كلمة العدد

       قد فَضَّلَ الله تعالى أبناء آدم على جميع الخق وبعضَ أفراد بني البشر على بعض لحكمة يعلمها ولا نعلمها نحن، فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَا هُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا﴾ (الإسراء:70) وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى﴾ (الإسراء:55) وقال تعالى:  ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ (البقرة:253) وكذلك فَضَّلَ بعض الأمكنة على أخرى، كما فَضَّلَ مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس على سائر الأمكنة، وكذلك فَضَّلَ شهر رمضان على جميع الشهور، وليلة القدر على غيرها من الليالي، والليالي العشر من مستهل ذي الحجة على غيرها من الليالي، ويوم الجمعة على غيره من أيام الأسبوع.

       فأول فضيلة يمتاز بها شهر رمضان عن الشهور الأخرى، أنه قد أنزل فيه القرآن، فقال تعالى:

       ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(البقرة:185).

       ورمضانُ هو الشهر التاسع من الشهور الهجرية الإسلامية، وهو شهر الصيام والقيام، وهو شهر يحل فيه ليلة القدر في الأغلب، وصيام هذا الشهر هو ركن من أركان الإسلام الأربعة، وهو فرض عين على المسلمين.

       و من فضائل شهر رمضان أنه تُفْتَح فيه أبواب السماء وأبواب الجنة وتغلق فيه أبواب جهنم، وتُصَفَّد فيه الشياطين. قال الرسول – صلى الله عليه وسلم -:

       «إذا دخل شهر رمضان فُتِّحَتْ أبواب السماء، وغُلِّقَتْ أبوابُ جهنم، وسُلْسِلَت الشياطين» (البخاري عن أبي هريرة:1899).

       وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إذ كان أول ليلة من شهر رمضان، صُفِّدَت الشياطين ومَرَدَة الجن، وغُلِّقَت أبواب النار، فلم يُفْتَح منها باب، وفُتِحَت أبواب الجنة، فلم يُغْلَق منها باب، وينادي مُنَادٍ كلَّ ليلة: يا باغيَ الخير أقبل ويا باغيَ الشرّ أقصر، ولله عتقاء من النار. وذلك كل ليلة» (الترمذي:682).

       وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «أتاكم شهر رمضان: شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامَه، تُفْتَحُ فيه أبواب الجنة، وتُغْلَق فيه أبواب الجحيم، وتُغَلُّ فيه مَرَدَة الشياطين، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرِمَ خيرَها فقد حُرِمَ» (النسائي:2106).

       و من فضائله أنه يُكَفِّر الذنوب، فعن عماربن ياسر – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – صعد المنبرَ، فقال: «آمين، آمين، آمين». ثم قال: «من أدرك والِدَيه أو أحَدهما، فلم يُغْفَر له، فأبعده الله، قولوا: آمين. ومن أدرك رمضانَ، فلم يُغْفَرْ له، فأبعده الله، قولوا: آمين. ومن ذُكِرْتُ عنده، فلم يُصَلِّ عليَّ، فأبعده الله، قولوا: آمين، (الحافظ ابن شاهين في فضائل رمضان:20).

       وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – جاء فصعد المنبر، فقال: «آمين» ثم قال: «آمين» ثم قال: «آمين». قال: أتاني جبريل، فقال: من ذُكِرْتَ عنده فلم يُصَلِّ عليك، فدخل النار، فأبعده الله، فقلتُ: «آمين». ومن أدرك أحد والِدَيه، فدخل النارَ، فأبعده الله، فقلتُ: «آمين». ومن أدرك رمضان، فلم يُغْفَرْ له، فأبعده الله، فقلتُ: «آمين». (الحافظ ابن شاهين في فضائل رمضان: 3).

       و من فضائله أنه تحل فيه – كما ذكرنا – في الأغلب ليلة القدر، وهي الليلة العظيمة الجليلة التي لا تعدله أي ليلة من ليالي السنة، وقد وصفها الله تعالى بأنها خير من ألف شهر فقال عز وجل:

       ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ (القدر:1-5).

       وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -:

       «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه» (البخاري عن أبي هريرة:1901).

       و من فضائله أنه يُكَفِّر الخطايا إذا اجتنب المخطئ الكبائرَ، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -:

       «الصلواتُ الخمسُ، والجمعةُ إلى الجمعة، ورمضانُ إلى رمضان مُكَفِّرات ما بينهن إذا اجتنبَ الكبائر» (مسلم عن أبي هريرة:233).

