذات إرادة وشعور يعني الانسان. وهذه غاية حسن إذا لبس اللفظ لباس الصورة والشكلة حتى يمشي ذلك اللفظ مشى الإنسان في جميع ميادين الحياة .
(5) «فَكَيْفَ تَتَّقُوْنَ إنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الوِلْدَانَ شِيْبًا» (40)
انظر، قد أُسنِد الفعل «يجعل» الى ضمير «يومًا» مجازًا عقليًا، مع أن حق الفعل أن يسند إلى الفاعل الحقيقي – الله – ولكنه أُسْنِد إلى ضمير الظرف للمشابهة بين الفاعل – الحقيقي والمجازي – في تعلق الفعل بهما ، فتعلقه بالفاعل الحقيقي من حيث صدوره منه، وتعلقه بالظرف من حيث وقوعه فيه، وهذه العلاقة الزمانية .
وسرالجمال فيه، هو المبالغة في شدة هول ذلك اليوم، وذلك بأن اليوم قد بلغ في هوله إلى حد يصبح فيه صغار السن مثل كبار السن، ففي الظاهر ينسب المفكر ذلك إلى اليوم والحاصل أن ذلك في الحقيقة من فعل الله تعالى. هل هذه المبالغة الحسنة الدالة بالاختصار على هذه المعاني الجميلة تحصل من الأسلوب الحقيقي؟ لا.
وكما سرالروعة فيه، هو النغم الحاصلة من إتيان «يومًا» بين «كفرتهم» و«يجعل». وذلك أنه لو كان :
«فكيف تتقون إن كفرتم الله يجعل الولدان شيبًا»، والذي هو التعبير الحقيقي، لما تحصل تلك اللذة التي تنشأ من الظرف، لأن كلمة «الله» لا تفيد ما يفيد لفظ «يومًا» بين فعلين «كفرتهم» و«يجعل» من الموسيقى . واللفظ مع الكلمات السابقة واللاحقة عنه، مقام وحال لايكون ذلك مع الكلمات الأخرى، وذلك المقام والحال كمايقتضى – أن تكون الكلمة بكذا وكذا من صفات كونها معرفة ونكرة ومتقدمة، ومتأخرة، وما إلى ذلك من الصفات، كذلك يقتضى في بعض الأحيان أن تكون الكلمة ذات صوت حسن. وهكذا هي الحال لكلمة «يومًا» لأن بها يُقيم ذلك النظم الذي يُوجَد في نونين آخرين «ولدان» و«شيبًا». وأما كلمة «الله» فليس بإتيانها بقاء ذلك النظم وحسن الصوت .
ومنه: «كَمْ أَهْلَكْنَا القُرُوْنَ» (41)
أقل ألفاظاً من قول:
«كم اهلكنا اهل القرون»
مع ذلك، أن في الأول مبالغة ليست في الثاني إذ جعل الله القرون نفسها هالكة .
ومنه: «وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا، وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَاهَا» (42)
أُسْنِدَ الفعل «جلى» و«يغشى» إلى ضمير الليل والنهار مجازًا عقليًا. وتعلق الفعل بالظرف من حيث وقوعه فيه، هي علاقة الزمانية. وتحت هذه الملابسة.
«فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِيْنَ» (43) وَ«النَّهَارَ مُبْصِرًا» (44) و«وَاللَّيْلِ إذَا سَجـٰـى» (45) و«عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيْطٍ» (46) وغيرها .
وهذه غاية قصوى لجمال النص القرآني من أن الزمان يعمل عملاً مثل الإنسان . وقد ذكرنا أن المعنى غير محسوس إذا جعل محسوسًا فهو يؤثر على الذهن والقلب أثرًا عظيمًا؛ لأن عقل الانسان يدرك الأشكال والصور في لمح البصر بخلاف اللفظ والمعنى إذ كل واحد منهما يحتاج إلى الفكر والتدبر، ولاشك أن الإنسان عجول .
وبالإضافة إلى ذلك أن نغم القافية يتضمن الحسن في بطنه ويترشح من كلماتها . ويجعل القارئ والناظر أن يدغدغ .
ما رأيك أيها الناظر والسامع في هذا الأثر الأنيق ؟
(6) «وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا» (47)
أُسْنِدَ الفعل «اخرجت» إلى الأرض – مكان – مجازًا عقليًا، وكان حقه أن يسند إلى الفاعل الحقيقي – هو الله تعالى – ولكنه أُسْنِد إلى الأرض ، للمشابهة بين الفاعل – الحقيقي والمجازي – في تعلق الفعل بهما ، فتعلقه بالفاعل الحقيقي من حيث صدوره منه ، وتعلقه بالفاعل المجازي من حيث وقوعه فيه ، وهذه هي علاقته المكانية .
ومنه قوله تعالى :
«وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِيْ مِنْ تَحْتِهِلفاعل الحقيقي من حيث صدوره منه ، وتعلقه بالفاعل المجازي مبن حيث وقوعه فيه ، وهذه هي علاقته المكانية .مْ» (48)
أُسْنِد فعل الجريان إلى الأنهار – والنهر اسم المكان الذي يجري فيه الماء – إنما يجري الماء لا المكان ، لكنه موضع للجريان صح إسناد الفعل إليه مجازًا لعلاقة المكانية .
