دراسات إسلاميه

بقلم:  عبد الرحمن بن عبد الكريم الزيد

       لقد أعْطى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم للأخلاق منزلَة عالية تمثلت فِي توجيهاته صلى الله عليه وسلم ، وَمَا أعطَاهُ للأخلاق من أهمية، وَمَا بذله فِي سَبِيل ترسيخ الْأَخْلَاق، وغرسها فِي نفوس أَصْحَابه منهجًا رائعًا آتى ثماره وَكَانَ خير مَنْهَج فِي تَقْوِيم السلوك والدعوة لِلْخلقِ الْحسن. يتَمَثَّل ذَلِك فِي الْأُمُور الْآتِيَة:

       أَولا: كَانَ صلى الله عليه وسلم قبل أَن يُوَجه أَصْحَابه إِلَى اتّباع الْخلق الْحسن كَانَ خير قدوة لَهُم فِي ذَلِك فقد كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام قمة سامقة فِي الْأَخْلَاق السامية حَتَّى شهد لَهُ بذلك الْقُرْآن الْكَرِيم قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإنَّك لعلىٰ خلق عَظِيم﴾ [القلم/4] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُم رَسُول من أَنفسكُم عَزِيْزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيْصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رؤوف رَحِيْمٌ﴾ [التوبة/128] فقد أدب الله (نبيه بآداب حَسَنَة، وَجعل لَهُ برحمته هَذِه الْأَخْلَاق الْعَالِيَة ﴿فبمَا رَحْمَة مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُم وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيْظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران/159] وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يَسْتَقِي من الْقُرْآن أخلاقه، فَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا سُئلت عَن خلق رَسُول الله (فَقَالَت: «كَانَ خلقه الْقُرْآن» أخرجه مُسلم(1) وَلَقَد كَانَ يُعَامل جَمِيع النَّاس مُعَاملَة خلقية عالية حَتَّى خَدَمه قَالَ: أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ: «خدمت رَسُول الله عشر سِنِين فَمَا قَالَ لي: أفٍ قطّ، وَمَا قَالَ لشَيْء صَنعته لم صَنعته؟ وَلَا لشَيْء تركته لم تركته؟ وَكَانَ رَسُول الله أحسن النَّاس خلقا، وَلَا مسست خَزًّا وَلَا حَرِيرًا وَلَا شَيْئا كَانَ أَلين من كفِّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا شممت مسكًا قطّ وَلَا عطرًا كَانَ أطيب من عرق النَّبِي» رَوَاهُ مُسلم(2).

       وَكَانَ لهَذِهِ الْأَخْلَاق أثر عَظِيم فِي نفوس أَصْحَابه. فقد شهدُوا لَهُ بِحسن الْخلق واقتفوا أَثَره فِي ذَلِك، عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ قَالَ: لم يكن رَسُول الله فَاحِشا وَلَا متفحشًا وَكَانَ يَقُول: «إنّ من خياركم أحسنكم أَخْلَاقًا» مُتَّفق عَلَيْهِ(3). وَعَن أنس قَالَ: كَانَ رَسُول الله أحسن النَّاس خلقا وَكَانَ لي أَخ فطيم يُسمى أَبَا عُمَيْر لَدَيْهِ عُصْفُور مَرِيض اسْمه النغير فَكَانَ رَسُول الله يلاطف الطِّفْل الصَّغِير وَيَقُول لَهُ: «يَا أَبَا عُمَيْر مَا فعل النغير» أخرجه البُخَارِيّ(4) وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: «ماخُيِّر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بَين أَمريْن إِلَّا اخْتَار أيسرهما مالم يكن إِثْمًا، فَإِن كَانَ إِثْمًا كَانَ أبعد النَّاس عَنهُ، وَمَا انتقم الرَّسُول صلى الله عليه وسلم لنَفسِهِ فِي شَيْء قطّ إِلَّا أَن تنتهك حُرْمَة الله فينتقم، وَمَا ضرب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم شَيْئا قطّ بِيَدِهِ وَلَا امْرَأَة وَلَا خَادِمًا إِلَّا أَن يُجَاهد فِي سَبِيل الله تَعَالَى» مُتَّفق عَلَيْهِ(5).

       وَعَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: «إِن كَانَت الأَمَةُ لتأْخذ بيد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق بِهِ حَيْثُ شَاءَت» رَوَاهُ البُخَارِيّ(6) وَمن المواقف الَّتِي تدل على سمو أخلاقه صلى الله عليه وسلم مارواه مُعَاوِيَة بن الحكم السّلمِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: «بَينا أَنا أُصَلِّي مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذْ عَطَسَ رجل من الْقَوْم. فقلتُ: يَرْحَمْكَ اللهُ، فَرَمَانِي الْقَوْم بِأَبْصَارِهِمْ، فقلتُ: واثُكْلَ أُمَيَاهْ، مَا شأنُكم تنْظرُون إليَّ؟ وَجعلُوا يضْربُونَ بِأَيْدِيهِم على أَفْخَاذهم، فلَمَّا رأيتُهم يُصَمِّتُونَنِي، لكِنِّي سَكَتُّ، فلمّا صلَّى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فبأبي هُوَ وأمِّي مَا رأيتُ معلِّمًا قبلَه وَلَا بعدَه أحسنَ تَعْلِيما مِنْهُ، فواللهِ ماكَهَرَنِي وَلاَ ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي قَالَ: «إنَّ هَذِه الصّلاة لَا يَصِحُّ فِيهَا شَيْء من كَلَام النّاس، إِنَّما هِيَ للتَّسبيح والتَّكبير وَقِرَاءَة الْقُرْآن» أخرجه مُسلم(7) فَانْظُر لحسن الْخلق وَالْحكمَة والرفق فِي التَّوْجِيه من المربي الْعَظِيم صلى الله عليه وسلم ، وَعَن أنس بن مَالك وَأبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِي فَدخل الْمَسْجِد ثمَّ صلى ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي ومحمدًا وَلَا ترحم مَعنا أحدا. فَقَالَ  صلى الله عليه وسلم لقد تحجرت وَاسِعًا ثمَّ لم يلبث أَن بَال فِي طَائِفَة الْمَسْجِد فَقَالَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: مَه مَه! قَالَ: فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «لاتزرموه، دَعوه فَلَقَد بعثتم ميسرين وَلم تبعثوا معسرين» . قَالَ فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَال ثمَّ إن رَسُول الله  صلى الله عليه وسلم دَعَاهُ ثمَّ قَالَ: «إِن هَذِه الْمَسَاجِد لَا تصلح لشَيْء من هَذَا الْبَوْل وَلَا القذر إِنَّمَا هِيَ لذكر الله عز وَجل وَالصَّلَاة وَقِرَاءَة الْقُرْآن»؛ ثمَّ دَعَا بذَنُوب من مَاء فصُبَّ على بَوْله» أخرجه الْجَمَاعَة بِأَلْفَاظ مُتَقَارِبَة(8) وَلَقَد كَانَ لهَذَا التَّعْلِيم الْحَكِيم والمعاملة الْحَسَنَة أَثَرهَا فِي نفس ذَلِك الْأَعرَابِي فها هُوَ يروي قصَّته وَيَقُول كَمَا روى أَبُو هُرَيْرَة قَالَ: يَقُول الْأَعرَابِي بعد أَن فقه: «فَقَامَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَيّ بِأبي هُوَ وَأمي فَلم يسب وَلم يؤنب وَلم يضْرب» أخرجه ابْن مَاجَه(9) هَكَذَا كَانَ تعامله صلى الله عليه وسلم كَانَ أحسن الْخلق خُلقا وأفضلهم تَعْلِيما. روى البُخَارِيّ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: «كنت أَمْشِي مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَعَلِيهِ بُرْد غليظ الْحَاشِيَة فأدركه أَعْرَابِي فَجَذَبَهُ جذبة شَدِيدَة حَتَّى نظرت إِلَى صفحة عاتق رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَقد أثرت بهَا حَاشِيَة الْبرد من شدَّة جذبته ثمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّد، مُرْلي من مَال الله الَّذِي عنْدك، فَالْتَفت إِلَيْهِ رَسُول الله وَضحك وَأمر لَهُ بعطاء» أخرجه البُخَارِيّ(10) هَكَذَا كَانَت أخلاقه صلى الله عليه وسلم وَلَقَد كَانَ لهَذِهِ الْأَخْلَاق الْعَالِيَة أَثَرهَا فِي نفوس أَصْحَابه الَّذين سادوا من بعده الدُّنْيَا بأخلاقهم وَذَلِكَ عِنْدَمَا اقتدوا بِهِ وَسَارُوا على أَثَره.