       و من فضائله أن العمرة فيه تعدل حَجَّةً، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إن الحج والعمرة لِمَن في سبيل الله، وإن عمرة في رمضان تعدِل حَجَّةً» (مسند أحمد:2728). وفي رواية عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لامرأة من الأنصار: «ما مَنَعَكِ أن تحجي معنا؟». قالت: لم يكن لنا إلا ناضحان، فحج أبو ولدها وابنها على ناضح، وترك لنا ناضحًا ننضح عليه. قال: «فإذا جاء رمضان فاعتمري؛ فإن عمرة فيه تَعْدِل حَجَّةً» (صحيح مسلم: 1256) وفي رواية لمسلم: «حجةً معي». والناضح هو البعير يسقون عليه.

       و من فضائله أن الاعتكاف فيه يُضَعِّف الله أجره، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفّاه الله، فعن عائشة – رضي الله عنها – :

       «أن النبي – صلى الله عليه وسلم -: كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، حتى توفّاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده» (البخاري:2026).

       و من فضائله أن الصائم فيه يضاعف أجره إلى ما لايعلم حَدَّه إلّا الله تعالى. قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «كلُّ عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به» (البخاري: 1761؛ ومسلم: 1946).

       قال ابن حجر – رحمه الله – (773-852هـ = 1372-1449م):

       المراد بقوله: «وأنا أجزي به»: «أني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته». وقال القرطبي – رحمه الله – (600-671هـ = 1214-1272م) معناه أن الأعمال قد كُشِفَتْ مقادير ثوابها للناس، وأنها تُضَاعَف من عشرة إلى سبع مئة إلى ما شاء الله، إلّا الصيام؛ فإنه يثيب عليه بغير تقدير. ويشهد لهذا رواية مسلم (1151) عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «كل عمل ابن آدم يُضَاعَف الحَسَنَةُ عشرُ أمثالها إلى سبع مئة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصومَ فإنه لي وأنا أجزي به» أي أجازي عليه جزاءً كثيرًا من غير تعيين لمقداره، وهذا كقوله تعالى: «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـٰبِرونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ».

       قال الإمام الصنعاني – رحمه الله – (1099-1077هـ = 1687-1768م): «فيه دليل على أن الاعتكاف سنة وَاظَبَ عليها رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وأزواجه من بعده» (سبل السلام:5938).

       وعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان، فاعتكف عامًا، حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين سنة، وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه، قال: «من اعتكف معي، فليعتكف العشر الأواخر، وقد أُرِيتُ هذه الليلة ثم أُنْسيتُها، وقد رأيتُنِي أسجد في ماء وطين من صبيحتها، فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وِتْر. فمطرت السماء تلك الليلة، وكان المسجد على عريش فوقف المسجد فبصرت عيناي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين» (البخاري:2027).

       و من فضائله أن فيه صلاة التراويح التي خلت منه جميع الشهور؛ لأنها إنما تُقَام في ليالي شهر رمضان، وهي من أعظم العبادات وأفضل القربات التي يتقرب بها المسلم إلى الله تعالى. قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى (736-795هـ = 1336-1393م): واعلم أن المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادان: جهاد بالنهار على الصيام، وجهاد بالليل على القيام؛ فمن جمع بين هذين الجهادين وُفِّيَ أجره بغير حساب، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» (البخاري: 37؛ ومسلم: 759).

       قال الإمام النووي رحمه الله (631-676هـ = 1233-1278م):

       «اتفق العلماء على استحباب صلاة التراويح، واختلفوا في أن الأفضل صلاتها منفردًا في بيته أم في جماعة في المسجد؟. فقال الشافعي وجمهور أصحابه وأبو حنيفة وأحمد وبعض المالكية وغيرهم: الأفضل صلاتها جماعة، كما فعله عمر بن الخطاب والصحابة – رضي الله عنهم- واستمر عمل المسلمين عليه» (مرعاة المفاتيح: 4/316).

       وعن أبي ذر – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتِبَ له قيام ليلة» (الترمذي:806).

       إن صلاة التراويح أبرز عبادات شهر رمضان بعد صيامه وبعد تلاوة القرآن، وهي من أعظم مناقب الصالحين وعلامات المتعبدين المتقين.

