إلى رحمة الله
بقلم: رئيس التحرير
nooralamamini@gmail.com
فُجِعَ العالم الإسلامي ولاسيما الأوساط العلمية الدينية في شبه القارة الهندية بوفاة العالم الهندي المحدث البحاثة الفريد الشيخ محمد مصطفى بن عبد الرحمن (المتوفى نحو 1387هـ/ 1967م) بن نور محمد ابن الحاج رستم، الأعظمي المئوي ثم السعودي، التي وقعت بالرياض – المملكة العربية السعودية في نحو الساعة الخامسة والنصف (بالتوقيت السعودي) والثامنة (بالتوقيت الهندي) من صباح يو الأربعاء: 2/ربيع الآخر 1439هـ الموافق 20/ديسمبر 2017م، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون. وكان لدى وفاته في 87 من عمره بالنسبة إلى الأعوام الميلادية، وفي 90 منه بالقياس إلى السنوات الهجرية.
وقد صُلِّي عليه في اليوم نفسه إثر صلاة الظهر في جامع الراجحي بالرياض وتم تورية جثمانه بمقبرة النسيم فيها.
لقد كان الأعظمي علمًا من أعلام السنة النبوية، ومجاهدًا فريدًا في الدفاع عنها، من خلال دراسات علمية موضوعية أفنى فيها كثيرًا من سنوات حياته، وعصر فها جهوده المكثفة، وطَوَّف من أجلها على مكتبات العالم، ودَحَضَ فيها شبهات المستشرقين وغيرهم حول السنة والحضارة الإسلاميّة، بأدلة دامغة لم ينهض لها أحد منهم.
وقام بعمل فريد من خلال إنشائه مركزًا لخدمة السنة على شبكة الإنترنت، وتخزين عدد من كتب السنة فيه، وكانت إنجازاته العلمية متميزة على مستوى العالم، اقتضتها ظروف العصر، وسدّد فيها حاجةَ العصر؛ ولذلك قَدَّرَه العالم الإسلامي تقديرًا بالغًا، وعلى رأسه المملكة العربية السعودية، التي أَكْرَمَتْه بجائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية، عام 1400هـ/1980م، فلم يتمتع بها شخصيًّا، ولم ينفقها على عائلته، وإنما تَبَرَّعَ بها للطلبة النابهين من فقراء المسلمين. وخدمتُه للسنة النبوية لا تقتصر على هذا الجانب، وإنما تتجاوزه إلى اكتشاف لبعض المخطوطات المهمة فيها وتحقيقها ونشرها من دور النشر المعروفة في العالم، إلى جانب تاليف كتب قيمة تخدم السنة من جوانبها المختلفة.
ومن أشهر مُؤَلَّفَاته «دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه» الذي تكررت طبعاته و «منهج النقد عند المحدثين، ونشأته وتاريخه» وألحق به قطعة من مختصر التمييز للإمام مسلم، وصدرت طبعته الأولى عام 1395هـ/1975م، ثم تكررت طبعاته، و «دراسة نقدية لكتاب «أصول الشريعة المحمدية» للمستشرق الألماني «شاخت جوزيف (1902-1969م) وقد صدرت طبعته الإنجليزية الأصلية باسم On Sahacht’s origins of Mohammadan Jurisprudence في كل من «نيويورك» و«بريطانيا» كما نُقِلَ الكتاب إلى التركية، و«كُتَّاب النبي صلى الله عليه وسلم» وقد صدرت طبعته الأولى عام 1394هـ/1974م ثم تكررت طبعاته صادرة عن كل من «بيروت» و«الرياض». كما قام بتحقيق وتعليق وتخريج كتاب «العلل» لعلي بن عبد الله المديني (المتوفى 168هـ) و«السنن الكبرى» للنسائي (المتوفى 303هـ) و«صحيح ابن خزيمة» (المتوفى 311هـ) حيث حَقَّقَه وعَلَّق عليه وخَرَّجَه، وصدرت له طبعات من كل من «بيروت» و«الرياض». و«سنن ابن ماجه» الذي صدر عام 1983م في أربعة مجلدات بتحقيقه وتخريجه. و«مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم» لعروة الزبير (المتوفى 94هـ) وقد قام بتحقيقه وتخريجه، وصدرت له الطبعة الأولى من «الرياض» عام 1981م، وترجمته الأردية من باكستان عام 1987م. وكذلك قام بتحقيق وتخريج وتعليق كتاب «الموطأ» للإمام مالك (المتوفى 179هـ) برواية الليثي، صدرت طبعته الأولى عن مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان الخيرية بـ«أبوظبي» عام 1425هـ. كما ألف كتاب «المحدثون من اليمامة إلى عام 250هـ تقريبًا» وصدرت طبعته الأولى عن «بيروت» عام 1415هـ/1994م. وصد آخر مؤلفاته باسم «النص القرآني الخالد» وهو دراسة مقارنة مصورة لسورة «الإسراء» بين تسعة عشر مصحفًا من منتصف القرن الأول إلى القرن الخامس عشر، وصدرت طبعته الإنجليزية بقلمه كذلك؛ لأنه ألف بنفسه الكتاب باللغتين معًا.
