دراسات إسلامية

بقلم:  د. محمد مبارك البنداري (*)

       لقد شدَّد الإسلام على حرمة قتلِ النَّفسِ لما لها من مكانةٍ عاليةٍ لديهِ، ووضع الأحكام والقواعد التي تُحافظ عليها، وتمنع العدوان عليها، فنجدهُ مثلا ينفي عن المؤمن مجرد إرادةِ قتلِ أخيه؛ لأنَّ هذا لا يتوافق مع دينه الإسلام، وإنْ حدثَ ذلك فإنهُ لا بدّ أن يكون نتيجة خطأ لا عمدًا، قال تعالى في سورة النساء: ﴿وَمَا كَانَ لِـمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ (الآية92).

       يقول القرطبي – رحمه الله –: «هذه آيةٌ من أمهاتِ الأحكام، والمعنى: ما ينبغي لمؤمنٍ أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ، فقوله تعالى: «وما كان» ليس على التحريم والنهي كقوله: ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوْا رَسُولَ الله﴾ (الأحزاب:53)، ولو كانت على النفي لما وجد مؤمن قتل مؤمنًا قطّ؛ لأنَّ ما نفاه الله فلا يجوز وجوده… والتقدير ما كان له أن يقتله البتة لكن إن قتله خطأ فعليه كذا».

       إنَّ الإيمان الصحيح يمنع المؤمن من قتل أخيه الذي قد عقد الله بينه وبينه الأخوة الإيمانية التي من مقتضاها محبته وموالاته، مهما كانت الأسباب واختلافات وجهات النظر؛ بل يجب عليه إزالة ما يعرض لأخيه من الأذَى، وأيُّ أذى أشدُّ من القتلِ؟! وهذا يصدق قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يَضربُ بعضكُم رقاب بعض». فعُلم من ذلك أنَّ القتلَ من الكفر العمليّ وأكبر الكبائر بعد الشرك بالله.

       لذَا فإنَّ القتل العمد له الحكم الشديد في الدنيا والآخرة، وأخبر سبحانه بأن جزاءه جهنَّم، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ (النساء:٩٣)، أي فهذا الذَّنب العظيم قد انتهض وحده أن يُجازي صاحبه بجهنم بما فيها من العذاب العظيم والخزي المهين وسخط الجبَّار وفوات الفوز والفلاح وحصولِ الخيبةِ والخسارة.

       ولعظم قتل النَّفس بغير حقٍّ نجدُ أنَّ القرآن قرنه بالشرك بالله تعالى، وكل ذلك حرصًا من الإِسلام على سلامة النفوس المعصومة من الاعتداء، قال تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا اَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ اَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصّٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (الأنعام:١٥١)، وقال تعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ﴾ (الإسراء:٣٣).

       يقول القرطبي – رحمه الله – : «وهذه الآية نهى عن قتلِ النفس المحرمة مؤمنة كانت أو معاهدة إلا بالحق الذي يوجب قتلها».

       وأكد النبي صلى الله عليه وسلم حرمة دماء المسلمين، وأنها معصومة من الاعتداء، فقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: «لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأنّي رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة». وقال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا»، وفي هذا بيان توكيد غلظ تحريم الأموال والأعراض والتحذير من ذلك – كما يقول النووي – رحمه الله – ، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «ألا هل بلَّغت؟»، فقال الصحابة – رضوان الله عليهم – : نشهدُ أنك قد بلغتَ وأدَّيتَ ونصحتَ، فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكتها إلى الأرضِ ويقول: «اللهم أشهد .. اللهم أشهد».

       ومنعَ صلى الله عليه وسلم الاعتداء على المسلم من الناحية المعنوية أو الجسديَّة، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابرُوا ولا يبع بعضُكم على بيعِ بعض، وكُونُوا عباد الله إخوانًا، المسلمُ أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا، ويُشير إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئٍ من الشرِّ أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه» (رواه مسلم).

       وحرمة هذه الثلاثة مشهورة معروفة ومعلومة من الدين بالضرورة، وجعلها لكل مسلم لشدةِ اضطراره إليها، فالدَّم فيه حياته، ومادته المال فهو مال الحياة الدنيا، والعرض به قيام صورته المعنوية، كما قال المناوي – رحمه الله –.

       بل أكثر من ذلك فقد ورد المنع عن الحبيب المصطفى أن يُشار إلى المسلم بحديدة ونحوها، خشية أن تزلّ يد أو يحدث خطأ ما فيصاب المسلم بأذى، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الملائكة لتلعن أحدكم إذا أشار إلى أخيه بحديدة وإن كان أخاه لأبيه وأمه» (رواه ابن حبان).

       إذَا استحقَّ من يشيرُ اللعن فكيف الذي يُصيب بها؟، ونهى صلى الله عليه وسلم أن يتعاطى السيف مسلولًا؛ لأنه ربما غَفَل عنه فيسقط ويُؤذي حينئذ، ما أعظم هذا الدين الذي يعدُّ ترويع المسلم حرامًا بكل حال سواء كان هزلًا ولعبًا أم لا، فسدَّ الباب من مدخله تأكيدًا على حُرمة دمِ المسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعلَّ الشيطان ينزغ في يده، فيقع في حفرةٍ من النَّار» (رواه البخاري)، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصبْ دمًا حرامًا».

