بقلم:  الدكتور / أحمد عمر هاشم

         إن الإسلام هو دعوة كل الرسل، ويتناول إطلاقه جميع الأديان التي أمر الله تعالى رسله أن يبلغوها للناس، لأنه روحها الكلي، على اختلاف في بعض التكاليف والأعمال وينضوي الإنسان تحت راية الإسلام عندما تصح عقيدته، وتخلص من كل شائبة من شوائب الشرك والنفاق .. ويخلص في إيمانه وعمله لله تعالى.. من أي دين كان، من الإسلام أو الأديان السابقة – وهذا هو المراد بقوله تعالى: ﴿وَمَن ‌يَبۡتَغِ ‌غَيۡرَ ‌ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ﴾ فغير الإسلام بمفهومه القرآني المشرق سم للدين الإلهي الذي جاء به جميع الأنبياء والرسل وانتسب إليه أتباعهم جميعًا. يقول نوح لقومه: ﴿وَأُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ ‌مِنَ ‌ٱلۡمُسۡلِمِينَ﴾، ويوصي يعقوب بنيه قائلا: ﴿فَلَا ‌تَمُوتُنَّ ‌إِلَّا ‌وَأَنتُم ‌مُّسۡلِمُونَ﴾ ويجيب أبناء يقوب أباهم قائلين: ﴿نَعۡبُدُ ‌إِلَٰهَكَ ‌وَإِلَٰهَ ‌ءَابَآئِكَ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ إِلَٰهٗا وَٰحِدٗا وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ١٣٣﴾ ويقول موسى عليه السلام لقومه: ﴿إِن ‌كُنتُمۡ ‌ءَامَنتُم بِٱللَّهِ فَعَلَيۡهِ تَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّسۡلِمِينَ﴾ ويقول الحواريون لعيسى: ﴿ءَامَنَّا ‌بِٱللَّهِ ‌وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ﴾ ويقول بعض أهل الكتاب حين سمع القرآن: ﴿قَالُوٓاْ ‌ءَامَنَّا ‌بِهِۦٓ ‌إِنَّهُ ‌ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إِنَّا كُنَّا مِن قَبۡلِهِۦ مُسۡلِمِينَ﴾.

         وقد وجه القرآن الكريم الأمة الإسلامية إلى بيان هذه الحقيقة في قوله تعالى: ﴿شَرَعَ ‌لَكُم ‌مِّنَ ‌ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِۚ﴾، كما خاطب الله تعالى الرسل جميعا مبينًا أن الإسلام والتوحيد قد أمر به كافة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وكافة الأمم فالملة واحدة، متحدة في أصول الشرائع، لا تتبدل بتبدل العصور، قال تعالى:

         ﴿وَإِنَّ ‌هَٰذِهِۦٓ ‌أُمَّتُكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱتَّقُونِ﴾.

         وتتلخص دعوة الملة القيمة في التوحيد الخالص لله الواحد الأحد، البعيد عن العقائد الزائغة، مع اتباع جميع الأحكام المنوطة بأتباع الإسلام، كما قال تعالى: ﴿وَمَآ ‌أُمِرُوٓاْ ‌إِلَّا ‌لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُواْ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَذَٰلِكَ دِينُ ٱلۡقَيِّمَةِ٥﴾.

         وقال تعالى: ﴿قُولُوٓاْ ‌ءَامَنَّا ‌بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ١٣٦﴾.

         فعلاقة الإسلام إذًا – بالأديان الأخرى علاقة الشيء بنفسه ما دام جوهره هو جوهر كل الرسالات، ودعوة رسوله هي دعوة كل الرسل. وأما ما اختصت به العقيدة الإسلامية الخاتمة من شرائع وأحكام فهذا مدلول معين، كما أن اليهودية مدلول معين على شريعة معينة، والمسيحية كذلك. وعلاقة الإسلام كشريعة للرسول صلوات الله وسلامه عليه بالأديان الأخرى تقوم على أساس تصديق القرآن لما بين يديه من الكتب والهيمنة عليها..

         وهذه العلاقة تأخذ اتجاهين واضحين: الاتجاه الأول: علاقة الإسلام بالشرائع السماوية قبل تطورها وتغييرها. والاتجاه الثاني: علاقته بها بعد تطورها وتغييرها:

         أما عن الاتجاه الأول: فالقرآن جاء مصدقا لما قبله من الكتب، وقد أخذ رب العزة سبحانه على كل نبي إذا جاءه رسول مصدق لما معه أن يؤمن به وينصره.. وتصديق الكتب المتأخرة للمتقدمة لا يعني أنها لا تغير منها شيئا، لا. فهي مع أنها مصدقة لها إلا أنها تغير منها كما حدث أن جاء الإنجيل بتعديل أحكام التوراة، فأعلن عيسى عليه السلام أنه جاء ليحل لبني إسرائيل بعض الذي حرم عليهم.. وأيضا فقد جاء القرآن بتعديل بعض أحكام الإنجيل والتوراة إذ أعلن أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه، جاء ليحل للناس كل الطيبات ويحرم عليهم كل الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم. وليس في هذا تناقض من اللاحق للسابق، ولا إنكار منه له، وإنما هو توافق وتناسب للزمن الذي تعيشه كل أمة، ليتواعم مع ظروفها وطبيعتها وأطوارها المختلفة، فإن الذي يتناسب مع أمة من الأمم في طورها الأول، قد لا يتناسب معها في الطور الثاني، والذي يتناسب معها في الطورين الأولين قد لا يتناسب معها في الطور الثالث وهكذا..