ولم تقتصر إنجازاته العلمية على المؤلفات والدراسات وخدمة السنة النبوية على شبكة الإنترنت؛ بل تَعَدَّتْها إلى التدريس والإفادة العامة لطلبة العلم، حيث قام بتدريس مادة أصول الحديث بكلية الشريعة بجامعة أم القرى بمكة المكرمة في الفترة ما بين 1968-1973م (1388-1393هـ) أي نحو خمس سنوات، ثم تولى التدريس في كلية الشريعة بجامعة الملك سعود بالرياض في الفترة ما بين 1973-1991م (1393-1412هـ) 18 عامًا وقام بتدريس مادة مصطلحات الحديث حيث أحيل إلى المعاش، كما ظل يشغل خلال هذه الفترة التدريسية منصب رئاسة قسم التربية الإسلامية بالجامعة.
كما قام بالتدريس وشغل مناصب مهمة في عدد من الجامعات العالمية، فعمل أستاذًا زائرًا في جامعة «متشجان» (Michijan) في «آن آربر» (Ann Arbor) بالولايات المتحد في الفترة ما بين1401-1402هـ =1981-1982م، و زميلًا زائرًا في كلية «سنت كروس» في جامعة «أوكسفورد» بالمملكة المتحدة عام 1987م (1407-1408هـ)، وأستاذًا زائرًا بجامعة «كولو رادو» (Colorado) في «بولدر» (Boulder) بأمريكا في الفترة ما بين 1989-1991م(1401-1412هـ)، وعمل أستاذًا زائرًا لكرسي الملك فيصل للدراسات الإسلامية في جامعة «برنستون» (Princeton) بالولايات المتحدة عام 1992م (1412-1413هـ)، وأستاذًا فخريًّا بجامعة «ويلز» بالمملكة المتحدة، وعضوًا في لجنة الترقية(Promotion Committee) بجامعة «ماليزيا».
الفقيد الغالي الدكتور محمد مصطفى الأعظمي وُلِدَ بوطنه مدينة «مئوناث بهانجان» – التي كانت مدينة من مدن مديرية «أعظم جراه» الشهيرة بإنجاب عباقرة الرجال في كل علم وفن، ثم استقلت عنهامديريةً عام 1988م – التي أنجبت كثيرًا من العظماء والأعلام الذين اشتهروا بإنجازاتهم العلمية على مستوى العالم، وكان آخرهم العلّامة المحدث المحقق أبو المآثر حبيب الرحمن الأعظمي رحمه الله (1319-1412هـ = 1901-1992م) ويليه في العلم والفضل والسمعة العالمية دكتورنا مصطفى الأعظمي الذي ولد عام 1930م (1349هـ) بحي «كياري توله» المدعوة كذلك بـ«بوره نظام الدين» بمدينة «مئو». كان والده الشيخ عبدالرحمن بن نور محمد بن الحاج رستم عالمًا دينيًّا صالحًا، وقد ماتت عنه – محمد مصطفى الأعظمي – والدته التي كانت زوجةَ والده الثانية وهو صبيٌّ في نحو السنة الرابعة من عمره، فلم تلتقط ذاكرتُه صورةً عنها، وبذلك حُرِمَ حنانَ الأم وهو لَدْنُ العود في هذا العمر المُـبَكِّر الذي يكون الوليد فيه أَحْوَجَ ما يكون إلى الحنان الأمي الذي لا يَعْدِلُه أي قدر من الحبّ والعطف الذي يبذله كل إنسان في الدنيا، حتى العطف الأبوي لا يسدّ مسدَّه في الكيفية العميقة اللطيفة الدقيقة التي تُمَثِّل فارقًا أساسيًّا بين الحنان الأمي والعطف الأبوي؛ من ثم فَضَّلَ النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم مكانةَ الأم على مكانة الأب؛ فقد قدم رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن أحق الناس بصحبته، فقال: يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟. قال: «أمك» قال: ثم من؟. قال: «أمك» قال: ثم من؟. قال: «أبوك» (البخاري:5971؛ ومسلم: 2548) ومن الأحاديث الدالة على مكانة الأم، قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أردتُ أن أغزو، وقد جئتُ أستشيرك، فقال: «هل لك من أم؟». قال: نعم. قال: «فَالْزَمْهَا؛ فإن الجنة عند رجليها» (النسائي:3104).