       و من فضائله أنه شهر الجود ومدارسة القرآن؛ فعن عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما- كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أجودَ الناس. وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريلُ، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسول الله – صلى الله عليه وسلم – أجود بالخير من الريح المُرْسَلَة» (البخاري:3220).

       وتحدث الإمام ابن رجب – رحمه الله – عن حِكَم تضاعف جوده – صلى الله عليه وسلم – في شهر رمضان، فقال:

       «وفي تضاعف جوده –  صلى الله عليه وسلم – في شهر رمضان بخصوصه فوائد كثيرة.

       • منها: شرف الزمان ومضاعفة أجر العمل فيه. وفي شعب الإيمان: (3539) عن أنس مرفوعًا: أفضل الصدقة صدقة رمضان.

       • ومنها: إعانة الصائمين والقائمين والذاكرين على طاعتهم؛ فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم، كما أن من جَهَّزَ غازيًا، فقد غزا، ومن خلفه في أهله، فقد غزا، وفي حديث زيد بن خالد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – من فَطَّرَ صائمًا، فله مثل أجره من غير أن يَنْقَصَ من أجر الصائم شيئًا (الترمذي في سننه:807).

       • ومنها: أن شهر رمضان، شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار، ولاسيما في ليلة القدر، والله تعالى يرحم من عباده الرحماء، كما قال – صلى الله عليه وسلم -: «إنما يرحم الله من عباده الرحماء» (البخاري: 1284) فمن جاد على عباد الله، جاد الله عليه بالعطاء والفضل. والجزاء من جنس العمل.

       • ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا و اتقاء جهنم، والمباعدة عنها، وخصوصًا إن ضُمَّ إلى ذلك قيامُ الليل؛ فقد ثبت عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «الصيامُ جُنَّة» (البخاري:1894؛ ومسلم:1151) والجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة، كما في حديث علي – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إن في الجنة غُرَفًا يُرَىٰ ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها. قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن طَيَّبَ الكلامَ، وأَطْعَمَ الطعامَ، وأدام الصيامَ، وصَلَّىٰ بالليل والناسُ نِيَامٌ» (الحاكم في المستدرك: 270) وفي رواية: «جُنَّةُ أحدكم من النار كجُنَّته من القتال» (ابن ماجه:1635).

       وهذه الخصال كلها تجتمع في شهر رمضان للمومن، فهو يصوم ويقوم ويتصدق، ويُطيب الكلام؛ فإنه ينتهي فيه عن اللغو، والرفث، والصيامُ والصلاةُ والصدقة توصل صاحبها إلى الله عز وجل.

       قال بعضُ السلف: الصلاةُ توصل صاحبَها إلى نصف الطريق، والصيام يوصله إلى باب المَلِك، والصدقة تأخذ بيده فتدخله على الملك.

       وروى مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «من أصبح منكم اليوم صائمًا؟». قال أبوبكر: أنا. قال: «من تبع منكم اليوم جنازة؟». قال أبوبكر:أنا. قال: «من تصدّق بصدقة؟». قال أبوبكر: أنا. قال: «فمن عاد منكم مريضًا؟». قال أبوبكر: أنا. قال: «ما اجتمعن في امرئٍ إلا دخل الجنة». (البخاري في الأدب المفرد:515).

       وكان أبو الدرداء – رضي الله عنه – يقول: «صَلُّوا في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور، صوموا يومًا شديدًا حَرُّه لِحَرِّ يوم النشور، تَصَدَّقُوا بصدقة لشَرِّ يوم عسير» (شعب الإيمان:3639).

       • ومنها: أن الصيام لابدّ أن يقع فيه خللٌ أو نقص، وتكفيرُ الصيام للذنوب مشروط بالتحفّظ مما ينبغي التحفّظ منه.

       وعامّة صيام الناس لا يجتمع فيه التحفظُ كما ينبغي؛ ولهذا نُهِيَ أن يقول الرجل: صمتُ رمضان كلّه أو قمتُه كله، فالصدقةُ تَجْبُر ما فيه من النقص والخلل؛ ولهذا وجب في آخر شهر رمضان زكاةُ الفطر طهرةً للصائم من اللغو والرفث.

       والصيام والصدقة لهما مدخلٌ في كفّارات الأيمان ومحظورات الإحرام؛ ولهذا كان الله تعالى قد خَيَّرَ المسلمين في ابتداء الأمر بين الصيام وإطعام المسكين، ثم نسخ ذلك، وبقي الإطعام لمن يعجز عن الصيام لكبره.