       ثَانِيًا: جعل الرَّسُول صلى الله عليه وسلم للأخلاق مكانة عالية فِي النُّفُوس فَمن ذَلِك أَن جعلهَا من مَقَاصِد بعثته عَلَيْهِ السَّلَام فقد صحَّ عَنهُ صلى الله عليه وسلم قَوْله: «إِنَّمَا بعثت لأتمم مَكَارِم الْأَخْلَاق»، وَفِي رِوَايَة: «صَالح الْأَخْلَاق» أخرجه الإِمَام مَالك فِي الْمُوَطَّأ وَأحمد فِي مُسْنده وَصَححهُ ابْن عبد الْبر(11)  فَلَقَد علق أَمر الْبعْثَة بتتميم الْأَخْلَاق، وتتميم الْأَخْلَاق لَهُ طريقتان:

          الطَّرِيقَة الأولى: أَن يسْتَبْدل الْخلق الجاهلي بِخلق إسلامي إيماني.

          الطَّرِيقَة الثَّانِيَة: استبدال نِيَّة الخُلق إِن كَانَ الخُلق حسنًا.

       وَمن الْمَعْلُوم أَن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانَت لَهُم أَخْلَاق حَسَنَة كالشجاعة وَالْكَرم وَغَيرهَا وَلَكِن كَانَت مقاصدهم فِيهَا سَيِّئَة، فيقصدون من وَرَاء ذَلِك الْفَخر وَكسب ثَنَاء النَّاس ومدحهم، فجَاء الْإِسْلَام وَغيَّر تِلْكَ الْمَقَاصِد، فَجعل من قَاتل شجاعة فَهُوَ فِي سَبِيل الشَّيْطَان، وَمن قَاتل لتَكون كلمة الله هِيَ الْعليا فَهُوَ فِي سَبِيل الله ويثاب على ذَلِك، وَمن أنْفق ليقال جواد فَهُوَ فِي سَبِيل الشَّيْطَان وَيَأْثَم على ذَلِك، وَمن أنْفق فِي سَبِيل الله نَالَ الْأجر والمثوبة من الله. قَالَ الْبَاجِيّ: كَانَت الْعَرَب أحسن النَّاس أَخْلَاقًا بِمَا بَقِي عِنْدهم من شَرِيعَة إِبْرَاهِيم وَكَانُوا قد ضلوا بالْكفْر عَن كثير مِنْهَا فبُعث صلى الله عليه وسلم ليتم محَاسِن الْأَخْلَاق بِبَيَان مَا ضلوا عَنهُ وَبِمَا قضى فِي شَرعه. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: يدْخل فِيهِ الصّلاح وَالْخَيْر كُله وَالدّين وَالْفضل والمروءة وَالْإِحْسَان وَالْعدْل فبذلك بعث ليتممه(12).