ولكنّ الله عزّ وجلّ من سنته أنه إذا أصاب عبدًا بخسارة، عَوَّضه عنها بربح يكون أكثر منها في الكم والكيف، ويُنْسِيها الألمَ الذي يَلْحَقُه منها – الخسارة – ويضمن له مسرة لا تنتهي بالموت وإنما تمتدّ إلى ما بعد الموت متمثلة بإذنه تعالى في تزحزحه عن النار ودخوله الجنة، وتلك هي الجائزة الغالية التي تفديها كل خسارة تلحق الإنسان في الدنيا الفانية.
تَوَلَّى أبوه الشيخ عبد الرحمن تربيته، وأحسنها، ومنحه من العطف ما خَفَّفَ عنه بعضَ الشيء الشعور بالأسى القاسي الذي تركه انحسارُ ظلّ أمه عن رأسه في الطفولة البريئة، فكان له أبوه من بعد موت أمه بمنزلة الأم والأب معًا؛ ولكن والدته الثالثة – زوجة والده الثالثة – لم تُؤَدِّ دور الأم بأي من تصرفاتها الأسرية وإنما أساءت معه المعاملة، ولم تتصرف معه بالسلوك الذي كان يقتضيه منها شقاؤه بوفاة أمه في طفولته المبكرة التي فَجَعَتْه ولاسيّما عندما بدأ يشعر ويعي ويشدو من المعرفة بالحياة والناس.
وبدأ بتوفيق الله وتوجيه والده بالتعلم بدءًا من الكُتَّاب، واجتاز مراحل الروضة والابتدائية حسب المنهج الدراسي العصري بمدرسة عصرية إنجليزية كائنة بمقربة من حيّه، والمرحلة المتوسطة بمدرسة متوسطة بحي «هركيشا بوره» في الفترة ما بين 1941-1943م (1360-1362هـ) ثم ترك التعليم العصري الإنجليزي على توجيه من والده إلى التعليم الديني الذي بدأ يتلقاه في مدرسة «دارالعلوم» بمدينة «مئو» التي انتسب إليها عام 1944م (1363هـ) ومكث بها إلى شعبان عام 1362هـ الموافق يونيو 1947م وأنهى فيها المرحلة المتوسطة حسب المنهج الدراسي النظامي الذي تتبعه في الأغلب المدارس والجامعات الإسلامية في شبه القارة الهندية، وكان من أساتذته الكبار بها المدرس المتقن والخطيب البارع الرقيق القلب والمرقق للقلوب فضيلة الشيخ المقرئ رئاست علي البحري آبادي ثم المئوي رحمه الله (1313-1392هـ = 1895-1975م) والشيخ المفتي نظام الدين المئوي رحمه الله (1328-1421هـ = 1910-2000م) والشيخ محمد أمين الأدروي رحمه الله (1314-1399هـ = 1896-1979م) والشيخ إسلام الحق الكوباكنجي رحمه الله (1322-1392هـ = 1904-1972م) والشيخ عبد الرشيد الحسيني المئوي رحمه الله (نحو 1320-1402هـ = نحو 1902-1982م) والشيخ محمد سليم الكوباكنجي رحمه الله المتوفى 1382هـ/1962م، ثم اتجه إلى مدرسة أكبر منها معروفة بـ«الجامعة القاسمية مدرسة شاهي» بمدينة «مراد آباد» بولاية «أترابراديش» حيث التحق بها، عام 1366هـ/1947م.
