الفكر الإسلامي

بقلم:  الدكتور رشيد كهوس (*)

       يقول الحق جل وعلا: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتٰبَ وَالْحِكْمَـةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلٰلٍ مُبِينٍ﴾ (آل عمران: 164). ويقول الله عز اسمه: ﴿رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيٰتِ اللَّهِ مُبَيِّنٰتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّٰلِحٰتِ مِنَ الظُّلُمٰتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنّٰتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهـٰرُ خٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً﴾ (الطلاق:11).

       فقد أرسل الله تعالى رسوله الكريم ﷺ إلى الإنسانية لكي يتلو عليها آيات الله تعالى ويعلمها الكتاب والحكمة، ويعرض أمام عينيها معجزاته، ولكي يعلم الإنسان ماهيته الحقيقية. وبفضله ومحبته تستطيع البشرية جمعاء أن تتطهر من أرجاس الطبيعة وأدرانها، فتصبح صافية نقية ناصعة البياض، وتسمو من المرتبة الدنيا للجسم والمادة إلى المرتبة العليا لحياة القلب والروح فتسلك الطريق إلى الحياة الأبدية.

       وصدق الله جل ذكره إذ يقول: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلٰمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمٰتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (المائدة:16).

       لقد كان المجتمع العربي قبل الإسلام يجوس في حناديس الظلام؛ فلما أشرق عليه نور الإسلام والنبوة أضاء منه كل شيء…

       «لقد كانت هناك حاجة لشخص ساحر البيان، مؤثر الكلام ليقول للظلم والفساد الذي استشرى في المجتمع «قف!»، كانت الحاجة ملحة وشديدة إلى درجة اهتزت معها الرحمة الإلهية، واستجابت، فأرسلت فخر الكائنات رسولًا.. وبمجيئه تغير كل شيء وتبدل، وتحقق الانقلاب الأعظم…

       وبعد أن كان الزمان والمكان غارقين في الظلام، إذا بثغريهما يفترّان عن بسمة وفرحة بالنور الذي جاء به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم».

       إن العالم الذي بُعث فيه سيدنا رسول محمد ﷺ، عالم أصيب بناؤه بزلزال شديد هزه هزًا عنيفًا، فإذا كل شيء فيه في غير محله، فمن أساسه ومتاعه ما تكسر، ومنه ما التوى وانعطف، ومنه ما فارق محله اللائق به وشغل مكانا آخر، ومنه ما تكدس وتكوم.

       نظر إلى العالم بعين الأنبياء فرأى إنسانا قد هانت عليه إنسانيته، رآه يسجد للحجر والشجر والنهر، وكل ما لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا.

       رأى إنسانًا معكوسًا قد فسدت عقليته، فلم تعد تسيغ البديهيات، وتعقل الجليات، وفسد نظام فكره، فإذا النظري عنده بديهي وبالعكس، يستريب في موضع الجزم، ويؤمن في موضع الشك. وفسد ذوقه فصار يستحلي المر ويستطيب الخبيث، ويستمرئ الوخيم، وبطل حسه فأصبح لا يبغض العدو الظالم، ولا يحب الصديق الناصح.

       رأى مجتمعا هو الصورة المصغرة لعالم، كل شيء فيه في غير شكله أو مكانه، قد أصبح فيه الذئب راعيًا والخصم الجائر قاضيًا، وأصبح المجرم فيه سعيدًا حظيًا، والصالح محرومًا شقيًّا لا أنكر في هذا المجتمع من المعروف، ولا أعرف من المنكر، ورأى عادات فاسدة تستعجل فناء البشرية، وتسوقها إلى هوة الهلاك.

       رأى معاقرة الخمر إلى حد الإدمان، والخلاعة والفجور إلى حد الاستهتار، وتعاطي الربا إلى حد الاغتصاب واستلاب الأموال، ورأى الطمع وشهوة المال إلى حد الجشع والنهامة، ورأى القسوة والظلم إلى حد الوأد وقتل الأولاد.

       رأى ساسة اتخذوا بلاد الله دولًا، وعباد الله خولاً، ورأى أحبارًا ورهبانًا أصبحوا أربابًا من دون الله، يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله.

       رأى المواهب البشرية ضائعة أو زائغة لم ينتفع بها ولم توجه التوجيه الصحيح، فعادت وبالًا على أصحابها وعلى الإنسانية، فقد تحولت الشجاعة فتكًا وهمجية، والجود تبذيرًا وإسرافًا، والأنفة حمية جاهلية، والذكاء شطارة وخديعة، والعقل وسيلة لابتكار الجنايات، والإبداع في إرضاء الشهوات.

       رأى أفراد البشر والهيئات البشرية كخامات لم تحظ بصانع حاذق، ينتفع بها في هيكل الحضارة، وكألواح الخشب لم تسعد بنجار يركب منها سفينة تشق بحر الحياة.