       أَيْضا أخبر صلى الله عليه وسلم أَن أحاسن النَّاس خلقا أقربهم مِنْهُ مَجْلِسا يَوْم الْقِيَامَة. عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِن من أحبكم إِلَيّ وأقربكم مني مَجْلِسا يَوْم الْقِيَامَة، أحاسنكم أَخْلَاقًا. وَإِن أبغضكم إِلَيّ وأبعدكم مني يَوْم الْقِيَامَة الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون» قَالُوا يَا رَسُول الله قد علمنَا الثرثارون والمتشدقون فَمَا المتفيهقون؟ قَالَ: «المتكبرون» رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ حَدِيث حسن(13)  وَكَذَلِكَ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَأْمر بمعاملة النَّاس بالخلق الْحسن ويقرن ذَلِك بالتقوى فَفِي الحَدِيث عَن أبي ذَر ومعاذ بن جبل رَضِي الله عَنْهُمَا عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اتَّقِ الله حَيْثُمَا كنت؛ وأتبع السَّيئَة الْحَسَنَة تمحها، وخالق النَّاس بِخلق حسن» رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح(14) وَقد كَانَ من دُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ أَحْسَنت خلقي فَأحْسن خُلقي» أخرجه الإِمَام أَحْمد بِإِسْنَاد صَحِيح عَن عبد الله بن مَسْعُود(15) وَقد جعل صلى الله عليه وسلم أهل الْأَخْلَاق هم خِيَار النَّاس فَفِي الحَدِيث عَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم «إِن من خياركم أحسنكم أَخْلَاقًا» مُتَّفق عَلَيْهِ(16) كل هَذِه الْأُمُور تدل على المكانة الْعَالِيَة الَّتِي جعلهَا الْإِسْلَام للأخلاق.

          ثَالِثًا: ربط الْإِسْلَام بَين جَمِيع الْعِبَادَات الْمَشْرُوعَة والأخلاق فَالصَّلَاة الْوَاجِبَة جعل الله من مقاصدها النَّهْي عَن الخُلق السَّيئ قَالَ تَعَالَى: «إِن الصَّلَوٰة تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر﴾ [العنكبوت/45]  فالآية تَشْمَل مَا فحش ونكر من القَوْل وَالْفِعْل؛ وَالزَّكَاة الْمَفْرُوضَة إِنَّمَا هِيَ طهرة من أدران الْبُخْل وَالشح وتعويدها على الْإِحْسَان إِلَى الْفُقَرَاء قَالَ تَعَالَى: ﴿خُذ من أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرهُمْ وَتُزَكِّيْهِمْ بِهَا﴾ [التوبة/103]  وَالصَّوْم أَيْضا تَهْذِيب للنَّفس عَن الشَّهَوَات المحظورة وإقرارًا لهـٰذَا الْمَعْنى قَالَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قَول الزُّور وَالْعَمَل بِهِ وَالْجهل فَلَيْسَ لله حَاجَة فِي أَن يدع طَعَامه وَشَرَابه» أخرجه البُخَارِيّ(17) كَذَلِك الْحَج فِيهِ تعويد على الْمعَانِي الخلقية قَالَ تَعَالَى: ﴿الْحَج أشهرٌ مَعْلُومٰت فَمن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَج فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوْقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَج﴾ [البقرة/197].

