بقلم:  الأستاذ محمد يحيى القاسمي(*)

         تشهد المجتمعات الإسلامية احتفالات من الزواج جِدَّ كثير، والزواج أمر محبب لدى الشريعة الإسلامية حيث آثرت وفضلت الحياة العائلية للمسلمين على الحياة لغير العائلية، ومنعتهم عن الرهبانية. ولكن من المؤسف جدًا أن هناك كثيرًا من التقاليد والعادات التي – معظمها ناتج عن اختلاط المسلمين بغيرهم من المواطنين الهندوس – قد تطرقت إلى مثل هذه الاحتفالات والمناسبات مما لا يمتُّ إلى دين الإسلام بصلة، مما شوه صورة الزواج الأصيلة الإسلامية، كما جعله أمرًا مُرهقًا جدًا بعد ما كان هيّنًا ميسورًا في متناول أيدي الجميع – الأمر الذي دعا كاتبَ هذه السطور إلى إعداد المقال حول «الزواج بين اليوم والأمس» يؤكد من خلاله أن الزواج أمر سهل للغاية متيسر للجميع، وأن هذه التقاليد والعادات التي سادت احتفالات الزواج ليست هي من الدين في شيء، وإنما اخترعها وابتكرها أعضاء المجتمع من عند أنفسهم.

         النكاح الذي عبارة عن عقد يملك به الزوج حق الاستمتاع بالمرأة قد ورد بالحث عليه والترغيب فيه كل من الكتاب والسنة، أما الكتاب فقد قال الله عزوجل: ﴿‌وَأَنكِحُواْ ‌ٱلۡأَيَٰمَىٰ ‌مِنكُمۡ وَٱلصَّـٰلِحِينَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَآئِكُمۡۚ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ﴾ (النور:32) وأما السنة فقد قال رسول الله -ﷺ- وهو يحث الشبان المسلمين على الزواج: «يَا مَعشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ استَطَاعَ مِنكُم البَاءَةَ فَليَتَزَوَّج فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلبَصَرِ وَأَحصَنُ لِلفَرَجِ وَمَن لَم يَستَطِع فَعَلَيهِ بِالصَّومِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»(1). وقد حدث ذات مرة أن ثلاثة من أصحاب رسول الله ﷺ – هم علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمرو بن العاص وعثمان بن مظعون – جاؤوا إلى بيوت أزواج النبي ﷺ يسألون عن عبادة النبي ﷺ، فلما أُخبِرُوا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: أين نحن من النبي ﷺ؟ وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا. وقال الآخر: إني أصوم الدهر فلا أفطر، وقال الآخر: إني أعتزل النساء فلا أتزوج. فجاء رسول الله ﷺ إليهم، فقال: أنتم الذين قالوا كذا وكذا. أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له(2). ولكني أصلي وأرقد، أصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني. نهى رسولنا الكريم ﷺ عثمان بن مظعون عن التبتل عندما عمد عثمان بن مظعون إلى ذلك حتى لا يحتاج إلى الزواج فيتفرغ للعبادة بمعناه الكامل(3).

         ووفقًا لما صرح به كل من الكتاب والسنة من أن النكاح الذي شرعه ديننا: الإسلام كثير الأهداف والمقاصد غير أن ثلاثة منها هامة رئيسة تستحق الذكر: الأول منها: الاستعفاف والتحصن من الفواحش، وذلك من الوضوح بمكان لا يحتاج إلى بيان أو دليل، ومع ذلك أقول لكم بأن رسولنا الكريم ﷺ قال: «مَنِ استَطَاعَ مِنكُم البَاءَةَ فَليَتَزَوَّج فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلبَصَرِ وَأَحصَنُ لِلفَرَجِ». والثاني منها: الهدوء والراحة في الحياة، الذي يتمتع به كل من الزوجين الصالحين بالآخر بالزواج الحلال؛ على أنه من المعلوم لدى كل من له إلمام بالتاريخ الإسلامي أن أبانا آدم عليه الصلاة والسلام كان في الجنة يتمتع ويتلذذ بما فيها من النعم، غير أنه كان يشعر بالوحدة ويعاني الغربة، فخلق الله منه عليه السلام أمّنَا حواء عليها السلام وزوَّجَها إياه، وقال عزوجل: إنما فعلنا ذلك ليسكن آدم إليها. والثالث منها: التوالد والتناسل: ولأجل ذلك دعا رسولنا الكريم ﷺ كل من يرغب في الزواج أن يتزوج بامرأة ودود ولود حتى يتسنى لرسول الله ﷺ المباهاة بكثرة عدد الأمة يوم القيامة على غيره من إخوته من الأنبياء حيث قال: «تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ يَومَ القِيَامَةِ»(4).

         والحياة الإنسانية كريشة لا تبقى على حال، والناس فيما بينهم متفاوتون نظرًا إلى ما يعتريهم من مختلف الأوضاع والأحوال، فقررت الأئمة من الفقهاء للزواج عدة مراتب ودرجات من الفرض والواجب والسنة والكراهية والحرام. والتفصيل لا يسعه هذا المقال الوجيز، وهو مذكور في الكتب الفقهية، من شاء من القراء التفصيل فليراجع ثمّة.

