دراسات إسلامية
بقلم : أ. د. ع. م. غنيمة
إذا أراد المسلم أن يجعل من مبدأ الحياة وقصة الخلق طريقًا شيِّقًا للمعرفة الفكرية أوسع وأعمق مما صوره العلم، فأمامنا طريق الفلاسفة وتأملاتهم. وإذا أراد المسلم أن يجعل منه موضعَ إيمان ومشاعر إنسانية وروحية، فأمامه الدين الإسلامي، وهنا وعند هذه المرحلة، حيث يبدو تعدد الطرق، نجد أن العلم والفلسفة والدين يتفقون على أن مبدأ الحياة ونظرية الخلق من مظاهر الألوهية، وأن الألوهية هي الأصل، وهي الغاية من كل هذا الكون؛ فكل شيء فيه إنما يصبو إليها، ونحن لا نستطيع عن طريق المعرفة الفلسفية أن نقول : إن الله تعالى هو سببُ أو علةُ الوجود، وخالقه ومصوره، وواضع أسسه ونظمه، وإنما نقول أيضًا: إنه هو الذي يشهد على الأشياء كلّها، وليست الأشياء هي الدليل عليه .
إن القرآن الكريم لم يأت ليُعَلِّمنا أسرارَ الوجود والخلق؛ ولكنه أشار إليها وسجّلها ليظهر الإعجاز الإلهي للإنسان في كل عصر، ومع كل تقدم للعلم والمعرفة البشرية، على أن ربط القرآن الكريم بالنظريات العلمية، شيء لايجب أن يحدث أو يقال، فالقرآن لاتربط صحته باتفاقه مع نظرية علمية أيًا كانت؛ ولكن العلم هو الذي يستمد صحته وبيانه إذا اتفق مع آيات القرآن الكريم، فكل علم مخالف لحقائق القرآن هو علم خاطيء وزائف، لأن قائل القرآن هو الله سبحانه وتعالى ، وخالق الكون هو الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن لمخلوق عالم أو متفلسف أن يصل في أسرار الكون إلى علم الخالق، تلك حقيقة مهمة وبديهية، لأولئك الذين يربطون معجزة الخلق بنظريات من فكر البشر، والحياة والموت، هما مما اختص به الله سبحانه وتعالى نفسه.
حتى أنه إذا أعطى رسولاً من رسله هذه المعجزة ، كما أعطاها عيسى u فإنه يقول: فإذن الله .. فعيسى يقول : «وَاُحْيِي الْمَوْتـٰـى بِإِذْنِ اللهِ» ويقول: «أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّيْنِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيْهِ فَيَكُوْنُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ»، وفي نفس الآية من آل عمران رقم (49)، يقول جل شأنه «وَأُبْرِئُ الاَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ» ، «وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُوْنَ وَمَا تَدَّخِرُوْنَ فِيْ بُيُوْتِكُمْ»، وهنا يجب أن نلاحظ أن معجزة الحياة والموت لم ترد إلا ومعها كلمة بإذن الله، بينما وردت المعجزات الأخرى كإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك، كمعجزات لتأييد عيسى من الله سبحانه وتعالى، دليلاً على صدق رسالته وتبليغه عن الله؛ ولكن معجزة الخلق هي لله وحده .
والله سبحانه وتعالى حين أوجد الحياة أبلغنا بطريقة الخلق ومعجزته فقال في سورة السجدة آيات 9,8,7,: ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِيْنٍ * ثـُمَّ جَعَلَ نَسْلَه مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَّآءٍ مَّهِيْنٍ * ثـُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيْهِ مِنْ رُّوْحِه وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيْلاً مَّا تَشْكُرُوْنَ﴾، وقال في سورة الحجر آية 28 ، 29: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّيْ خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَّسْنُوْنٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيْهِ مِنْ رُّوْحِي فَقَعُوْا لَه سَاجِدِيْنَ﴾، وقال عن مريم في سورة الأنبياء: آية 91: ﴿وَالَّتِيْ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيْهَا مِنْ رُّوْحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِيْنَ﴾، وقال في سورة التحريم آية 12: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيْهِ مِنْ رُّوْحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِه وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِيْنَ﴾. وقال إنني خلقتُ من كل شيء زوجين اثنين، أي أن كل مخلوقات هذه الدنيا بدأت بخلق الله سبحانه وتعالى ذكرًا وأنثى ثم بدأ التكاثر بعد ذلك، وهذه هي بداية الخلق، وحقائق الكون كما ذكرها الله في القرآن الكريم هي حقائق أزلية لايمكن أن تتصادم.