       فالإسلام يَنهى عن قتلِ النفس – أيّ نفس كانت – : ﴿… أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا …﴾ (المائدة:٣٢)؛ لأن النفس لها مكانة تعادل كل النفوس في حرمة الاعتداء، وضرورة الحفاظ عليها حتى ولو لم تكن مسلمة، فمن استحلَّ قتلها بلا سببٍ أو جنايةٍ فكأنما قتل الناس جميعا؛ لأنَّه لا فرق عنده بين هذا المقتول وغيره، أي لا فرق بين نفسٍ ونفسٍ، ومن أحياها وحرَّم قتلها واعتقد ذلك، فقد سلِم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار. وهنا نؤكِّد أن الإسلام عَصَم أيضًا أنفس المعاهدين والمستأمنين ومن في حكمهم، وأنَّ من أعطاهم الأمان من المسلمين – أي مسلم كان – وجب عدم نقض هذا العهد والأمان، قال صلى الله عليه وسلم: «ذمة المسلمين واحدة فمن أخْفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل» (أخفر: أي نقض العهد).

       لذا فالحكم على المفسدين والقتلة يتناسب وجرمهم، فكما أن الفساد ضرره شديد وآثاره خطيرة كان الحكم على صاحبه شديدًا ردعًا لمن تسوِّل له نفسه ترويعِ الآمنين والاعتداء عليهم، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزٰٓؤُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوٓا أَوْ يُصَلَّبُوٓا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ﴾ (المائدة:٣٣).

       وقتل النفس – مسلمة أو غير مسلمة – بغير حق إفساد عظيم في الأرض لا يتوافق وديننا الحنيف، دين الإصلاح والإعمار والنهي عن كل فساد قل أو كثر، قال تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا…﴾ (الأعراف:56)، وهذه دعوة الأنبياء جميعا قال تعالى عن قوم مدين: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يٰقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا…﴾ (الأعراف:٨٥).

       قال ابن عباس – رضي الله عنهما –: «كانت الأرض قبل أن يبعث الله شعيبا رسولا يعمل فيها بالمعاصي وتستحل فيها المحارم، وتسفك فيها الدماء، قال: فذلك فسادها، فلما بعث الله شعيبا ودعاهم إلى الله صلحت الأرض وكل نبيّ بعث إلى قومه فهو يدعو لإصلاحهم.

       وحَمَل «قابيل» إثم قَتْل «هابيل» وكل نفس تقتل إلى يومِ الدِّين؛ لأن قتل النفس عظيم، تغير بعده وجه الأرض فعرف آدم أن شيئًا عظيمًا وقع، قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلّٰنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ﴾ (فصلت:٢٩) قالوا: من الإنس «قابيل» فهو صاحب أول معصية عُصِي الله بها في الأرض، وأول جريمة نكراء بسبب الحسد فكان قتله لأخيه، وفي حديث ابن مسعود – رضي الله عنه – قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس من نفسٍ تُقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ منها؛ لأنه أوَّل من سنَّ القتل أولًا» (رواه الشيخان).

       وحذَّر قرآننا الخالد من تلبيس المجرمين المفسدين على الناس أفعالهم بما يقولونه لهم من أنهم يريدون الخير وخدمة الأمة، قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيٰوةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهُ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلّٰى سَعٰى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ (البقرة:204-٢٠٦).

       قال ابن جريج: «سعى في الأرض ليفسد فيها» أي قطع الرحم، وسفك الدماء دماء المسلمين، فإذا قيل: لم تفعل كذا وكذا؟ قال: أتقرَّب به إلى الله عز وجل.

       إنَّ الإسلامَ مبناهُ على الرفقِ واللينِ، وعدم العنف؛ لذا فليس فيه ما يدعو إلى قتل الأبرياء والاعتداء على الأنفس المعصومة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة – رضوان الله عليها – وعن أبيها الصديق: «يا عائشة! إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف وما لا يعطى على ما سواه» وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لايكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شأنه» (رواهما مسلم في صحيحه).

       وحذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من المشاركة في الإفساد أو المعاونة على قتل الأنفس ففي حديث أبي ذر (جندب بن جنادة) – رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «كيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت قد غرقت بالدم؟» قلت: ما خار الله لي ورسوله، قال: «عليك بمن أنت منه»، قلت: يا رسول الله! أفلا آخذ سيفي وأضعه على عاتقي؟ قال: «شاركتَ القوم إذن»، قلت: فما تأمرني؟ قال: «تلزم بيتك»، قلت: فإن دخل عليّ بيتي؟ قال: «فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ثوبك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه» (رواه أبوداود).

       هذه هي دعوة الإسلام لمن أراد الحقيقة باعتدال وسمو ويسر ووسطية لا تطرف ولا غلو، فالإسلام بنصوصه قد سبق غيره من الأنظمة والقوانين في تأكيده حرمة الاعتداء على الإنسان؛ بل كل الموجودات إلا إن وجد السبب الملجئ لذلك، وعلماء المسلمين قديمًا وحديثًا قرروا أنَّ الإرهاب الذي يتمثل في التفجير العشوائي، وسفك الدماء البريئة، وتخريب المنشأت، وإتلاف الأموال المعصومة، وإخافة الناس، والسعى في الأرض بالفساد أمرٌ لا يقرُّه شرع ولا عقل سليم.

*  *  *


(*)       أستاذ مساعد في جامعتى أم القرى والأزهر

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العــلوم ديوبند ، المحرم – صفر 1439 هـ = سبتمبر- نوفمبر2017م ، العدد : 1 – 2 ، السنة : 42

Related Posts