يستقبل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها شهرَ رمضان المبارك الذي فرض الله تعالى صيامه، وسنَّ رسول الله -ﷺ- قيامه. وهو شهر الخير والبركة والمواساة والتعاون. والناظر في التكاليف الإسلامية يرى بوضوح أنها – بجانب أداء حق الله تعالى الذي فرضه عليهم – تتضمن معاني نبيلة، وإيحاءات واعية، وحكمًا وأسرارًا أطلع الله تعالى بعض عباده على بعضها، واستأثر سبحانه بما أراد أن يستأثر بعلمه دون أحد من خلقه. والصوم من أهم دعائم الإسلام، وأركان الدين، ومرتكزات الشريعة الإسلامية الغراء، وقد نبَّه عليه الحديث الذي رواه البخاري[8]، ومسلم [16، واللفظ له] عن ابن عمر¶، عن النبي ﷺ، قال: «بني الإسلام على خمسة: على أن يوحد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج»، فقال رجل: الحج، وصيام رمضان، قال: «لا، صيام رمضان، والحج»، هكذا سمعته من رسول الله ﷺ.

         والصوم كغيره من التكاليف والأحكام له أسرار وحكم أودعها الله تعالى إياه. وقد نص القرآن الكريم على أن من أهم حكم وأسرار فرض الصوم هو تحصيل التقوى، قال الله تعالى: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ‌ٱلَّذِينَ ‌ءَامَنُواْ ‌كُتِبَ ‌عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:183].

         يقول الرازي في تفسير هذه الآية- وهو يشير إلى مناسبة قوله: (لَعَلَّكُمۡ…) بهذا المقام-: «إنه سبحانه بيَّن بهذا الكلام أن الصوم يورث التقوى لما فيه من انكسار الشهوة، وانقماع الهوى؛ فإنه يردع عن الأشر و البطر والفواحش، ويهوِّن لذات الدنيا ورئاستها، وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن و الفرج، وإنما يسعى الناس لهذين، كما قيل في المثل السائر: المرء يسعى لعارية بطنه وفرجه، فمن أكثر الصوم هان عليه أمر هذين، وخفت عليه مؤنتهما، فكان ذلك رادعًا له عن ارتكاب المحارم والفواحش، ومهوِّنا عليه أمر الرئاسة في الدنيا، وذلك جامع لأسباب التقوى، فيكون معنى الآية: فرضت عليكم الصيام لتكونوا به من المتقين الذين أثنيت عليهم في كتابي، وأعلمت أن هذا الكتاب هدى لهم، ولما اختص الصوم بهذه الخاصية حسن منه تعالى أن يقول عند إيجابها: (لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ) منها بذلك على وجه وجوبه؛ لأن ما يمنع النفس عن المعاصي لا بد وأن يكون واجبًا. وثانيها: المعنى ينبغي لكم بالصوم أن يقوى رجاؤكم في التقوى، وهذا معنى «لعل» وثالثها: المعنى: لعلكم تتقون الله بصومكم، وترككم للشهوات؛ فإن الشيء كلما كانت الرغبة فيه أكثر كان الاتقاء عنه أشق، والرغبة في المطعوم والمنكوح أشد من الرغبة في سائر الأشياء، فإذا سهل عليكم اتقاء الله بترك المطعوم والمنكوح، كان اتقاء الله بترك سائر الأشياء أسهل و أخف، ورابعها: المراد كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون إهمالها، وترك المحافظة عليها بسبب عظم درجاتها، وأصالتها. وخامسها: لعلكم تنتظمون بسبب هذه العبادة في زمرة المتقين؛ لأن الصوم شعارهم والله أعلم».

         وقال الإمام الغزالي (في الإحياء ص235)- وهو يشرح أسرار الصيام وشروطه الباطنة:

         «فروح الصوم وسره تضعيف القوى التي هي، وسائل الشيطان في العود إلى الشرور، ولن يحصل ذلك إلا بالتقليل، وهو أن يأكل أكلته التي كان يأكلها كل ليلة لو لم يصم، فأما إذا جمع ما كان يأكل ضحوة إلى ما كان يأكل ليلا، فلم ينتفع بصومه؛ بل من الآداب أن لايكثر النوم بالنهار حتى يحس بالجوع و العطش، ويستشعر ضعف القوى، فيصفو عند ذلك قلبه، ويستديم في كل ليلة قدرًا من الضعف حتى يخف عليه تهجده وأوراده، فعسى الشيطان أن لايحوم على قلبه فينظر إلى ملكوت السماء».