نأتي الآن إلى خلق آدم ، أخبرنا الله سبحانه وتعالى .. أنه خلقَ الإنسان من طين يقول تعالى في سورة الرحمن آية 14: ﴿خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾، أي من عناصر الأرض والتربة التي نعيش عليها والبحث العلمي المعملي أثبت أن الأرض تتكون من 20 عنصرًا كلها موجودة في جسد الإنسان هي «الكربون» و«الأيدروجين» و«الأكسجين» و«النتروجين» و«الفسفور» و«الكبريت» و«الصوديوم» و«البوتاسيوم» و«الكالسيوم» و«الماغنسيوم» و«الحديد» و«النحاس» و«الكلور» وتكون هذه العناصر 60-80٪ من رماد الجسم. أما «الكوبالت» و«المنجنيز» و«الزنك» و«اليود» و«الخارصين» و«الألومنيوم» و«البورون» فهي توجد بكميات صغيرة جدًا في جسم الإنسان، ثم نفخ الله سبحانه وتعالى فيه من روحه، والروح من أمر الله، لم يصل إليها العلم ولن يصل، فتم خلقُ آدم وخلق حواء من آدم .
بداية خلق الإنسان من النطفة وحدها
لقد كان مفهومًا منذ القدم أن الأم لا دخل لها في خلق أبنائها؛ ولكن «ماء» الرجل ما أن يصل إلى رحم المرأة حتى ينمو ليكون جنينًا ثم وليدًا، مثله في ذلك مثل «البذرة» حيث تصادف التربة الطيبة فإنها تنمو وتزدهر، ولم تكتشف طبيعة الحيوان المنوي كذات مستقلة في السائل المنوي «ماء الرجل» (ماء الخليقة) إلا في القرن السابع عشر، في عهد «ليفنهوك» Leeuwen hoak وبالتحديد عام 1677م اعتبر الحيوان المنوي حينئذ كائنًا حيًا له ذاته وصفاته المستقلة، التي بها يمكنه أن ينمو فيكون الجنين في رحم الأنثى، وبعد الولادة يصبح فردًا إنسانًا وقد تصور العلماء آنذاك أن الحيوان المنوي ماهو إلا إنسان صغير الحجم جدًا يجلس القرفصاء .
وكان «ليفنهوك» قد توصل إلى صنع عدسة دقيقة سمكها أقل من 1/10 بوصة متقنة الصقل بحيث كانت تريه الأشياء في ضخامة واضحة، أخذ في توجيه عدساته إلى كل شيء يستطيع الحصول عليه، ففحص رأس ذبابة وألصق مخها بالإبرة الدقيقة، وكم أثارت إعجابه التفاصيل الواضحة عندما كان يفحص البذور الصغيرة والبراغيث والقمل لكي يرى التفاصيل التي تعجز العينُ عن رؤيتها، وفحص بعدسته قطرة صغيرة من ماء المطر فرأى كائنات دقيقة تسبح في هذا الماء .. وكانت الكائنات الدقيقة الجديدة عجيبة وصغيرة وأعدادها كبيرة ومتعددة الطرز، تتحرك وتتمايل وتنقلب ذات الشمال وذات اليمين، فكتب إلى عظماء العلماء في لندن ووصف لهم ما اعتراه من دهشة، وأخبرهم عن رؤية مئات من الكائنات الدقيقة.. فهزت كتاباته العلماء وسرت بينهم الدهشة ولاسيما رؤيته لأول مرة أوعية الدم الشعرية التي ينتقل الدم خلالها من الشرايين للأوردة في ذيل السمكة، واكتشف الحيوانات المنوية للإنسان وأماط اللثام عن تلك الكائنات الحية غير المرئية والتي يعيش بعضها على التهام البعض الآخر، وكان يقول حياة تعيش على حياة، ولذا يعتبر «ليفنهوك» في تاريخ العلم أول من اكتشف «الميكروبات» وترك لمن بعده من العلماء أمثال باستير «Pasteur» بداية تصنيف تلك «الميكروبات» .
وقد استعان «باستير» بعدسات «ليفنهوك» لكشف «الميكروبات» التي تعيش على اللبن وعلى الخمر، وتوصل إلى أنه إذا سخن اللبن أو الخمر – ولو تسخينًا هينًا – قبيل درجة الغليان، فإن هذا التسخين يقتل «الميكروبات» الدخيلة .. وهذه الحيلة اليسيرة هي المعروفة باسم البسترة في صناعة الألبان.. وعلى مقتضاها تعالج منذ ذلك اليوم فتتعقم وتنجو من التلف والتخثر، ومن أعظم ما خطر على فكر «باستير» أن «المكيروب» على ضآلته قد يدخل جسم الرجل أو جسم الثور أو الفيل وينهى حياته، ولم يكن يجد في هذا الخاطر استحالة أو غرابة .
والآن نعاود الكتابة عما جاء بأم الكتاب، حين نزل القرآن الكريم على الرسول الأمين ﷺ منذ قرابة أربعة عشر قرنًا من الزمان، لم يكن أمر الحيوان المنوي. ووظيفته وطبيعته – معروفًا كما أن موقفه من تخليق الإنسان وغيره من الحيوانات لم يكن مفهومًا .