          رَابِعًا: وَكَذَلِكَ جعل الْإِسْلَام بَين الْإِيمَان والأخلاق علاقَة وَثِيقَة؛ لذَلِك يَقُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: «أكمل الْمُؤمنِينَ إيمانا أحْسنهم خلقا» أخرجه التِّرْمِذِيّ وأبوداود(18) وَقد جعل الرَّسُول صلى الله عليه وسلم كثيرا من الْأَخْلَاق من شعب الْإِيمَان، فَمن ذَلِك الْحيَاء وإماطة الْأَذَى عَن الطَّرِيق يَقُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام «الْإِيمَان بضع وَسَبْعُونَ شُعْبَة فأعلاها شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَدْنَاهَا إمَاطَة الْأَذَى عَن الطَّرِيق، وَالْحيَاء شُعْبَة من شعب الْإِيمَان» أخرجه مُسلم(19). وَقد نفى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم الْإِيمَان عَمَّن سَاءَ خلقه مَعَ جَاره يَقُول: «وَاللَّه لَا يُؤمن قَالَهَا ثَلَاثًا، قيل: من يَا رَسُول الله؟ قَالَ: «من لَا يَأْمَن جَاره بوائقه» أخرجه البُخَارِيّ(20) وَكَذَلِكَ عِنْدَمَا يَأْمر الرَّسُول صلى الله عليه وسلم أَصْحَابه بِأَمْر من أُمُور الْأَخْلَاق فَإِنَّهُ يُقدم لذَلِك بِذكر الْإِيمَان بِاللَّه. فَمن ذَلِك: مَا ورد عَن أَبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم «من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَليُكرم جَاره، وَمن كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَليُكرم ضَيفه» رَوَاهُ مُسلم(21)  وَهَكَذَا نجد أَن الْأَخْلَاق مرتبطة بِالْإِيمَان ارتباطًا قَوِيًا، وَفِي ذَلِك مَا يدل على أهميتها وحرص الْإِسْلَام على ترسيخها.

          خَامِسًا: جعل الرَّسُول صلى الله عليه وسلم لِلْخلقِ منزلَة عالية فِي الْآخِرَة وَذَلِكَ ببيانه لجزيل الْأجر وَالثَّوَاب الَّذِي يحصل عَلَيْهِ صَاحب الْخلق الْحسن. عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: «سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول «إِن الْمُؤمن ليدرك بِحسن خلقه دَرَجَة الصَّائِم الْقَائِم» رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَصَححهُ ابْن حبَان(22) وَفِي رِوَايَة للطبراني عَن أنس: «إِن العَبْد ليبلغ بِحسن خلقه عَظِيم دَرَجَات الْآخِرَة وَشرف الْمنَازل وَإنَّهُ لضعيف الْعِبَادَة»(23)؛ بل قد فسر الرَّسُول صلى الله عليه وسلم البِرّ الَّذِي هُوَ مرتبَة عالية فِي الْعِبَادَة ـ فسره بِحسن الْخلق كَمَا فِي حَدِيث النواس بن سمْعَان رَضِي الله عَنهُ قَالَ: «سَأَلت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن الْبر وَالْإِثْم فَقَالَ: الْبر حسن الْخلق … الخ» أخرجه مُسلم(24) وَإِذا جَاءَ ذكر الموازين ومقادير الْأَعْمَال الصَّالِحَة فللخلق الْحسن قصب السَّبق فِي هَذَا الْبَاب، فقد أخبر الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَن أثقل شَيْء فِي حَسَنَات العَبْد يَوْم الْقِيَامَة هُوَ حسن الْخلق. عَن أَبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ: أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا من شَيْء أثقل فِي ميزَان الْمُؤمن يَوْم الْقِيَامَة من حسن الْخلق وَإِن الله يبغض الْفَاحِش الْبَذِيء» رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ حَدِيث حسن صَحِيح(25) وَإِذا جَاءَ ذكر الْجنَّة وَمَا يؤهل لَهَا وَيُوجب دُخُولهَا وجدت لِلْخلقِ الْحسن قدره ومكانته فَأخْبر عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَن حسن الْخلق من أَكثر مَا يدْخل النَّاس الْجنَّة، وَفِي هَذَا بَيَان لمنزلة الْخلق بَين أَعمال الْآخِرَة عَن أَبى هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن أَكثر مَا يدْخل النَّاس الْجنَّة فَقَالَ: «تقوى الله وَحسن الْخلق» رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح. وَأخرجه أَحْمد، وَصَححهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم(26) وَإِذا تفاخر النَّاس بِمَا أَعْطَاهُم الله من حسب وَنسب وَمَال وبنين فَإِن ماأُعطاه صَاحب الْخلق يفوق ذَلِك فعندما سَأَلَ الصَّحَابَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن خير مَا أُعطي الْإِنْسَان؟ قَالَ: «خلق حسن». أخرجه ابْن مَاجَه عَن أُسَامَة بن شريك بِسَنَد صَحِيح(27).