         وأما الأمر فيما يتعلق بطرق النكاح فكانت هي فيما قبل الإسلام أعني في الجاهلية على أربعة أنحاء: ثلاثة منها رفضها الإسلام وأبقى منها على واحدٍ، وهو ما نحن المسلمين عليه اليوم، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «إن النكاح كان في الجاهلية على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته، فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه وليعتزلها زوجها ولا يمسها أبدًا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليالٍ بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت فهو ابنك يا فلان! تسمى من أحبت باسمه فيلحق به ولدها، ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل. والنكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كنَّ ينصبن على أبوابهن أيات تكون علمًا، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعولهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون. فلما بعث محمد ﷺ بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم(5).

         من المعلوم لدى المثقفين أن الزواج من سنن الأنبياء والمرسلين وليست حاجة المرء إلى الزواج – في الواقع – بأقل من حاجته إلى الطعام والشراب، غير أن الطعام والشراب مما يحتاج إليه الإنسان منذ أول يومه، بينما يحتاج المرء إلى الزواج بعد ما يصبح فتى يافعًا تنشأ فيه الرغبة الجنسية التي تتصاعد حدةً على مر الأيام والسنين، ومن الجدير بالذكر أن التأخر في الزواج عن موعده ربما يؤدي بالمرء إلى التورط في الزنا الذي يتصدر الكبائر من الذنوب والآثام، فإنه من الطبيعيّ أن المرء إذا لا يتوفر له ما يشبع رغبته بطريق مشروع يندفع بصورة عفوية إلى طريق لا يرتضيه العقل والشرع كما يتجلى ذلك في كل ما يحتاج إليه الإنسان بطبعه من الطعام والشراب واللباس – فنظرًا إلى ذلك أكدت الشريعة الإسلامية على الزواج كما دَعَت إلى عقده في وقته اللائق المناسب حتى يشكل ذلك سدًا ذريعًا وحصنًا منيعًا دون الفاحشة والدعارة والوقاحة، ويساعد المرء على قضاء الحياة عفيفًا نزيهًا. قال رسول الله ﷺ: إِذَا خَطَبَ إِلَيكُم مَن تَرضَونَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلَّا تَفعَلُوهُ تَكُن فِتنَةٌ فِي الأَرضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ؟(6). وأيضًا قال رسول الله ﷺ: مَن وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ فَليُحسِن اسمَهُ وَليُؤَدِّبَه فَإِذَا بَلَغَ فَليُزَوِّجهُ فَإِن بَلَغَ وَلَم يُزَوِّجهُ فَأَصَابَ إِثمًا فَإِنَّمَا إِثمُهُ عَلَى أَبِيهِ(7).

         والزواج الشرعي من السهولة بمكان يحتاج إلى أربعة أفراد متمثلين في الزوجين والشاهدَين من الرجال ويستغرق نحو أربع دقائق يجري فيها كل من الإيجاب والقبول بينَ الزوجين، على مرأى ومسمع من الشاهدَين. هذا مما لا بد منه للنكاح، وأما ما عداها من حضور القاضي وتوزيع التمور ونحوها بين الحضور وتقديم المهر عاجلاً إلى الزوجة وعقد مأدبة الوليمة فمما لا يتوقف عليه الزواج شرعًا؛ بل يتحقق بدونه أيضًا.

         ثم إن الزواج لم يكن في عهد رسول الله ﷺ كيومنا هذا كثير النفقات والتكلفات حافلاً بالتقاليد والعادات؛ بل يقوم به أصحابه ﷺ بغاية من البساطة والسذاجة بعيدين عن التكلف والسمعة الزائفة. وقد جاء في كتب الأحاديث من القصص ما يدل على أن بعضًا من أصحاب رسول الله ﷺ عقدوا الزواج ولم يخبروا بذلك حتى النبي ﷺ الذي كان أحبَ الناس إليهم.

         فهذا سيدنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه – أحد الأغنياء من الصحابة؛ بل على رأسهم – رأى رسولُنا الكريم ﷺ عليه أثر صفرة، فقال رسول الله ﷺ: ما هذا؟ فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: إني تزوجت امرأة على نواةٍ من ذهب، فقال له رسوله الكريم ﷺ: أولم ولو بشاة(8).

         وهذا جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: كنا مع النبي ﷺ في غزوة فلما قفلنا كنا قريبًا من المدينة فقلت: يا رسول الله! إني حديث عهد بعرس، فقال رسول الله ﷺ: تزوجت؟ فقلت: نعم. قال ﷺ: بكر أم ثيب؟ قلت: بل ثيب. فقال ﷺ: هلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك؟(9)