ولكنه بسبب أو آخر غادرها خلال العام الدراسي المذكور إلى الجامعة الإسلامية الأم في شبه القارة الهندية المعروفة بـ«دارالعلوم/ديوبند» حيث مكث بها يستعدّ للالتحاق بها رسميًّا في بداية العام الدراسي 1367-1368هـ (1948-1949م) فاستكمل إجراءات الالتحاق بها في 27/شوال 1367هـ (5/أغسطس 1948م) وبدأ دراسته بالجامعة بدراسة الكتب التالية: الجزء الأول والثاني من كتاب «الهداية» في الفقه، و«مختصر المعاني» في المعاني والبيان، و«الميبذي» في الفسلفة القديمة، و«المقامات الحريرية» في الأدب العربي، و«الحسامي» في أصول الفقه، و«السراجي» في الفرائض، و«مُلَّاحسن» أي الحاشية الزيدية على الرسالة القطبية في المنطق، علمًا بأن الدراسة بالجامعة كانت غير مضبوطة بالصفوف، وإنما كان التركيز على الكتب والموادّ، التي كانت مُمَنْهَجَة، فلا يُسْمَح للطالب أن يدرس الكتب المُحَدَّدَة ذات المستوى الأعلى إلّا إذا أنهى دراسة الكتب التي دونها، وكان مُلْزَمًا بدراسة جميع المقررات الدراسية قبل الصف النهائي المعروف بـ«دورة الحديث».
ومكث بالجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ديوبند خمس سنوات متصلة في الفترة ما بين 1367-1371هـ (1948-1952م) وكان من أساتذته في «دورة الحديث» أعلام العلماء والمشايخ باجامعة، وعلى رأسهم العالم العامل المجاهد المناضل الكبير ضد الاستعمار الإنجليزي فضيلة الشيخ السيد حسين أحمد المدني رحمه الله (1295-1377هـ = 1879-1957م) الذي قرأ عليه صحيح البخاري وجامع الترمذي، والشيخ الصالح الجليل فضيلة الشيخ محمد إعزاز علي الأمروهوي رحمه الله (1300-1374هـ = 1882-1954م) الذي قرأ عليه سنن أبي داود والشمائل المحمدية للترمذي، والعالم الذكي النابعة العلامة محمد إبراهيم البلياوي رحمه الله (1304-1387هـ = 1886-1967م) الذي قرأ عليه صحيح مسلم، والشيخ المفتي السيد مهدي حسن الشاهجهانبوري رحمه الله (1301-1396هـ = 1884-1976م) الذي قرأ عليه معاني الآثار للطحاوي، والشيخ فخرالحسن المراد آبادي رحمه الله (1323-1400هـ = 1905-1980م) الذي قرأ عليه سنن النسائي وموطأ الإمام محمد، والشيخ ظهور أحمد الديوبندي رحمه الله (1318-1383هـ = 1900-1963م) الذي قرأ عليه سنن ابن ماجه وموطأ الإمام مالك.
وبما أنه كان مجتهدًا في الدراسة إلى ذكائه اللاقط، نال في كتب الحديث المذكورة علامات ممتازة، ونجح في الامتحان النهائي بالدرجة الأولى والمركز الأول، إذ حظي من العلامات في كل كتاب بما يلي:
صحيح البخاري: 50، جامع الترمذي: 51، سنن أبي داود: 47، شمائل الترمذي: 45، صحيح مسلم: 52، معاني الآثار: 51، سنن النسائي: 50، موطأ محمد: 50، موطأ مالك: 51، سنن ابن ماجه:49.