وروعة المجاز تأتي من أن المياه لكثرة فيضانها وشدة جريانها ترى كأن محلها يجري ، وكأن الجرى قد تجاوز الماء إلى مكانه(49). ولذلك نجد هذا الوصف دائمًا لجنات الله التي أُعِدَّتْ للمتقين من هذا الوجه الجمالى ، وكقوله تعالى :
«وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِيْ مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ» (50).
ولو قِيْلَ: «واخرج الله من الأرض اثقالها». و«جعل الله تعالى جرى الأنهار جارية من تحتهم».
و«وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات يجري الله من تحتها الأنهار».
فيفسد نظم العبارة أولاً، ويذهب ذلك الموسيقى الذي يُوجَد في المجاز ثانيًا، ويصبح الكلام حقيقة، والحقيقة في هذه المقامات المذكورة لا يحصل بها الجمال المعنوي. وأن جمال الألفاظ بدون جمال المعنى لايكون جمالاً كاملاً بل يكون جسمًا بلا روح. ومن ثم إذ سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصًا للكلام وهجنة له، كما يعرض إلى بعض الأجسام من العرج والشلل والعور وما أشبه ذلك، من غير أن تذهب الروح يكون عيبًا للجسم. وإن اختل المعنى كله وفسد ، بقي اللفظ ميتًا لا فائدة فيه ، لأن اللفظ جسم وروحه المعنى(51).
وطبق هذه الملابسة :
«وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا» (52).
تفيد القافية والسجع منه، وتنشأ الموسيقى بذكر النونين بفصل الأرض، وتفجير الأرض بالعيون تشعر بأن كل مكان في الأرض فُجِّرَ عينًا، وهذا طبعًا على سبيل المبالغة ورنين الجرس، وهو لايُوجَد في التعبير الحقيقي .
قد بينت عدة أمثلة لملابسة المجاز العقلي حسب حسيّ وذوقى . وإحساسات الإنسان وأذواقهم مختلفة في أخذ اللذة والشعور. فلذا اكتفيت بهذه الأمثلة وتركت الباقية من الأمثلة إلى نفس القارئ والسامع أن يغوص في أمواج بحر المجاز العقلي ويجمع اللألى النادرة ويملأ ذيله ويروى عطشه طبق ذوقه وطبيعته .
* * *
الهوامش والمراجع
- مفتاح العلوم ، ص: 184-186.
- من أساليب البيان ، ص: 161.
- مختصر المعاني ، ص: 58.
- من أساليب البيان ، ص : 162-163.
- أسرار البيان : ص : 116.
- البيان : د. عبد القدوس صالح وزميله: ص: 136.
- وهو المكان الواسع فيه دقائق الحصى .
- الحطيئة، جرول بن أوس بن مالك العبسى (45هـ = 665م) أبو ملكية: شاعر مخضرم . أدرك الجاهلية والاسلام. كان هجاء عنيفًا، لم يكد يسلم من لسانه أحد. وهجا أمه، واباه ونفسه. له ديوان شعر . ط .
انظر: الاعلام ج:2ظ ء: 118، والبلاغة الواضحة: ء:115.
- مجموع مهمات المتون يشتمل على ستة وستين متنافى مختلف الفنون والعلوم: ص:99، 499.
- أسرار البيان : ص: 115، 116.
- الدلائل : ص : 214.
- العبدي: شاعر أموي مشهور، من قبيلة عبد القيس، كان خبيث اللسان، وقد ادعن أنه طلب إليه أن يحكم بين جرير والفرزدق، أشرف بيتًا، وأن جريرًا أجود شعرًا، فلم يرض هذا الحكم جريرًا، وهجا الصلتان، فرد هذا عليه ردًا شديدًا. أسرار البيان : ص: 110، 11.
- البيان: د. عبد القدوس صالح وزميله: ص: 136.
- الأنفال : 2.
- القصص : 8.
- المعاني في ضوء أساليب القرآن: د. عبد الفتاح لاشين ص:152.
- الغافر: 36.
- القصص: 38.
- هود: 43.
- الواقعة :1.
- إبراهيم : 35.
- النازعات : 12.
- الطارق : 6.
- الزيات، (1302-1388هـ = 1885-1968م) احمد بن حسن الزيات: وُلِدَ بقرية كفرد ميرة القديم، في طلخا، وتُوُفِّىَ بالقاهرة. وأول ما علت شهرته كتاب: «تاريخ الأدب العربي» ومن آثاره «دفاع عن البلاغة» أدب الزيات في «العراق» وغيره .
انظر للتفصيل: الاعلام: ج:1، ء:114.
- دفاع عن البلاغة، أحمد حسن زيات: ص:28.
- الإسراء: 45.
- مريم : 61.
- الإسراء : 43.
- الإسراء : 44.
- الإسراء: 46.
- الإسراء : 47.
- مريم : 60.
- مريم : 62.
- مريم : 63.
- محمد : 21.
- هود: 74.
- يوسف : 18.
- النمل : 50.
- الطور : 46.
- المزمل : 17.
- الإسراء 17.
- الشمس : 3 ، 4.
- الصافات : 177.
- يونس : 67.
- الضحى : 2.
- هود : 84.
- الزلزلة : 2.
- الأنعام : 6.
- المعاني في ضوء أساليب القرآن : ص : 149.
- التوبة : 72.
- المعاني : ص: 51.
- القمر: 12.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الأولي 1427هـ = يونيو 2006م ، العـدد : 5 ، السنـة : 30.