كلمة المحرر
استأثرت رحمـةُ الله تعالى بخادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز – رحمه الله – يوم الاثنين : 26/ جمادى الثانية 1426هـ = 1/أغسطس 2005م فخيَّم الحزنُ على العالمين العربي والإسلامي؛ لأنه كان يحكم البلادَ التي هي مهوى أفئدة العرب والمسلمين، ولأنّه كان يرى كلَّ هم من الهموم العربية والإسلامية همَّه هو وهمَّ مملكته وكان يسعى لمعالجته والتعامل معه ، ويبقى قذىً في عينيه ما لم يتوصّل إلى حلّ له مرضيّ لدى الجميع ؛ فكان مَلِكَ الملوك – لِلاعتبارين كليهما ولاعتبارات أخرى كثيرة أصليّة وفرعيّة لامجال هنا لتفصيلها – أو قل : كان مَلِكَ جميع العرب والمسلمين يرضونه جميعًا ، ويتحاكمون إليه جميعًا ، ويتشاورون معه في قضاياهم والقضايا الإسلامية العربية المشتركة ، ويلجأون إليه لحلّها .
وقد وَرِثَ من المجد المُؤَثَّل ، وأُكْرِمَ من الله الوهّاب من الأريحية والسماحة ، والمروءة والندى ، والحزم والعزم ، وبعد النظر، والاتّزان والتَّأنِّي ، بما جَعَلَه أهلاً لاعتلاء هذا المنصب الجليل الرفيــع : منصبِ «ملك الملوك» وأَدَّى المسؤولياتِ الباهظةَ العائدةَ عليه ؛ النابعة من المنصب ، خيرَ أداءٍ وأوفاه ، مما جَعَلَ الأَلْسِنَةَ تُجْمِعُ على الثناء عليه ، والدعاء له ، والقلوبَ تَحِبُّه حبًّا عَفَويًّا صافيًا ، والآن وقد تَوَفَّاه الله تعالى حَزِنَتْ عليه حزنًا عميقًا لم يُعْهَدْ لملك أو قائد مسلم أو عربي غيره خلال فترة ربع قرن من الزمان ؛ لأنّه حَزِنَ عليه جميعُ القلوب التي سَرَّها في حياته ، وهي قلوبُ جميع المسلمين والعرب . سَرَّهَا بمواقفه الإسلامية ، وبخدماته العظيمة ، وإنجازاته المثالية، ومآثره العزراء ، التي انْتَفَعَ بها المسلمون والعربُ جميعًا بشكل من الأشكال، ومُبَاشَرَةً أو غيرَ مباشرةٍ ، وسيظلون ينتفعون بها عبر الدهور إن شاء الله. فالخسارة بفقده – رحمه الله – لم تكن خسارة الشعب السعودي وحده ، ولكنها خسارةُ المسلمين والعرب أجمعين .
ولكنّ الــذي يلهمنا جميعًا الصبرَ والسلوان ، أن الله عَوَّض عنه قائدًا حكيمًا ، وملكاً بصيرًا ، وعاهلاً مُحَنَّكاً مُتَمَثِّلاً في وليّ عهده الأمين ، ورفيق دربه ، وساعده الأيمن ، وصديقه المصافي ، وأخيه المواسي ، سمو الأمير عبد الله بن عبد العزيز آل سعود / حفظه الله ورعاه ، وكان توفيقه رائده ، ونصره قائده ، وعونه حاديه في كل درب من دروب التفكير والعمل ، الذي بايعته الأسرة المالكة كلها في يوم وفاة الملك فهد رحمه الله ، والشعب السعودي في اليوم الذي تلا توريةَ جثمانه في مقبرة العود بالرياض ، أي في يوم الأربعاء 28/ جمادى الثانية 1426هـ = 3/أغسطس 2005م . فاستبشر المسلمون والعرب كلهم به خيرًا ، وغمرتهم الفرحة ، وتبادلوا التهاني والتبريكات ؛ لما عُرِفَ عن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز / حظفه الله ، من حبّه الصادق الواعي للإسلام والعروبة والصحراء العربية، والتمييز الدقيق بن الصديق والعدوّ، والتعامل الحكيم مع كل منهما بما ينبغي ، إلى ما رُضِعَ به من لَبَانِ الرأفة والكرم ، ومكارم الأخلاق ، والبساطة والتواضع ، والاهتمام المتواصل الشامل بأمر الإسلام والمسلمين مع الاهتمام البالغ بكل شأن من الشؤون الداخلية والمحلية والإقليمية والعالمية ، حسب قيمة كل منها . إلى جانب ما يتمتع به من الخبرات الواسعة والتجارب الطويلة للقيادة والإدارة ؛ حيث كان مَلِكاً عمليًّا منذ نحو عشر سنوات ، منذ أن اصطلحت الأمراض على الملك الغالي فهد بن عبد العزيز – رحمه الله تعالى ؛ فعلم ميدانيًّا كيف يتعامل مع القضايا ، وكيف يحلّ المُعْضِلاَت ، ويفكّ المُعَقَّدات ؛ ويأخذ بما ينفع بلاده ، ويخدم مصالح العرب والمسلمين ، ويطوّر المملكة بشكل أكثر من ذي قبل ، ويحقق فيها تنمية مزيدة يتطلّع إليها هو وشعبه .