          سادسًا: بعد هَذَا كُله كَانَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم إِذا رأى فِي أَصْحَابه جنوحًا عَن الْخلق السَّلِيم، قَوَّم ذَلِك وَوجه أَصْحَابه إِلَى مَا يجب أَن يَكُونُوا عَلَيْهِ من أَخْلَاق. فَمن أَمْثِلَة ذَلِك – والأمثلة كَثِيرَة جدًا- عَن الْمَعْرُور بْن سُوَيْد قَالَ: لقِيت أَبَا ذَر بالربذة وَعَليهِ حُلّة وعَلى غُلَامه حُلَّة فَسَأَلته عَن ذَلِك فَقَالَ: إِنِّي ساببت رجلًا فَعَيَّرْته بِأُمِّهِ فَقَالَ لي النَّبِي صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا ذَر أعيرته بِأُمِّهِ؟ إِنَّك امْرُؤ فِيك جَاهِلِيَّة، إخْوَانكُمْ خولكم، جعلهم الله تَحت أَيْدِيكُم فَمن كَانَ أَخُوهُ تَحت يَده فليطعمه مِمَّا يَأْكُل، وليلبسه مِمَّا يلبس، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبهُمْ، فإن كفلتموهم فَأَعِينُوهُمْ» أخرجه البُخَارِيّ(28)  وَعَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: مرّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِامْرَأَة تبْكي عِنْد قبر فَقَالَ: «اتقِي الله واصبري، قَالَت إِلَيْك عني؛ فَإنَّك لم تصب بمصيبتي وَلم تعرفه»، فَقيل: إِنَّه النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَأَتَت بَاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَلم تَجِد عِنْده بوابين. فَقَالَت: لم أعرفك. فَقَالَ: «إِنَّمَا الصَّبْر عِنْد الصدمة الأولى» مُتَّفق عَلَيْهِ(29). وَعَن سُلَيْمَان بن صرد قَالَ: «كنت جَالِسا مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبَّان وَأَحَدهمَا قد احمر وَجهه وَانْتَفَخَتْ أوداجه، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم «إِنِّي لأعْلم كلمة لَو قَالَهَا لذهب عَنهُ مَا يجد، لوقال: «أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم ذهب عَنهُ مَا يجد»، فَقَالُوا لَهُ: إن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: تعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم، فَقَالَ: وَهل بِي من جُنُون» مُتَّفق عَلَيْهِ(30) وَهَكَذَا يتَبَيَّن لنا أَن منهجه صلى الله عليه وسلم فِي التربية وتقويم الْأَخْلَاق أكمل مَنْهَج وأقوم سَبِيل آتى ثماره.

*  *  *

الهوامش:

(1)        أخرجه مُسلم ك: صَلَاة الْمُسَافِرين ب: جَامع صَلَاة اللَّيْل ح746 (1/513) .

(2)        صَحِيح مُسلم ك: الْفَضَائِل ب: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحسن النَّاس خلقا (4/1804) وَانْظُر (4/1814) وَأخرجه التِّرْمِذِيّ (ك: الْبر والصلة ب: مَا جَاءَ فِي النَّبِي 4/368).

(3)        البُخَارِيّ (ك: الْأَدَب ب: حسن الْخلق والسخاء 10/526) وَمُسلم (ك: الْفَضَائِل ب: كَثْرَة صِيَامه ﷺ 4/1810).

(4)        البُخَارِيّ (ك: الْأَدَب ب: الانبساط إِلَيّ النَّاس 10/526) .