         والاتقاء من معصية الله تعالى من أهم متطلبات الشريعة الإسلامية، والصوم خير عون على ذلك، وموجب لهذا الاتقاء وذلك «لأن المعاصي قسمان: قسم ينجع في تركه التفكر كالخمر والميسر و السرقة والغصب، فتركه يحصل بالوعد على تركه والوعيد على فعله والموعظة بأحوال الغير؛ وقسم ينشأ من دواعٍ طبيعية كالأمور الناشئة عن الغضب، وعن الشهوة الطبيعية التي قد يصعب تركها بمجرد التفكر، فجعل الصيام وسيلة لاتقائها؛ لأنه يعدل القوى الطبيعية التي هي داعية تلك المعاصي، ليرتقي المسلم به عن حضيض الانغماس في المادة إلى أوج العالم الروحاني، فهو وسيلة للارتياض بالصفات الملكية، و الانتفاض من غبار الكدرات الحيوانية. وفي الحديث الصحيح «الصوم جنة» أي وقاية، ولما ترك ذكر متعلق «جنة» تعين حمله على ما يصلح له من أصناف الوقاية المرغوبة، ففي الصوم وقاية من الوقوع في المآثم، ووقاية من الوقوع في عذاب الآخرة، ووقاية من العلل والأدواء الناشئة عن الإفراط في تناول اللذات» (التحرير والتنوير، تفسير الآية).

         وتحدث الإمام ولي الله الدهلوي في «حجة الله البالغة» (ص140-141) عن حكم وأسرار الصوم فقال: «اعْلَم أَنه رُبمَا يتفطن الْإِنْسَان من قبل إلهام الْحق إِيَّاه أَن سورَة الطبيعة البهيمية تصده عَمَّا هُوَ كَمَاله من انقيادها للملكية، فيبغضها، وَيطْلب كسر سورتها، فَلَا يجد مَا يغيثه فِي ذَلِك، كالجوع و العطش، وَترك الْجِمَاع وَ الْأَخْذ على لِسَانه وَقَلبه وجوارحه، ويتمسك بذلك علاجًا لمرضه النفساني، ويتلوه من يَأْخُذ ذَلِك عَن الْمخبر الصَّادِق بِشَهَادَة قلبه، ثمَّ الَّذِي يقوده الْأَنْبِيَاء شَفَقَة عَلَيْهِ، وَهُوَ لَايعلم، فيجد فَائِدَة ذَلك فِي الْمعَاد من انكسار السّورَة، وَرُبمَا يطلع الْإِنْسَان على أَن انقياد الطبيعة لِلْعَقْلِ كَمَال لَهُ، وَتَكون طَبِيعَته باغية تنقاد تَارَةً، وَلَا تنقاد أُخْرَى، فَيحْتَاج إِلَى تمرين، فيعمد إِلَى عمل شاق كَالصَّوْمِ، فيكلف طَبِيعَته، ويلتزم وَفَاء الْعَهْد، ثمَّ، وَثمّ حَتَّى يحصل الْأَمر الْمَطْلُوب. و رُبمَا يفرط مِنْهُ ذَنْب، فيلتزم صَوْم أَيَّام كَثِيرَة يشق عَلَيْهِ بِإِزَاءِ الذَّنب، ليردعه عَن الْعود فِي مثله. وَرُبمَا تاقت نَفسه إِلَى النِّسَاء، وَلَا يجد طولا، وَيخَاف الْعَنَت، فيكسر شَهْوَته بِالصَّوْمِ، وَهُوَ قَوْله ﷺ: «فَإِن الصَّوْم لَهُ وَجَاء»(1). وَالصَّوْم حَسَنَة عَظِيمَة يقوي الملكية، ويضعف البهيمية، وَلَا شَيْء مثله فِي صيقلة وَجه الرّوح وقهر الطبيعة، وَلذَلِك قَالَ الله تَعَالَى: «الصَّوْم لي وَأَنا أجزى بِهِ»(2)، وَيكفر الْخَطَايَا بِقدر مَا اضمحل من سورَة البهيمية، وَيحصل بِهِ تشبه عَظِيم بِالْمَلَائِكَةِ، فيحبونه، فَيكون مُتَعَلق الْحبّ أثر ضعف البهيمية، وَهُوَ قَوْله ﷺ: «لخلوف فَم الصَّائِم أطيب عِنْد الله من ريح الْمسك»(3)، وَإِذا جعل رسمًا مَشْهُورًا نفع عَن غوائل الرسوم، وَإِذا الْتَزمهُ أمة من الْأُمَم سلسلت شياطينها، وَفتحت أَبْوَاب جنانها، وغلقت أَبْوَاب النيرَان عَنْهَا. وَالْإِنْسَان إِذا سعى فِي قهر النَّفس وَإِزَالَة رذائلها كانت لعمله صُورَة تقديسية فِي الْمِثَال، ومن أزكياء العارفين من يتوَجَّه إِلَى هَذِه الصُّورَة، فيمد من الْغَيْب فِي علمه، فيصل إِلَى الذَّات من قبل التَّنْزِيه والتَّقْدِيس، وَهُوَ معنى قَوْله ﷺ: «الصَّوْم لي وَأَنا أجزى بِهِ»(4).