وخلال دراسته بالجامعة ظلّ يتعلم من أحد زملائه: محمد إسماعيل الأفريقي اللغة الإنجليزية، وأدى امتحان اللغة الإنجليزية لمرحلة المدرسة الثانوية العالية بجامعة «علي جراه» للمسلمين فيما قبل اجتيازه الصف النهائي – دورة الحديث – بالجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند؛ لأنه كان قد خَطَّطَ بتوفيق الله تعالى في هذا العمر المبكر أن يؤدي مهمة بارزة ودورًا يُذْكَر فيما يتعلق بخدمة السنة النبوية وتفنيد شبهات المستشرقين وغيرهم من أعدائها الداخليين حولها، فرأى أن يُتْقِن أولًا اللغة العربية واللغة الإنجليزية باعتبار الأولى لغة الإسلام ولغة الكتاب والسنة، وباعتبار الثانية لغة المستشرقين واللغة العالمية التي يستند إليها الأعداء في الأغلب لإثارة شبهات ضدّ الشريعة الإسلامية ولاسيما السنة المحمدية.
ولذلك اتجه إلى جامعة الأزهر عام 1953م (1372هـ) والتحق بها بكلية اللغة العربية، ومكث بها ثلاث سنوات لعام 1955م (1374هـ) وحصل منها على شهادة «العالمية مع الإجازة بالتدريس» (M.A.) وعاد إلى وطنه، حيث تم زواجه، وفي العام نفسه اتجه إلى دولة قطر؛ حيث عمل مدرسًا للغة العربية لغير الناطقين بها، ثم عمل أمينًا على دارالكتب القطرية المعروفة بـ«المكتبة العامة». وخلال عمله بالمكتبة اطّلع على كثير من الكتب التراثية النادرة ولاسيّما المخطوطات التي استكشفها خلال البحث عنها في المكتبات العالمية الشهيرة، كما اطلع على بعض الكتب لبعض المستشرقين التي أثاروا فيها انتقادات وشبهات حول الشريعة الإسلامية والسنة المحمدية – على صاحبها الصلاة والسلام – بليّ النصوص وتحميلها معاني ومفاهيم لا تحتمل، فتأكّد لديه العزم – الذي كان عقده خلال دراسته في صف الحديث الشريف النهائي في الجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ديوبند بالهند – على القيام بخدمة للسنة النبوية تتطلبها الساعة متمثلة في إزالة غبار الشبهات الواهية والانتقادات المتهلهة، الذي حاول المستشرقون وأعداء السنة الدائرون في فلكهم من المحسوبين على الإسلام إلصاقَه بلُجَيْنِ السنة النبوية خصوصًا والشريعة الإسلامية عمومًا.
ورأى لذلك أن يمكث في الديار الغربية مدة لا بأس بها ليتعرف عن كثب أسلوب دسائسهم الماكرة، فقرر أن يلتحق طالبًا بجامعة «كامبردج» (Cambridge) بـ«بريطانيا» حيث مكث ثلاث سنوات متتاليات في الفترة ما بين 1964-1966م (1384-1386هـ) وحصل منها على شهادة الدكتوراه في السنة النبوية وأعَدَّ لها بحثًا باللغة الإنجليزية بعنوان: (Studies in Early Hadith Literature) تحت إشراف مستشرقين شهيرين: الأستاذ ا.ج. آربري (Prof. A. J. Arberry) والأستاذ آر بي سيرجيانت (Prof. R. B. Sergeant) .
وإثر نيله شهادة الدكتوراه عمل مديرًا للمكتبة القطرية العامة سنتين أخريين في الفترة ما بين 1966-1968م (1386-1388هـ) وفي 1968م (1388هـ) عُيِّن أستاذًا مساعدًا بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة؛ حيث عمل بها لعام 1973م (1393هـ) ست سنوات متصلة، ثم انتقل أستاذًا لمصطلحات الحديث إلى كلية الشريعة بجامعة الملك سعود بالرياض. وإلى ذلك رئيسًا لكلية التربية بها، حتى أحيل إلى المعاش عام 1991م (1412هـ) فعمل بها على مدى 18 عامًا على الأقل.
وإلى جانب مشاغله التدريسية ظل يواصل العمل على خدمة السنة عن طريق كتاباته المكثفة ذات القيمة الفريدة بين جميع مؤلفات وإنتاجات المعاصرين من خَدَمَة السنة النبوية.