(5)        البُخَارِيّ (ك: الْأَدَب ب: قَول النَّبِي ﷺ يسروا وَلَا تُعَسِّرُوا 10/524، 525) وَمُسلم (ك: الْفَضَائِل ب: مباعدته ﷺ للآثام 4/1813) .

(6)        أخرجه البُخَارِيّ ك: الْأَدَب ب: الْكبر (10/489) ح (72: 6) .

(7)        صَحِيح مُسلم (ك: الْمَسَاجِد ومواضع الصَّلَاة ب: تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة (1/381) ح:537.

(8)        البُخَارِيّ (ك: الْوضُوء ب: ترك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالنَّاس الْأَعرَابِي حَتَّى فرغ من بَوْله فِي الْمَسْجِد 1/322) وَأخرجه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي الْبَاب الَّذِي بعده، وَمُسلم (ك: الطَّهَارَة ب: وجوب غسل الْبَوْل وَغَيره من النَّجَاسَات إِذا حصلت فِي الْمَسْجِد 1/236) ح: (284) وَأَبُو دَاوُد (ك: الطَّهَارَة ب: الأَرْض يُصِيبهُ الْبَوْل 1/264 من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَاللَّفْظ لَهُ ح: 380) .

(9)        ابْن مَاجَه (ك: الطَّهَارَة رقم522 وَأحمد حَدِيث رقم (10129)

(10)      البُخَارِيّ ك: اللبَاس ب: البرود والحبرة والشملة (10/275) وَفِي الْأَدَب ب: الْقسم 10/503.

(11)  موطأ مَالك (2/904) والمسند (2/318) وَأخرجه البُخَارِيّ فِي الْأَدَب المفردرقم: (283) وَالْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك (2/613) وَقَالَ: صَحِيح على شَرط مُسلم وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيّ وَصَححهُ ابْن عبد الْبر (التَّمْهِيد 24/333)

(12)  انْظُر التَّمْهِيد لِابْنِ عبد الْبر (24/334)

(13)  أخرجه التِّرْمِذِيّ ك: الْبر والصلة رقم (1941) وَأخرجه أَحْمد فِي الْمسند رقم (2/189) وَحسنه الألباني (الصَّحِيحَة رقم: 791)

(14)      أخرجه التِّرْمِذِيّ ك: الْبر والصلة ب: معاشرة النِّسَاء (4/355ح19870) وَقَالَ: حسن صَحِيح لَكِن الحَدِيث فِيهِ كَلَام أَشَارَ إِلَيْهِ ابْن رَجَب فِي شرح الْأَرْبَعين لَكِن ورد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من وُجُوه أخر ذكرهَا ابْن رَجَب فِي (جَامع الْعُلُوم وَالْحكم ص: 136 الحَدِيث: 18) ويتقوى الحَدِيث بهَا.

(15)  الْمسند رقم (3823) وَصَححهُ أَحْمد شَاكر وَقَالَ الهيثمي: رِجَاله رجال الصَّحِيح غير ابْن الرماح وَهُوَ ثِقَة (مجمع الزَّوَائِد: 10/173) .

(16)  البُخَارِيّ بشرح الْفَتْح (10/456) ك: الْأَدَب ب: حسن الْخلق والسخاء. وَمُسلم (4/1810) ك: الْفَضَائِل ب: كَثْرَة صِيَامه ﷺ.

(17)  صَحِيح البُخَارِيّ بشرح الْفَتْح (4/116) ك: الصَّوْم ب: من لم يدع قَول الزُّور وَالْعَمَل بِهِ فِي الصَّوْم.

(18)  أخرجه التِّرْمِذِيّ كتاب الرَّضَاع ب: مَا جَاءَ فِي حق الْمَرْأَة على زَوجهَا (3/466) ح: 1162 وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه أَبُو دَاوُد ك: السّنة ب: الدَّلِيل على زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه (5/60) ح:4682. وَأخرجه أَحْمد فِي الْمسند (2/250، 472) وَإِسْنَاده حسن وَصَححهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه الْإِحْسَان (2/226 ح479) وَالْحَاكِم (1/3) على شَرط مُسلم واورده الألباني فِي الصَّحِيحَة رقم 751.