وفي كتب الشريعة والتفسير حتى نهاية القرن السابع عشر الميلادي، يعبر عن السائل المنوي بعبارة «ماء الرجل»، والقرآن الكريم يعبر عنه أيضًا «بالماء المهين»، وأحيانًا «بالماء» فقط، يقول سبحانه: «ثـُمَّ جَعَلَ نَسْلَه مِنْ سُلاَلَةٍ مِّنْ مَّآءٍ مَّهِيْنٍ» السجدة: آية 8 «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَّآءٍ مَّهِيْنٍ» المرسلات: آية 20 : «وَهُوَ الَّذِيْ خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَرًا فَجَعَلَه نَسَبًا وَصِهْرًا وَكاَنَ رَبُّكَ قَدِيْرًا» الفرقان: آية 54 .
لكن علماء البيولوجيا المعاصرين، يعرفون عن يقين، أن الإنسان وأغلب الحيوانات تبدأ حياتها بخلية واحدة، ومن هذه الخلايا أو اللبنات الدقيقة الحية، تبني أجسام النبات والحيوان والإنسان والخلية الأولى لتكوين الإنسان، هي حصيلة اندماج حيوان منوي (نطفة) من الذكر مع بيضة من الأنثى، والخلية الناتجة تعرف علميًا بالبيضة المخصبة أو الزيجوت Zygote ولايمكن للحيوان المنوي (النطفة) وحده أن ينتج كائنًا حيًا دون مشاركة من البيضة، أي أن الرجل لايمكن أن يكون له ولد (أى ابن) دون مشاركة من أنثى، ومن هنا يرجع أمر خلق الإنسان بداية من النطفة للأسباب الآتية :
1- أن بيضة الأنثى لا يمكنها أن تنقسم وبالتالي لا يمكنها أن تكون جنينًا في رحم الأم إلا بعد أن يخصبها الحيوان المنوي، ومالم يأتها الحيوان المنوي فإنها تبقى بحيويتها على حالتها لفترة زمنية في انتظار إخصابها بحيوان منوي يصلها في الوقت المناسب، فإن أخفقت في أن يصل إليها الحيوان المنوي، فإنها لا تلبث أن تفقد حيويتها فتتلاشى وتمتص ويضيع أثرها .
2- النطفة هي السبب الأصيل في تكوين الجنين، وهي التي تبعث النشاط الانقسامي في البيضة بعد تخصيبها، ولا يمكن للنطفة أن تكون الجنين إلا بمشاركة البيضة، والتفسير السابق ينطبق على الإنسان عامة، فلم يحدث أن استطاعت امرأة بمفردها، أي دون الذكر، أن تنجب، وولادة سيدنا عيسى u من السيدة مريم، هي معجزة إلهية، والمعجزات أمور خارقة لنواميس الكون ولايقاس عليها.
وصحيح أن هناك حيوانات أخرى من غير البشر، يمكن لبيضة الأنثى وحدها، ودون احتياج لحيوان منوي، أن تنقسم وأن تنتج الذراري وهذا شائع طبيعيًا في أنواع من الحشرات مثل حشرة المن، كما أن ملكة النحل يمكنها أن تنتج الشغالات في طائفة النحل عن طريق وضع بيض لا تخصبه بحيوانات منوية، وانقسام البيضة على هذا النحو وتكوين الأجنة فيها دونما حاجة إلى الحيوان المنوي هي ظاهرة تُعْرَف علميًا باسم «التولد البكري أو العذري» ولا وجود لمثل هذا التكاثر في الإنسان .
3- إضافة إلى ما سبق، نجد أن الحيوان المنوي هو الشق الوحيد من شقي التناسل، الشق الآخر هو البيضة، ويترتب على هذا التنوع تكوين الذكر والأنثى، بمعنى أن مني الذكر يكون الحيوان المنوي فيه على صورتين مختلفتين، إحداهما إذا قدر لها أن تخصب البيضة تنتج عن ذلك جنينًا ذكرًا، والأخرى إذا قدر لها ذلك نتج عنها جنين أنثى، ولو لم يتنوع الحيوان المنوي على الصورتين السابقتين لنتج عن الإخصاب جنس واحد فقط، وهل يمكن للحياة أن تستمر بجنس واحد فقط دون الجنس الآخر؟
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِيْنٍ * ثـُمِ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِيْ قَرَارٍ مَّكِيْنٍ * ثـُمِ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثـُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَاْرَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِيْنَ﴾ المؤمنون: الآيات من 12-14.
يقول تعالى: ﴿وَأَنَّه خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثىٰ * مِنْ نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنىٰ﴾ النجم: آية 46,45.
ويتضح مما سبق وبجلاء ودون ارتياب، أن إنجاب الإناث والذكور معًا مسؤولية الذكر (الزوج) دون الأنثى (الزوجة)، وعليه فليس من الكياسة في شيء ولا من العدالة في قليل ولا كثير أن يحمل زوجٌ زوجتَه مسؤولية إنجاب البنات، كما يشيع في بعض أوساط الجهل والبسطاء من الناس.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول – ربيع الثاني 1427هـ = أبريل – مايو 2006م ، العـدد : 3–4 ، السنـة : 30.