       رأى الأمم قطعانًا من الغنم ليس لها راع، والسياسة كجمل هائج حبله على غاربه، والسلطان كسيف في يد سكران يجرح به نفسه، ويجرح به أولاده وإخوانه.

       إن كل ناحية من نواحي هذه الحياة الفاسدة تسترعي اهتمام المصلح وتشغل باله، فلو كان رجل من عامة رجال الإصلاح لتوفر على إصلاح ناحية من نواحيها، وظل طول عمره يعالج عيبًا من عيوب المجتمع ويعانيه، ولكن نفسية الإنسان معقدة التركيب، دقيقة النسج، كثيرة المنافذ والأبواب، خفية التخلص والتنصل، وإنها إذا زاغت أو اعوجت لا يؤثر فيها إصلاح عيب من عيوبها وتغيير عادة من عاداتها، حتى يغير اتجاهها من الشر إلى الخير ومن الفساد إلى الصلاح، وكل داء من أدواء المجتمع الإنساني وكل عيب من عيوب الجيل الحاضر يتطلب إصلاحه حياة كاملة، ويستغرق عمر إنسان بطوله، وقد يستغرق أعمار طائفة من المصلحين ولا يزول.

       ولم يكن صلى الله عليه وسلم من عامة المصلحين الذين يأتون البيوت من ظهورها، أو يتسللون إليها من نوافذها، ويكافحون بعض الأدواء الاجتماعية والعيوب الخلقية فحسب، فمنهم من يوفق لإزالة بعضها مؤقتًا في بعض نواحي البلاد، ومنهم من يموت ولم ينجح في مهمته.

       أتى النبي صلى الله عليه وسلم بيت التغيير من بابه، ووضع على قفل الطبيعة البشرية مفتاحه، وذلك القفل المعقد الذي أعيا فتحه جميع المصلحين في عهد الفترة، وكل من حاول فتحه من بعده بغير مفتاحه. ودعا الناس إلى الإيمان بالله وحده، وبرسالة القرآن ونبوته، وباليوم الآخر والبعث والنشور، ورفض عبادة الأصنام والأوثان واتباع الطاغوت.

       لكن المجتمع الجاهلي فهم دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومراميها، وما غُمَّ على أهله أمرها، وأدركوا – عندما قرع أسماعهم صوت الداعي إلى الحق بإذن ربه- أن دعوته صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان بالله الواحد الأحد سهم مسدَّد إلى كبد الجاهلية ونعي لها، فقامت قيامة الجاهلية ودافعت عن وثنيتها دفاعها الأخير، وقاتلت في سبيل الاحتفاظ بها قتال المستميت، وأجلبت على الداعي صلى الله عليه وسلم بخيلها ورجلها، وجاءت بحدها وحديدها: ﴿وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلىٓ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْاٰخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾ (سورة ص:6-7). ووجد كل ركنٍ من أركان هذه الحياة ومن أثافي الجاهلية نفسه مهددًا وحياته منذرة، وكان ذلك آية توفيق رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه أصاب الغرض، وضرب على الوتر الحساس، وأصاب الجاهلية في صميمها، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم على دعوته ثباتا دونه ثبوت الراسيات، لا يثنيه أذًى، ولا يلويه كيد، ولا يلتفت إلى إغراء.

       مكث رسول الله ﷺ ثلاثة عشر عامًا يدعو إلى الله وحده والإيمان برسالته واليوم الآخر في كل صراحة، لا يستسلم ولا يلوّح ولا يلين، ولا يستكين ولا يحابي ولا يهادن ويرى في ذلك دواء لكل داء.

       وقامت قريش وصاحوا به من كلّ جانب، ورموه عن قوس واحدة، وأضرموا البلاد عليه نارًا ليحولوا بينه وبين أبنائهم وإخوانهم وعشيرتهم، فأصبح الإيمان به والانحياز له جد الجد، لا يتقدم إليه إلا جاد مخلص هانت عليه نفسه، وعزم على أن يقتحم لأجله النيران، ويمشي إليه ولو على حسك السعدان، فتقدم فتية من قريش لا يستخفهم طيش الشباب، ولا يستهويهم مطمع من مطامع الدنيا، إنما همهم رضا الله والدار الآخرة، وبغيتهم النظر إلى وجه الله الكريم يوم لا ينفع مال ولا بنون، سمعوا مناديًا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فضاقت عليهم الحياة الجاهلية بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وقلقت بهم مضاجعهم، فكأنهم على الحسك، ورأوا أنهم لا يسعهم إلا الإيمان بالله ورسوله فآمنوا وتقدموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بلدهم وبين سمعهم وبصرهم فكانت رحلة طويلة شاقة لما أقامت قريش بينه وبين قومه من عقبات كأداء، ووضعوا أيديهم في يديه وأسلموا أنفسهم وأرواحهم إليه، وهم من حياتهم على خطر، ومن البلاء والمحنة على يقين، سمعوا القرآن بقوله تعالى وتقدس: ﴿الٓمٓ * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكٰذِبِيْنَ﴾ (العنكبوت:1-3). وسمعوا قوله عز اسمه: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَآ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ (البقرة:214). فما كان من قريش إلا ما توقعوه، وقد نثرت كنانتها، وأطلقت عليهم كل سهم من سهامها، فما زادهم كل هذا إلا ثباتًا وعزمًا وحبًا وتجلدًا، وقالوا: ﴿هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ (الأحزاب:22). ولم يزدهم هذا الابتلاء في الدين إلا متانة في عقيدتهم وثباتًا على مبادئهم وحمية لدينهم ومقتًا للكفر وأهله، وإشعالاً لعاطفتهم وتمحيصًا لنفوسهم ، فأصبحوا كالتبر المسبوك واللجين الصافي، وخرجوا من كل محنة وبلاء خروج السيف بعد الجلاء.