(19)  صَحِيح مُسلم ك: الْإِيمَان ب: بَيَان عدد شعب الْإِيمَان (1/63) ح:57.

(20)  صَحِيح البُخَارِيّ بشرح الْفَتْح (10/443) ك: الْأَدَب ب: إِثْم من لَا يَأْمَن جَاره بوائقه.

(21)  صَحِيح مُسلم ك: الْإِيمَان ب: الْحَث على إكرام الْجَار والضعيف وَلُزُوم الصمت (1/68) ح:74.

(22)  أخرجه أَبُو دَاوُد ك: الْأَدَب ب: فِي حسن الْخلق (5/149) ح: 4798 وَأخرجه أَحْمد فِي الْمسند (6/64، 90) وَابْن حبَان كَمَا فِي الْإِحْسَان (2/228 ح: 480) والْحَدِيث فِي إِسْنَاده الْمطلب. يرْوى عَن عَائِشَة وَفِي سَمَاعه مِنْهَا خلاف إِلَّا أَن للْحَدِيث شَاهدا عَن عبد الله بن عَمْرو فِي الْمسند (2/220) وَفِيه ابْن الهيعه وَله شَاهد أخر عَن أبي هُرَيْرَة أخرجه البُخَارِيّ فِي الْأَدَب الْمُفْرد رقم (248) وَصَححهُ الْحَاكِم على شَرط مُسلم (1/60) فَالْحَدِيث حسن بشواهده.

(23)  مُعْجم الطَّبَرَانِيّ (1/754) .

(24)  صَحِيح مُسلم ك: الْبر والصلة ب: تَفْسِير الْبر والاثم (5/1980) ح: 2553.

(25)  التِّرْمِذِيّ ك: الْبر والصلة ب: مَا جَاءَ فِي حسن الْخلق (4/361) رقم (2002) وَأبي دَاوُد ك: الْأَدَب ب: فِي حسن الْخلق (5/149) رقم 4799، وَأحمد (6/446) وَالْبُخَارِيّ فِي الْأَدَب الْمُفْرد رقم 270 وَابْن حبَان فِي صَحِيحه الْإِحْسَان (2/230) رقم: (481) وَإسْنَاد الحَدِيث حسن.

(26)      أخرجه التِّرْمِذِيّ ك: الْبر والصلة ب: مَا جَاءَ فِي حسن الْخلق (4م362) رقم2004 وَأخرجه أبن ماجة ك: الزّهْد ب: ذكر الذُّنُوب رقم (4246) وَأخرجه أَحْمد (2/291) وَابْن حبَان الْإِحْسَان (2/224) وَالْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك (4/324) وَصَححهُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيّ والْحَدِيث إِسْنَاده حسن.

(27)  أخرجه ابن مَاجَه آخر حَدِيث ك: الطِّبّ رقم.3427.

(28)  صَحِيح البُخَارِيّ بشرح الْفَتْح (1/84) ك: الْإِيمَان ب: الْمعاصِي من أَمر الْجَاهِلِيَّة.

(29)  البُخَارِيّ بشرح الْفَتْح (3/148) ك: الْجَنَائِز ب: الْقُبُور ح (1283) وَمُسلم ك: الْجَنَائِز فِي الصَّبْر على الْمُصِيبَة (2/637) ح926.

(30)  أخرجه البُخَارِيّ (ك: الْخلق ب: صفة إِبْلِيس 6/337) وَمُسلم (ك: الْأَدَب ب: فضل من يملك نَفسه عِنْد الْغَضَب4/2015) ح: 2610/2015.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رجب 1439 هـ = مارس – أبريل 2018م ، العدد : 7 ، السنة : 42

Related Posts