         وبصدد النكاح كان قد أشار علينا نحن المسلمين رسول النبي ﷺ بأن نفضل الدين على غيره من الحسب والجمال والمال حين اختيار المرأة كزوجةٍ حيث قال ﷺ: تُنكَحُ المَرأَةُ لِأَربَعٍ: لِحَسبِهَا وَلِمَالِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظفَر بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَت يَدَاك(10). وكان أصحاب رسول الله ﷺ يتمسكون بهذا التوجيه النبوي بمعناه الشامل، فحدث أن مرّعمر بن الخطاب رضي الله عنه بعجوز تبيع اللبن مغشوشًا، فقال عمر لها: يا عجوز! لا تغشي الناس ولا تشوبي لبنك بالماء فقالت: سمعًا وطاعةً يا أمير المؤمنين! وبعد أيام مرّ عمر رضي الله عنه بها، فقال لها: يا عجوز! ألم آمرك أن لا تشوبي لبنك بالماء. فقالت: والله ما فعلت يا أمير المؤمين! فتكلمت بنت لها من داخل الخباء وقالت: يا أماه! تغشين المسلمين، وتكذبين على أمير المؤمنين، وتخونين في اليمين، فسمعها عمر رضي الله عنه، فأعجبه قولها وصراحتها في الحق، واختارها زوجة لابنه عاصم، فبارك الله فيها وجعل من ذريتها عمر بن عبد العزيز رحمه الله أعدل خلفاء بني أمية(11).

         وهناك قصة أخرى ممتعة وطريفة جدًا تدل على أن التابعين هم الآخرون الذين كانوا يقومون بالعمل بما نصح به رسول الله ﷺ من تفضيل الدين على غيره في الزواج. وهي أن أبا وداعة يقول: «كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أيامًا، فلما جئته قال: أين كنت؟ قلت: توفّيت أهلي فاشتغلت بها، فقال: هلا أخبرتنا فشهدناها؟ قال أبووداعة: ثم أردت أن أقوم فقال: هلا أحدثت امرأة غيرها. فقلت: يرحمك الله ومن يزوجني ولا أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ فقال: إن أنا فعلت تفعل؟ قلت: نعم، ثم حمد الله تعالى وصلى على النبي ﷺ وزوجني ابنته على درهمين أو قال: ثلاثة. قال أبودواعة: فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح؟ فصرت إلى منزلي، وجعلت أتفكر ممن آخذ وأستدين، وصليت المغرب وكنت صائمًا، فقدمت عشاي لأفطر وكان خبزًا وزيتًا.

         وإذا بالباب يقرع فقلت: من هذا؟ قال: سعيد، ففكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب، فإنه لم يُر منذ أربعين سنة إلا ما بين بيته والمسجد، فقمت وخرجت، وإذا بسعيد بن المسيب، فظننت أنه قد بدا له، فقلت: يا أبا محمد! هلا أرسلت إليّ فآتيك؟ قال: لا، أنت أحق أن تؤتى، قلت: فما تأمرني قال: رأيتك رجلا عزبًا قد تزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك وهذه امرأتك، فإذا هي قائمة خلفه في طوله ثم دفعها في الباب وردّ الباب، فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب، ثم صعدت إلى السطح، فناديت الجيران، فجاؤوني وقالوا: ما شأنك؟ فقلت: زوجني سعيد بن المسيب اليوم ابنته، وقد جاء بها على غفلة وها هي في الدار، فنزلوا إليها.

         وبلغ أمي ذلك فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها ثلاثة أيام. فأقمت ثلاثًا ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظهم لكتاب الله تعالى، وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرفهم بحق الزوج. قال أبووداعة: فمكثت شهرًأ لا يأتيني ولا آتيه ثم أتيته بعد شهر وهو في حلقته فسلمت عليه، فرد علي ولم يكلمني حتى انفض مَن في المسجد فلما لم يبق غيري قال: ما حال ذلك الإنسان؟ قلت: هو على ما يحب الصديق ويكره العدو، قال: إن رابك شيء فالعصا، فانصرفت إلى منزلي، وكانت بنت سعيد المذكورة قد خطبها عبد الملك بن مروان لابنه الوليد حين ولاه العهد فأبى سعيد أن يزوجه(12).

         وأما المسلمون المعاصرون فلم يجعلوا الدين أمرًا مفضلا لديهم في باب النكاح مما جرّ بِهم إلى الويلات والنكبات، فيلاقون – بعد النكاح – أنواعًا منوعة من الصعوبات متمثلة في الشقاق والنزاع والخلاف والطلاق والعنف المستمر والتوتر بلا نهاية والقلق الدائم.

*  *  *

الهوامش:

  • الجامع الصحيح للإمام البخاري2/758.
  • الجامع الصحيح 2/757.
  • الجامع الصحيح 2/759.
  • سنن أبي داود 1/280.
  • الجامع الصحيح للإمام البخاري 2/796.
  • سنن الترمذي 1/207.
  • رواه الإمام البيهقي في شعب الإيمان 11/137.
  • الجامع الصحيح 2/773.
  • الجامع الصحيح 2/760.
  • الجامع الصحيح 2/762.
  • نفحة العرب 21 للشيخ الكيرانوي.
  • مختارات من أدب العربي للندوي 1/100.

*  *  *


(*)         أستاذ الأدب العربي بالجامعة القاسمية شاهي بمدينة مرادآباد.

مجلة الداعي، رمضان – شوال 1444هـ = مارس – مايو2023م، العدد: 9-10، السنة: 47

Related Posts