       • ومنها: أن الصائم يَدَعُ طعامه وشرابه لله؛ فإذا أعان الصائمين على التقوى على طعامهم وشرابهم، كان بمنزلة من ترك شهوةً لله، وآثر بها أو واسَىٰ منه، حتى يكون من أطعم الطعام على حبه، ويكون في ذلك شكر لله على نعمة إباحة الطعام والشراب له، وردّه عليه بعد منعه إيّاه؛ فإن هذه النعمة إنما عرف قدرها عند المنع منها. وسُئِلَ بعض السلف: لِمَ شُرِعَ الصيامُ؟ قال: ليذوق الغنيُّ طعمَ الجوع؛ فلا ينسى الجائعَ» (لطائف المعارف: 1/168، بتغيير يسير).

       وإلى هذه الفضائل كلها، هناك تأثيرات جميلة جدًّا يتركها رمضان على المسلمين مُتَمَثِّلةً في تغيير العادات غير اللائقة والسيئة؛ حيث تستبدلها بأخرى كريمة تُعِين على صنعهم من جديد، وصوغها في بوتقة الشيم الجميلة والعادات الفضيلة، ففي غير رمضان ربما ينام الإنسان نومًا أعشى، دون تقيد بنظام، ولكن رمضان يُعَوِّده نظامًا دقيقا للسهر والنوم ليلًا ونهارًا، فيلتزم به في حياته القابلة، ويُنَظِّم أعمال حياته، تنظيما رتيبًا يضبط عليه الأوقات، فيعود لا يُفْرِط فيها ولا يُفَرِّط، فيُوَفِّرُها عليه لكل عمل، ويؤديه دونما تقصير وإهمال.

       وفي تعويد الصائمين الصبرَ كقيمة فُضْلَىٰ في الحياة ما ينفع في الآخرة كذلك، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (الزمر:10) لأن من يصبر على الجوع والعطش يَعُدْ قادرًا على الصبر على أمور أخرى تقتضى انتظارًا وضبطَ نفس واحتمال سآمة ومسامحةً بمكروه. وذلك كله يُشَكِّل خصلة نبيلة محمودة، من يَتَحَلَّ بها يتخرج إنسانًا مقصودًا لدى الله وخلقه.

       و رمضان يُوَفِّر فرصة ذهبية للتخلي عن الشهوات بأنواعها، والتحلي بالخصال الحميدة بأنواعها؛ حيث يمتنع عن الرفث والفسوق، والسباب والشتم، وشهوات الجسد واللسان، والأذن والعين وجميع الجوارح، وسوء التصرفات، من خلال امتناعه عن نواهي الشريعة، حتى يجيء صيامه مكتملًا من جميع الوجوه، فلا يأكل ولا يشرب، ولا يلامس امرأته، ويضبط بصره وسمعه عن كل ما يحرم النظر إليه، أو سمعه، كما يجتنب الضغائن والأحقاد، والخصامات والنزاعات، فتصفو نفسه، وتتزكى أخلاقه، ويبقى على هذه الخصلة بعد رمضان جانيًا ثماره.

       ولكثرة قراءة ومدارسة القرآن الكريم ليلًا ونهارًا يتعود الصائمُ قراءتَه وتلاوتَه وتدبرَه، فيبقى على ذلك فيما بعد رمضان، فيحظى دائمًا بأجر الله وثوابه، ويجدر بتكريم الله في الدنيا والآخرة. والأمورُ المذكورة كلها مطلوبة في الشريعة.

       فرمضان مدرسة شاملة يتخرج فيها العبد المسلم على الفضائل التي هي من مقرراتها الدراسية العظيمة، التي من استوعبها نجح في الدنيا والآخرة، واستحق مغفرةَ الله ورضوانَه والعتقَ من قِبَله وبفضله من النيران. جعلنا الله وجميع المسلمين من عباده المغفورين المرحومين المُعْتَقِين من النار.

(تحريرًا في الساعة الحادية عشرة من ضحى يوم الجمعة: 27/جمادى الآخرة 1439هـ الموافق 16/مارس 2018م).

نور عالم خليل الأميني

nooralamamini@gmail.com

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1439 هـ = مايو – يوليو 2018م ، العـدد : 9-10 ، السنة : 42

Related Posts