         نعم هناك من الأمور ما تأذن الشريعة اللاحقة بإبقائه واستمراره في نطاق ظروفه السابقة: كالوصايا العشر مثلا، ما عدا الوصية العاشرة التي تحرم العمل يوم «السبت»، فمثل ذلك من التشريعات الخالدة التي لم تتغير بعد.. أما ما هنالك من تشريعات موقتة بآجال طويلة أو قصيرة فهي تنتهي بانتهاء وقتها، وتأتي الشريعة اللاحقة بما يوافق الأوضاع مصداقا لقوله تعالى: ﴿مَا ‌نَنسَخۡ ‌مِنۡ ‌ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ﴾ إذًا ففي كل شريعة من الشرائع عنصران ضروريان للدعوة:

         عنصر مستمر: يربط حاضرها بماضيها.

         وآخر غير مستمر: ويقوم بالتجديد بما يتناسب مع تطورها في كل زمان ومكان.. فمثلا نرى شريعة التوراة تنص ضمن قوانين السلوك الأخلاقي على (النهي عن القتل والسرقة .. الخ) ومن أهم ما تبرزه: طلب العدل والمساواة – ونرى شريعة الإنجيل تقرر هذه المبادئ وتزيد عليها: «لا تراء الناس بفعل الخير» و «أحسن إلى من أساء إليك» وأوضح ما فيها التسامح والإحسان.. فتأتي شريعة القرآن فتقرر المبدأين معا: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان» «وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله» وقال تعالى: ﴿وَإِنۡ ‌عَاقَبۡتُمۡ ‌فَعَاقِبُواْ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦۖ وَلَئِن صَبَرۡتُمۡ لَهُوَ خَيۡرٞ لِّلصَّـٰبِرِينَ﴾.

         وقد أضافت الشريعة الإسلامية كل مكارم الأخلاق، فلم تدع جانبًا من جوانب السلوك في التحية، والاستئذان، والمجالسة، والمخاطبة وما إلى ذلك من الآداب السامية، والأخلاق الرفيعة، كما هو موضح في سورة النور، والحجرات، والمجادلة..

         إذًا فالشرائع كلها بمثابة اللبنات في بناء الدين، ومهمة اللبنة الأخيرة: إكمال البناء وإمساكه، وبلوغه الكمال الخلقي، كما قال عليه الصلاة والسلام:

         «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».. وقد وصف الله تعالى رسوله صلوات الله وسلامه عليه بأكمل وصف، وأعظم خلق إذ يقول سبحانه وتعالى للرسول عليه الصلاة والسلام: «وإنك لعلى خلق عظيم».. ويقول القرآن الكريم في بيان إكمال الدين وإتمام النعمة الإلهية على العباد على يدي خاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليه: ﴿ٱلۡيَوۡمَ ‌أَكۡمَلۡتُ ‌لَكُمۡ ‌دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ﴾. ويوضح الرسول صلوات الله وسلامه عليه موقفه من الأنبياء السابقين عليه كرسول خاتم – فيقول: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا بأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين».

         وأما عن علاقة الإسلام بالأديان السماوية الأخرى بعد تطورها وتغييرها: فقد عرفنا أن القرآن الكريم، جاء «مصدقا» لما بين يديه من الكتب و«مهيمنا» على تلك الكتب، والهيمنة تعني الحراسة الأمينة عليها، والحماية الواعية لها، من الدخيل الذي يدس فيها، ويطرأ عليها، وإبراز ما تدعو إليه الحاجة من حقائق قد أخفيت عنها، وتأييد ما خلده التاريخ من حق وخير.

         وهكذا كانت مهمة القرآن الكريم.. فنفي وجود الأمور الزائدة، وتحدي ادعاء وجودها في الكتب: ﴿قُلۡ ‌فَأۡتُواْ ‌بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾ وإبراز ما أخفوه ﴿يَـٰٓأَهۡلَ ‌ٱلۡكِتَٰبِ ‌قَدۡ ‌جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ كَثِيرٗا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ فعلاقة الإسلام إذا بالأديان الأخرى في طورها الأول علاقة تأييد كلي، وأما في طورها الأخير المتطور فهو تصديق لما بقي من أجزائها الأصلية، وتصحيح لما طرأ من البدع والإضافات الغريبة عنها.

         وقد أمر الإسلام أتباعه بالتعامل الحسن، حتى مع أبعد الأديان عنه، قال تعالى:

         ﴿وَإِنۡ ‌أَحَدٞ ‌مِّنَ ‌ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٱسۡتَجَارَكَ فَأَجِرۡهُ حَتَّىٰ يَسۡمَعَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبۡلِغۡهُ مَأۡمَنَهُ﴾ إن سماحة الإسلام لتنفسح جوانبها، وتمتد ظلال الأمن فيها وارفة فتجير المشرك وتؤويه وتكفل له الأمن، وتقدم له الرشد الناجح، والتوجيه السديد بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن كما قال تعالى: ﴿ٱدۡعُ ‌إِلَىٰ ‌سَبِيلِ ‌رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ﴾ بل وتكفل له الحماية والرعاية والأمان من كل غائلة.. كما ندب الإسلام أتباعه أن يكون موقفهم من غير المسلمين موقف بر ورحمة، وقسط وعدل: ﴿لَّا ‌يَنۡهَىٰكُمُ ‌ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ٨﴾.

         وما أروع قول الرسول صلوات الله وسلامه عليه – يوم الحديبية:

         «والله لا تدعوني قريش إلى خطة توصل بها الأرحام، وتعظم فيها الحرمات إلا أعطيتهم إياها». *  *  *

مجلة الداعي، المحرم-صفر 1444هـ = أغسطس-سبتمبر2022م، العدد: 1-2، السنة: 47

Related Posts