         ويقول العلامة العثماني في تفسيره: «أي يعوِّد الصوم النفس الإمساك عما يرغب، فيصير في مكنتكم منعها عن رغباتها المحرمة شرعًا، كما أن الصوم يقلل من قوة النفس وشهوتها، فتتقون الله تعالى. وأعظم حِكَم الصوم إصلاح النفس الشريرة، يتيسرعليها إتيان الأحكام الشرعية التي تشق على المرء ويصير متقيا لله تعالى. واعلم أن صوم رمضان كان فرض على اليهود والنصارى كذلك، إلا أنهم غيروه وبدلوه بما يوافق أهواءهم، فقوله: (لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ) تعريض بهم، والمعنى: احذروا- أيها المسلمون – المعاصي، لاتخلوا بهذا الحكم كما  أخل به اليهود والنصارى».

         وتحدث العلامة أشرف علي التهانوي المعروف بحكيم الأمة في تفسير قوله تعالى: (لَعَلَّكُمۡ تَعقلون): «مفعوله محذوف، وهو إما النار أو المعاصي، وحاصلهما واحد، فإن اتقاء النار يستوجب اتقاء المعاصي أولا، وكذلك اتقاء المعاصي يؤدي إلى اتقاء النار. وهنا يطرح السؤال نفسه: كيف كان للصوم يد في اتقاء المعاصي؟ فالجواب عنه أن الأطباء لايخفى عليهم أن تأثير الأشياء على نوعين: الأول ما يؤثر بالكيف، و الثاني: ما يؤثر بالخاصية؛ بل أقول: ليس شيء من الأشياء إلا وهو يؤثر بالخاصية؛ فإنه لوكانت الأشياء مؤثرة بالكيف لكان جميع أشياء الدرجة الواحدة ذات تأثير مماثل، أي ماكان من الأشياء حارًّا في الدرجة الأولى كان أثــــره جميعًا واحدًا. وماكان من الأشياء باردًا في الدرجة الثانية كان تأثيره واحدًا. وما كان من الأشياء جافًّا في الدرجة الثالثة كان تأثيره واحدًا. وما كان من الأشياء رطبًا في الدرجة الرابعة كان تأثيره واحدًا، وذلك في حين نرى أن الأشياء  ذات درجةٍ واحدةٍ يختلف بعضها عن بعض في التأثير. فدل على أن تأثيرها بالخاصية لا بالكيف. وليس هذا مما ينافي الطب؛ بل هي قضية ترجع إلى الفلسفة. وليس فيه ما يستلزم المخالفة. فلايتوجه إلينا هذا السؤال- أي كيف كان للصوم يد في اتقاء المعاصي- إلا إذا قلنا: إن الأشياء مؤثرة بالكيف، فأما إذا قلنا: إنها مؤثرة بالخاصية فلايتوجه هذا السؤال إلينا إطلاقًا. فما ورد من ذكر تأثير عبادة من العبادات فإنها تأثيرات بالخاصة. ونجد الناس- مهما أوغلوا في الفسق والفجور قبل رمضان المبارك – يقللون من المعاصي في رمضان، فيقيمون الصلوات، ويتلون القرآن الكريم، فقد اتقوا المعاصي ما داموا مكبين على العبادات. وعلاوة على هذا الوجه من الجواب عن السؤال السابق، ثمة وجه آخر منه شهير، ووجه ثالث ألقى الله تعالى في روعي بفضله وكرمه. وأما الوجه الشهير من الجواب عنه فما ذكره الغزالي وغيره من أهل العلم، وهو أن القوة البهيمية تضمحل بالصوم؛ فإنه يستوجب التخلي عن اللذات والشهوات، التي كانت تدعو إلى المعاصي والذنوب. وأما الذي ألقى الله تعالى في روعي فواضح لا غبار عليه على الإطلاق. وأما هذا الوجه من الجواب الذي ذكروه فإنه يرد عليه أنه هل نقصت الشهوات واللذات؟ ونتساءل: ألا يجوز الأكل شبع البطن وإتيان الزوجة في الليل؟ فلم تنقص القوة البهيمية شيئًا؛ فمن الناس من يتناول في الليل قدرًا كبيرًا من الطعام ما يغنيهم عن الطعام يومًا واحدًا أو يومًا ونصف يومٍ. وإنما يعود الصوم بالنفع على هذا الوجه من الجواب إذا ما لزم الإمساك ليلا كما يجب نهارًا، ولكن لوذهبت إلى منع تناول الطعام ليلا لعارضت النص. وهذا الإيراد على هذا الجواب مما دفع كبار العلماء إلى القول بأمر آخر مما لا دليل عليه، وهو أنه يجب أن يقلل الطعام حتى في الليل، فإنه لايتحقق غرض الصوم إذا لم يقلل منه. وهذا التوجيه- رغم أنه يسرُّ الناظر ويبدو أقرب- أبعد في الواقع؛ لأنه هل جاء الترغيب في تقليل الطعام في الصوم أم لا؟ فإن قلت: نعم، فأروني أين هو؛ فإن كاتب هذه السطور لم يعثر عليه رغم إيغاله في البحث والتحقيق؛ بل وجد على خلاف ذلك، في قوله تعالى: ﴿وَكُلُواْ ‌وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ﴾ [البقرة:187]. وأما الأحاديث الواردة بتقليل الطعام فعامة، لاتختص بالصوم. فهل جاء من دليل خاص بتقليل الطعام في الصيام؟ فلابد أن نقول: لم يرد نص في الترغيب فيه. وصحيح ومشاهَد أن الصائم يصاب ببعض الضعف في نهاية رمضان وإن توسع في الأكل في ليالي رمضان. وبناء عليه جاءت وصفة الصوم للعاجز عن النكاح. ثم يدفعنا ذلك إلى القول بأنه يجب أن يقلَّ الصائم من الطعام في ليالي رمضان وإلا عجز عن تحقيق غايته. وهذا مما لايصح القول به. وأما الوجه الثالث من الجواب – مما ألقى الله تعالى في روعي ببركة هؤلاء السلف الصالح، ومرده أمر آخر، وهو أن الصوم له يد في اتقاء المعاصي على وجه آخر أيضًا، وهو أنه كما جاء ذكر العذاب كثيرًا لتجنيب المرء من الشرك والكفر، وليس لوقوع العذاب يد في هذا الاتقاء من الشرك والكفر، وإنما يرجع ذلك إلى تصور العذاب والتفكير فيه، فإذا تصور المرء أن العذاب كذا وكذا أدى به إلى اتقاء الكفر والشرك، وقِس عليه أن تصور حقيقة الصوم له يد في الاتقاء من المعاصي. وحاصل الوجه الشهير من الجواب السابق ذكره أن للصوم هيئةً تمنع تحققها من المعاصي، وحاصل هذا الوجه الأخير أن الصوم شيء يمنع تصور هيئته من المعاصي. فلينظر المرء-إن كان له قلب سليم- في حقيقة الصوم ما هي؟ أليست هي الامتناع عن الأكل، والشرب، والتمتع بالزوجة؟ فإذا تأمل المرء في ذلك أدرك أن ما كان حلالًا إذا صار محرمًا، فما بال الأشياء التي كانت محرمة من قبلُ؟ ثم تقول له نفسه: ما أعجب أن يتخلى في صيامه عما كان حلالا قبلُ، ويقع في الحرام»؟

         فروح الصوم وسره هو اتقاء معصية الله تعالى ومجاهدة النفس، سواء قلنا: إن الصوم يكسر القوة البهيمية، و هو سبب لترك المعاصي والتخلي عنها، وسواء قلنا: إن الصوم إذا تصور المرء هيئته؛ فإنه يترك المعاصي، حيث إن المباح إذاكان حرامًا على المرء في الصوم فلأن يكون غير المباح حرامًا أولى.