       هذا وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يغذّي أرواحهم بالقرآن ويربي نفوسهم بالإيمان، ويخضعهم أمام رب العالمين خمس مرات في اليوم عن طهارة بدن، وخشوع قلب، وخضوع جسم، وحضور عقل، فيزدادون كل يوم سمو روح ونقاء قلب ونظافة خلق وتحررًا من سلطان الماديات ومقاومة للشهوات، ونزوعًا إلى رب الأرض والسماوات، ويأخذهم بالصبر على الأذى، والصفح الجميل وقهر النفس، ويقهر صلى الله عليه وسلم طبيعتهم الحربية التي جبلوا عليها، ويكبح نخوتهم العربية، ويقول لهم: ﴿كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلٰوةَ﴾ فانقهروا لأمره وكفوا أيديهم، وتحملوا من قريش ما تسيل منه النفوس في غير جبن وفي غير عجز، ولم يسجل التاريخ حادثة دافع فيها مسلم في مكة عن نفسه بالسيف مع كثرة الدواعي الطبيعية إلى ذلك وقوتها، وذلك غاية ما روي في التاريخ من الطاعة والخضوع، حتى إذا تعدت قريش في الطغيان، وبلغ السيل الزبى أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه ╚ بالهجرة: وهاجروا إلى المدينة وقد سبقهم إليها الإسلام.

       والتقى أهل مكة بأهل المدينة، لا يجمع بينهم إلا الدين الجديد وحب النبي الأمين ﷺ. فكان أروع منظر شهده التاريخ لسلطان الدين وسلطان الحب. وكان الأوس والخزرج لم ينفضوا عنهم غبار حرب بعاث. ولا تزال سيوفهم تقطر دما. فألَّف الإسلام بين قلوبهم، ولو أنفق أحد ما في الأرض جميعا ما ألف بين قلوبهم. ثم آخى رسول الله ﷺ بينهم وبين المهاجرين. فكانت أخوة تزري بأخوة الأشقاء، لم يعرف التاريخ لها مثيلا.

       كانت هذه الجماعة التي أنشئت حديثًا –والمؤلفة من المهاجرين والأنصار- نواة للأمة الإسلامية الكبيرة خير أمة أخرجت للناس، ودعامة كبيرة للإسلام، فكان ظهورها في هذه اللحظة الحالكة وقاية للعالم كله من الانحلال الذي كان يهدده، ومن الوثنية التي ارتمى في أحضانها. وعصمة للإنسانية من الفتن والأخطار التي أحدقت بها. لذلك قال الله تعالى لما حض على الأخوة والألفة بين المهاجرين من أهل مكة والأنصار من أهل المدينة: ﴿إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ (سورة الأنفال:73).

       إن هذا الإيمان بالله تعالى ورسوله العظيم ﷺ واليوم الآخر والإسلام لله ولدينه، أقام عوج الحياة ورد كل فرد في المجتمع البشري إلى موضعه، لا يقصر عنه ولا يتعداه، وأصبحت الهيئة البشرية طاقة زهر لا شوك فيها، أصبح الناس أسرة واحدة أبوهم آدم، وآدم من تراب، وأمهم حواء، لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى(1).

       وهكذا حققت الدعوة النبوية تغييرًا جذريًا في كل شيء، وانتقلت بالإنسانية من عالم الظلمة إلى عالم النور، ومن ضيق الدنيا إلى رحاب الآخرة وسعتها، ومن جور الأوثان والطغيان إلى عدل الإسلام والإيمان.

———————–

(1)    ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، أبو الحسن الندوي، ص139 وما بعدها.

*  *  *


(*)   أستاذ ومنسق فريق البحث في السنن الإلهية بكلية أصول الدين بـ«تطوان» جامعة عبد المالك السعدي، المغرب.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالحجة 1439 هـ = أغسطس – سبتمبر 2018م ، العدد : 12 ، السنة : 42

Related Posts