وقد كان كتابه «دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه» في طليعة مؤلفاته، ونال قبولًا وإعجابًا بالغين من قبل العلماء والباحثين وطلاب العلم المشتغلين بالدراسات الحديثية، وكثرت الإحالة عليه في كتابات ودراسات الباحثين في مجال السنة النبوية. والكتاب أصلًا هو رسالة جامعية تقدم بها الدكتور محمد مصطفى الأعظمي إلى جامعة «كمبردج» لنيل درجة الدكتوراه. وكان الكتاب باللغة الإنجليزية ثم تم نقله إلى العربية، وصدرت الترجمة العربية عام 1396هـ (1976م) ضمن مطبوعات جامعة الملك سعود بالرياض.
وقد تحدث المؤلف بدوره عن غاية تأليف الكتاب والظروف التي حملته على تقديم الرسالة الجامعية حول هذا الموضوع الهام، فقال:
«وقد خلق الله سبحانه وتعالى أئمة الحديث لهذا الشأن؛ فوهبهم قوة الذاكرة الخارقة، ورزقهم الإخلاص، وسَخَّرَ لهم القلم، وطَوَّعَ لهم الزمن، وبارك في أعمارهم وأعمالهم، فكانت نتيجة ذلك مكتبة حديثية زاخرة قَلَّ نظيرها، وقد تَفَنَّنَ هؤلاء في هذا المجال، فما تركوا وسيلة كانت في مُتَنَاوَل أيديهم إلّا سَخَّرُوها واستعملوها، ومرت الأيام، وشغلت الأجيال المتأخرة في أمور أخرى، وقلّ اهتمامها بالعلم من جهة العموم، وبالسنة من جهة الخصوص، وفقدت الأمة من مقوماتها الشيء الكثير، حتى صارت فريسة للاستعمار، وجمعت الأمة البقية الباقية من نفسها، وهَبَّتْ للدفاع عن دينها ونفسها وكرامتها، وجاهدت لاسترجاع ما فقدته، وحاولت التخلص من الاستعمار وأعوانه، فما كان من الاستعمار إلا جَنَّدَ جيشًا من المستشرقين، وممن انحرف عن جادة الحق من المسلمين، للقضاء على فكرة مقاومة الاستعمار نظريًّا؛ إذ كان قد أثبت تفوّقه عسكريًّا، ولم يبقَ إلا أن يقضي على مصادر منعة الأمة الإسلامية وإبعادها عنها، ليتيسّر تحويل الأمة إلى أمة من القردة والببغاوات.
وكان من نتيجة هذا التخطيط: ظهور المتنبئ في القارة الهندية وبروز كُتَّاب، مثل: «الجكرالوي» و«غلام أحمد برويز» و«توفيق صدقي» و«محمود أبي رية» الذي ألف كتابًا في الطعن في السنة النبوية، وسَمَّىٰ كتابه «أضواء على السنة أو دفاع عن السنة المحمدية» وادَّعىٰ أن الذين لايقبلون كلامه ونتائجه، هم في الواقع بعيدون عن المنهج العلمي المُتَّبَع في البحوث الموضوعيّة، وأنه شيء جديد لم يألفه الناس في المجتمع الإسلامي. ومن الطبيعي أن نبعه الأصيل وجذوره العميقة في تربة الغرب. في هذا الجوّ قَرَّرْتُ أن أكتب بحثًا عن بعض جوانب السنة في إحدى أعرق الجامعات الغربية: «جامعة كمبردج» بإنجلترا. واللهُ يعلم أن ذلك لم يكن بهدف الحصول على الشهادة؛ بل كان إظهارًا للوجه الحقيقي للسنة المحمدية، وتفنيدًا لكتابات الجهلة، و وضعها في مكانها الذي تستحقه، بكشف مغالطات هؤلاء المغرضين وأباطيلهم».