         فكانت مجاهدة النفس هو روح الصوم، وأعظم ما تتمثل فيه هذه المجاهدة هو ترك معصية الله تعالى، وهذا ما يشير إليه ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»(5)، أي ما دام أنه لم يحقق هدف الصوم وهو ترك المعاصي، فما فائدة صومه؟ فهذه هي المجاهدة التي وردت النصوص الشرعية بفضلها، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا ‌مَنۡ ‌خَافَ ‌مَقَامَ ‌رَبِّهِۦ ‌وَنَهَى ‌ٱلنَّفۡسَ ‌عَنِ ‌ٱلۡهَوَىٰ﴾ [النازعات:40]. فحقيقة المجاهدة هي مجاهدة النفس ومخالفتها.

         وهذه المجاهدة هي التي أشار إليها الحديث الذي رواه الإمام البخاري في باب من جاهد نفسه في طاعة الله تعالى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: بينما أنا رديف النبيﷺ، ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل، فقال: «يا معاذ» قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، ثم سار ساعةً، ثم قال: «يا معاذ»، قلت: لبيك رسول الله وسعديك، ثم سار ساعةً، ثم قال: «يا معاذ بن جبل» قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: «هل تدري ما حق الله على عباده؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» ثم سار ساعةً، ثم قال: «يا معاذ بن جبل» قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: «هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «حق العباد على الله أن لا يعذبهم».

         قال ابن بطال في شرح هذا الحديث: جهاد المرء نفسه هو الجهاد الأكبر، وحرب العدو الأضر قال تعالى: ﴿وَأَمَّا ‌مَنۡ ‌خَافَ ‌مَقَامَ ‌رَبِّهِۦ ‌وَنَهَى ‌ٱلنَّفۡسَ ‌عَنِ ‌ٱلۡهَوَىٰ ٤٠ فَإِنَّ ٱلۡجَنَّةَ هِيَ ٱلۡمَأۡوَىٰ﴾ [النازعات:40-41]. وروي عن النبي (ﷺ) أنه قال لأصحابه، وقد انصرفوا من الجهاد: «أتيتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر». قالوا: وما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟ قال: «مجاهدة النفس». وقال سفيان الثوري: ليس عدوك الذي إن قتلته كان لك به أجر، إنما عدوك نفسك التي بين جنبيك، فقاتل هواك أشد مما تقاتل عدوك. وقال أويس القرني لهرم ابن حيان: ادع الله أن يصلح قلبك ونيتك؛ فإنك لن تعالج شيئًا هو أشد عليك منهما، بينما قلبك مقبل إذ هو مدبر، فاغتنم إقباله قبل إدباره، و السلام عليك. وقال علي بن أبي طالب: أول ما تفقدون من دينكم جهاد أنفسكم. وقد يكون جهاد النفس منعها الشهوات المباحة توفيرًا لها في الآخرة؛ لئلا تدخل في معنى قوله: ﴿أَذۡهَبۡتُمۡ ‌طَيِّبَٰتِكُمۡ ‌فِي ‌حَيَاتِكُمُ ‌ٱلدُّنۡيَا﴾ [الأحقاف:20] الآية، وعلى هذا جرى سلف الأمة، وقال سالم الخواص: أوحى الله إلى داود: لا تقرب الشهوات، فإني خلقتها لضعفاء خلقي، فإن أنت قربتها، أهون ما أصنع بك أسلبك حلاوة مناجاتي، يا داود، قل لبني إسرائيل، لاتقربوا الشهوات، فالقلب المحجوب بالشهوات حجبت صوته عني(6).

         ويقول التهانوي رحمه الله: مجاهدة النفس ومخالفتها على ثلاث درجات: الأولى: مخالفتها في المعاصي، والثانية: مخالفتها في الحظوظ، والثالثة: مخالفتها في الحقوق. فمخالفتها في المعاصي فرض و واجب، وأما مخالفتها في الحقوق فمعصية. وأما مخالفتها في الحظوظ ففيها تفصيل.

         قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث: والمراد بقول الزور الكذبُ والجهل السفه والعمل به أي بمقتضاه … قال ابن بطال: ليس معناه أن يؤمر بأن يدع صيامه، وإنما معناه التحذير من قول الزور، وما ذكر معه. وهو مثل قوله: «من باع الخمر فليشقص الخنازير» أي يذبحها، ولم يأمره بذبحها؛ ولكنه على التحذير والتعظيم لإثم بائع الخمر، وأما قوله: «فليس لله حاجة» فلا مفهوم له؛ فإن الله لا يحتاج إلى شيء، وإنما معناه: فليس لله إرادة في صيامه، فوضع الحاجة موضع الإرادة، وقد سبق أبو عمر ابن عبد البر إلى شيء من ذلك. قال ابن المنير في الحاشية: بل هو كناية عن عدم القبول كما يقول المغضب لمن رد عليه شيئًا طلبه منه فلم يقم به: لا حاجة لي بكذا. فالمراد رد الصوم المتلبس بالزور وقبول السالم منه، وقريب من هذا قوله تعالى: ﴿لَن ‌يَنَالَ ‌ٱللَّهَ ‌لُحُومُهَا ‌وَلَا ‌دِمَآؤُهَا ‌وَلَٰكِن ‌يَنَالُهُ ‌ٱلتَّقۡوَىٰ ‌مِنكُمۡۚ﴾؛ فإن معناه لن يصيب رضاه الذي ينشأ عنه القبول. وقال ابن العربي: مقتضى هذا الحديث أن من فعل ما ذكر لا يثاب على صيامه. ومعناه أن ثواب الصيام لا يقوم في الموازنة بإثم الزور وما ذكر معه. وقال البيضاوي: ليس المقصود من شرعية الصوم نفس الجوع والعطش؛ بل ما يتبعه من كسر الشهوات وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة، فإذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إليه نظر القبول: فقوله: «ليس لله حاجةً مجاز عن عدم القبول، فنفى السبب وأراد المسبب والله أعلم. واستدل به على أن هذه الأفعال تنقص الصوم، وتعقب بأنها صغائر تكفر باجتناب الكبائر. وأجاب السبكي الكبير بأن في حديث الباب والذي مضى في أول الصوم دلالة قوية للأول؛ لأن الرفث والصخب وقول الزور والعمل به مما علم النهي عنه مطلقًا، والصوم مأمور به مطلقًا، فلو كانت هذه الأمور إذا حصلت فيه لم يتأثر بها لم يكن لذكرها فيه مشروطة فيه معنى يفهمه، فلما ذكرت في هذين الحديثين نبهتنا على أمرين: أحدهما: زيادة قبحها في الصوم على غيرها، والثاني: البحث عن سلامة الصوم عنها وأن سلامته منها صفة كمال فيه. وقوة الكلام تقتضي أن يقبح ذلك لأجل الصوم فمقتضى ذلك أن الصوم يكمل بالسلامة عنها. قال: فإذا لم يسلم عنها نقص ثم قال: ولا شك أن التكاليف قد ترد بأشياء وينبه بها على أخرى بطريق الإشارة، وليس المقصود من الصوم العدم المحض كما في المنهيات؛ لأنه يشترط له النية بالإجماع، ولعل القصد به في الأصل الإمساك عن جميع المخالفات؛ لكن لما كان ذلك يشق خفف الله، وأمر بالإمساك عن المفطرات، ونبه الغافل بذلك على الإمساك عن المخالفات، وأرشد إلى ذلك ما تضمنته أحاديث المبين عن الله مراده، فيكون اجتناب المفطرات واجبًا واجتناب ما عداها من المخالفات من المكملات، والله أعلم»(7).

*  *  *

الهوامش:

(1)    رواه البخاري برقم [5065]، ومسلم برقم [1400].

(2)    رواه البخاري برقم [1904]، ومسلم برقم [1151].

(3)    رواه البخاري برقم [5927]، ومسلم [1151].

(4)    سبق تخريجه.

(5)    رواه البخاري برقم [1903]؛ أبوداود في السنن برقم [2362].

(6)    شرح ابن بطال على البخاري10/210.

(7)    فتح الباري 4/118.

محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري            (تحريرًا في الساعة العاشرة صباحًا من يوم الخميس: 5/جمادى الأولى 1444هـ الموافق 1/ديسمبر 2022م)

مجلة الداعي، رمضان – شوال 1444هـ = مارس – مايو2023م، العدد: 9-10، السنة: 47

Related Posts