إنّ المسلمين والعرب عمومًا ، والسعوديين خصوصًا ، يُعَلِّقُون على خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، الآمال العريضة ، والتطلعات الكبيرة ، لثقتهم الكبيرة به رجلاً مناسبًا جدًّا وُضِع في مكان مناسب في زمان مناسب، ملكاً عادلاً ، رؤوفًا رحيمًا ، سمحَ النفسَ ، كبير القلب ، بعيدَ النظر، إسلاميَّ التوجّه من قمة رأسه إلى أخمص قدميه ، خرّيجًا في مدرسة الصحراء السعودية العربية، عاشقًا للعروبة، قادرًا على إشباع مقتضيات هذا العشق الحلال، إلى جانب ثقتهم الزائدة بحكمته العمليّة ، وحزمه البعيد ، وعنايته اللائقة بالوصول إلى مستوى «وَأَعِدُّوا لهم مَا اسْتَطَعْتُم مِنْ قُوَّةٍ».
وقد بدأت بعضُ صفاته تتبدّى بشكل عاجل ، فازدادوا ثقة على ثقة ؛ فقد بدأ – حفظه الله – عهدَه بالعفو حتى عن الليبيين الذين تمت إدانتهم في ضوء الأدلة القاطعة بتورطهم في مؤامرة النيل من استقرار المملكة وأمنها . وذلك في أول جلسة لمجلس الوزراء ترأسها – حفظه الله – بعد تولّيه مهامّ الملك . صنع ذلك صادرًا عن الحرص البالغ على رأب الصدع ولمّ الشمل العربي ، فاتحًا صفحة جديدة ، ومعطيًا دفعةً للعمل العربي المشترك ، في وقت أصبح العالم العربي بأمس حاجة إلى رأب الصدع وتناسي الخلافات . كما أصدر أمرًا بالعفو وإطلاق سراح السجناء المحكومين شرعًا من المواطنين السعوديين ، وأمر بإطلاق سراح سجين سعودي منظورة قضيتُه في المحكمة ، متمنّيًا أن يكونوا جميعًا مواطنين صالحين .
كما بدأ – حظفه الله – عهده بالمكرمة الملكية العظيمة ؛ حيث أصدر الأمر السامي بزيادة 15٪ في رواتب السعوديين من المدنيين والعسكريين والمتقاعدين ، باستثناء الوزراء ومن هم في مرتبتهم وشاغلي المرتبة الممتازة ، إلى جانب منح راتب شهر لموظفي المراتب الخامسة فما دونهم. مما يؤكد مدى حرصه – حفظه الله – على تلمّس احتياجات المواطنين .
وكذلك تَوَّجَ بدايةَ عهده بزيارة مكة المكرمة ثم المدينة المنورة . مما يدلّ على اهتمامه الكبير بالحرمين ، وحسّه الإسلامي البالغ ، ووعيه أن خطواته إنما تتم مستقيمةً إذا تضرّع إلى الله العلي العظيم في بيته الكريم ومسجد نبيه الشريف ، ليعينه على تحمل المسؤولية وأداء الأمانة . إن ذلك يؤكد عمق إيمانه بربه عزّ وجلّ .
وبهذه المناسبة صدر الأمر السامي بتنفيذ الأعمال المتبقية من مشروع المسجد النبوي الشريف . وذلك بتكاليف إجمالية قدرها أربعة آلاف وسبع مائة مليون ريال . يشتمل الأمر الكريم على تركيب مئة واثنتين وثمانين (182) مظلة تغطي جميع مساحات المسجد النبوي الشريف ، وبطراز عصري يخدم المصلين والزائرين من شتى الوجوه .
إن بداية عهده بهذه الأعمال الميمونة فاتحةُ خير جديدة في هذه البلاد الطيبة التي وفّق الله قيادتها منذ اليوم الأول لخدمة الشعب والبلاد والإسلام والمسلمين .
وأمّا ولي عهده الأمين سمو الأمير سلطان بن عبد العزيز ، فهو من أجل تخرُّقه في الكرم ، وأريحيته العربية ، وخلقه الإنساني ، وصدوره في جميع تحركاته وتصرفاته عن المعاني الإنسانية ، معروف في الأوساط السعودية والإسلامية والعربية بـ«سلطان الخير» فكونه عضدًا للملك بعد الله، ورفيقًا له على درب الملك والحكم وفي سبيل إدارة البلاد ، وقيادة العالم الإسلامي والعالم العربي ، يبشّر بخير كبير وكثير بإذن الله عزّ وجلّ . ونحن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ننتظر أن عهد الملك عبد الله – حفظه الله – سيكون عهد الانتصار العربي الإسلامي في جميع الساحات الاستراتيجية والاقتصادية والتنموية والعسكريّة والسياسيّة ، وسيُطْوَى فيه بإذن الله عهد انتصار مكر الأعداء وتخطيط الصهاينة وتصاعد الصليبيين ، وتقلّبهم في أرض الإسلام والعروبة التي هي أرض تراث الخليل إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام وأرض تراث سيد المرسلين محمد النبي الأمي العربي الهاشمي القرشي المطلبي ﷺ . وقد صدق الشاعر العربي الذي قال فأجاد وأفاد، وأَوْجَزَ وأَعْجَزَ :
إِذَا خَـلاَ مِنَّا سَيِّدٌ قَامَ سَيِّدٌ
قَؤُوْلٌ لِمَا قَالَ الْكِرَامُ فَعُوْلٌ
[ التحرير ]
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان – شوال 1426هـ = سبتمبر – نوفمبر 2005م ، العـدد : 8–10 ، السنـة : 29.