ورغم كل ما سَعِدَ به من التوفيق للقيام طوال حياته الواعية بخدمة السنة النبوية والعلوم والمعارف التي تتعلق بها، لم يحرص على ما يحرص عليه معظم ذوي العلم والفضل من الجاه والسمعة الواسعة والمكانة المرموقة والثناء الموفور وإنما انهمك في أعماله العلمية قابعًا في شبه عزلة عن الناس وعما يشغلهم. مما يدلّ على مدى الإخلاص الذي حظي به، فقام ما قام به من الأعمال العلمية والدراسية والتدريسية لوجه الله تعالى، ودفاعًا عن الإسلام وخدمة للسنة، وإدالة للشريعة الإسلامية من أعدائها السافرين والمتسترين. فجزاه الله خيرًا، ورفع درجاته في جنة الفردوس، وأسكنه مع الأنبياء والصديقين ولا سيما مع سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
كان رحمه الله يعاني العنتَ من داء السكري منذ سنوات طويلة، وكانت قد كثرت مضاعفاته في الأعوام الأخيرة، ومنذ سنتين اشتدت المضاعفات فكان قد دخل المستشفى لنحو شهرين ظل يتلقى العلاج؛ ولكنه لدى وفاته لم يكن به شديدُ مرضٍ يشف عن قرب أجله، وإنما استيقظ من نومه كالمعتاد في الصباح الطالع بعد الليلة المتخللة بين 1-2/ربيع الآخر 1439هـ الموافق 19-20/ديسمبر 2017م ليتوضأ ويؤدي صلاة الفجر، فجاءه خلال ذلك الأجل المكتوب فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وربما يحدث أن ذوي العلم والفضل بعدما يقتطنون بلدًا آخر غير الذي يكون مسقط رأسهم، يطمئنون إليه، ويستغنون عن وطنهم الأم ولا سيّما إذا أكرمهم الله بصيت مطبق، وتوفيق لإنجاز علمي جدير بالتسجيل والذكر، إلى جانب ما يُنْعِم عليه من الوسائل المادية بما يغنيه عن الآخرين في المجتمع؛ ولكن الدكتور الأعظمي الذي نتحدث عنه لم ينس وطنه ومسقط رأسه مدينة «مئو» وإنما ظلّ عالقًا بها، حريصًا عليها، مهتمًّا بأبنائها، ومعنيًّا بأقاربه، فأنشأ بها مساجد ومدارس عصرية، وأنفق عليها من عنده، وكان إلى ذلك يقدم مساعدات غالية إلى المدارس والجامعات الدينية، وكان يحبّ مدرسة دارالعلوم بمدينة «مئو» والجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند كثيرًا؛ لأنه تعلم فيهما، وتأَهَّل فيهما لأن يجتاز مراحل علمية لاحقة ويقطع مسافات بعيدة في مجال العلم والدراسة ولاسيما فيما يتعلق بالسنة النبوية.
وخَلَّفَ وارءه زوجته وابنين وبنتًا، وهم: الدكتور عقيل الأعظمي الذي نال شهادة الدكتوراه في علم الحاسوب، ويعمل أستاذًا مساعدًا في قسم الحاسوب بجامعة الملك سعود، وتليه شقيقته: الدكتورة فاطمة الأعظمية وهي حائزة على شهادة الدكتوراه في علم الحاسوب، وعملت سنوات متتاليات أستاذة مساعدة في قسم الحاسوب بالجامعة، وبعد الزواج انتقلت إلى «دبي» حيث تعمل بجامعة الشيخ زائد بـ«دبي» أستاذة مساعدة، ويليها شقيقه الدكتور أنس الأعظمي الذي هو حائز على شهادة الدكتوراه في علم الجينيات (علم الوراثة) ويعمل بمستشفى الملك فيصل بالرياض رئيسًا للمركز الدراسي الخاص بدراسة الجينيات، علمًا بأنهم سعوديو الجنسية. والأولادُ بدورهم ذوو أولاد مشتغلين بالدراسة والتعلم.
حفظهم الله جميعًا، ووفقهم لما يُخَلِّد ذكرهم ويُجْزِل ثوابَهم ويُعَمِّم نفعهم، ويزيد حظَّهم من السعادة.
(تحريرًا في الساعة 12 من ضحى يوم الجمعة: 15/جمادى الأولى 1439هـ الموافق 2/فبراير 2018م)
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رجب 1439 هـ = مارس – أبريل 2018م ، العدد : 7 ، السنة : 42