دراسات إسلامية
بقلم: الأستاذ فريد إبراهيم (*)
الإنسان اجتماعي بطبعه – كما يقول علماء الاجتماع – فإنه لا يستطيع أن يعيش إلا في جماعات يتعامل ويتفاعل معها من خلال تبادل المنافع والمصالح والتجارب، وكذلك الصراع على هذه المنافع والحاجات؛ بل يتبادل المشاعر من انتماء وحب وكره، وتوافق وتدابر، وتعاون وصراع وغير ذلك مما يصنع شخصية الإنسان من خلال تراكم التأثير والتأثر والاختلاف السلوكي في الفعل ورد الفعل.
وبالتالي فإن القيم التي تسود هذه العلاقات في المجتمعات – أي مجتمعات – هي الحاكمة في بناء الشخصية، وبالتالي هي الحاكمة في تحضر الأمم أو تخلفها.
من هذه القيم المهمة في بناء المجتمعات – سواء شخصيات الأفراد أو شخصية الأمة – قيمة الأمانة، لذلك جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرتبة الثالثة من وصاياه في حجة الوداع بعد حرمة الدماء والأموال، حيث قال «.. فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها» كأنه بعد أن أوصاهم بما يحقق الأمن في الحياة؛ وهما حرمة الدماء والأموال دعاهم إلى ما يصنع الحضارات أي إلى آليات الانطلاق دون خوف ودون المعوقات الخلقية التي تمنع الأمم من صناعة مستقبلها.
ولو أردنا أن نتصور أثر هذه القيمة فلنتأمل في غيابها وتبعات هذا الغياب. فلو أن مجتمعا من المجتمعات فقد فيه المدرس قيمة الأمانة، فكيف تكون حال العملية التعليمية وحال رجال المستقبل الذين أعدهم هذا الأستاذ غير الأمين؟، ولو فقد الطبيب أمانته فكيف يكون حال مرضاه، ولو فقد الجندي أمانته فماذا يكون شعور من يحرسهم ويحميهم؟ وماذا يكون حال الأمن في مثل هذا المجتمع؟ ولو فقد المسؤول الأمانة في اختيار الأكفأ والأصلح في تولي المهمات – أيّا كانت هذه المهمات – لشاع اليأس بين أصحاب الكفاءات ولكان مردود عمل الأقل كفاءة أقل مما يرتجى وهكذا تتداعى آثار هذا الفعل على كل شيء..
إذن لو شاع خلق الخيانة الذي هو عكس الأمانة في مجتمع وصار سلوكا، ففضلا عن المستقبل والحاضر البائس التعيس الذي يعيشه هذا المجتمع فإن المجتمع يفرز رجالا يملؤهم الخوف من كل شيء، والشك في كل شيء، والضغينة والكراهية للآخرين لمجرد أنهم آخرون، فلا يأمن الوالد ولده ولا الولد والده، ولا تأمن الأم ابنتها ولا الابنة أمها. وتصبح المحسوبية والرشوة والفساد الممنهج لكل شيء هو القاعدة والأساس في التعاملات اليومية، أي يصبح لكل شيء ثمن يمنح لمن يدفعه وليس لمن يستحقه.
أما المجتمع الصالح الذي تمثل الأمانة خلقًا غالبًا فيه؛ فإنه يصبح مجتمعًا مؤهلًا للتحضر؛ لأن معوقات التحضر ليست في نسيجه وهي غياب الأمانة أي انتشار الخيانة، وبالتالي لا يحتاج إلا العمل والاجتهاد.
والأمانة لا تعني في الإسلام أن يحفظ إنسان لدى آخر شيئًا فيرده إليه في وقته فقط، فكل ما اؤتمن عليه الإنسان أمانة سواء من قبل خالقه أي في كل ما خلقه وسخره له الله سبحانه وتعالى ورزقه به من عقل وعلم وعمل وصحة وذكاء وأرض وهواء وشمس، وكذلك مؤتمن فيمن يتعامل معهم ومؤتمن في نفسه.
لذلك أشار سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن علامات الساعة بقوله: «إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة».
وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمانة قرين الإيمان حيث يقول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أبو يعلى عن أنس بن مالك: «لا إيمان لمن لا أمانة له».
ويقول تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمٰنٰتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ (النساء:٥٨) كما يحذر من التخلى عن هذا الخلق قصدا فيقول تعالى: ﴿يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوْٓا أَمٰنٰتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (الأنفال:٢٧).
كما جاء في الحديث النبوي عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – «إن الشهادة تكفر كل ذنب إلا الأمانة، يؤتى بالرجل يوم القيامة وإن كان قتل في سبيل الله تعالى فيقال: أد أمانتك فيقول: وأنى أؤديها وقد ذهبت الدنيا؟، فتمثل له الأمانة في قعر جهنم فيهوى إليها فيحملها على عاتقه، قال: فتنزل عن عاتقه فيهوي على أثرها أبد الآبدين». ولخطر الأمانة وأهميتها كانت الضلع الثالث في بناء الأمم وصناعة الحضارات بعد حرمة الدماء والأموال وهي كذلك في انهيار الأمم حيث يكثر الهرج وهو القتل وترفع الأمانة وتستباح الأموال.
أذكر أن رجلا قرويّا حكى لي أنه كان يعجب من إمام المسجد كلما حدثهم عن القناعة وعن أمور بسيطة من وجهة نظره تعتبر أهم ما في الحياة الدنيا، ثم يتلو عليهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي روته أُمُّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، والذي يقول: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَصْبَحَ مُعَافًى فِي بَدَنِهِ آمِنًا فِي سِرْبِهِ , عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا، يَا ابْنَ جُعْشُمَ يَكْفِيكَ مِنْهَا مَا سَدَّ جُوعَكَ، وَمَا وَارَى عَوْرَتَكَ، وَإِنْ كَانَ بَيْتًا يُوَارِيكَ فَذَاكَ، وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً تَرْكَبُهَا فَبَخٍ، فَلَقُ الْخُبْزِ وَمَاءُ الْجَرِّ، وَمَا فَوْقَ الْإِزَارِ فَحِسَابٌ عَلَيْكَ» فكان الرجل القروي كما قال لي يتساءل مستغربا: هل مجرد قوت اليوم والأمن في المنزل امْتِلَاكٌ للدنيا بمتعها؟ فلما وقعت بين عائلتهم وعائلة أخرى مشكلة قتل فيها أحد أفراد العائلة الأخرى والتي أصبحت تتربص بأفراد عائلته لتقتل منها مثلما قتل منها. هنا أدرك الصديق القروي خطر الأمن وأهميته وقيمته حيث عاشوا جميعا في فزع من هذه الورطة التي يعيشونها حتى وهم داخل بيوتهم يغلقونها على أنفسهم يتمنون زوال هذا الفزع الشديد الذي لا يدع لهم نوما هانئا ولا حركة مطمئنة.
ذلك لأنه لا يدرك معنى الأمن إلا من فقده ولا يعرف خطر الخوف والفزع إلا من عاشه؛ لذا فإن تاريخ الحضارات وارتقائها هو تاريخ مواز من الأمن والسلام الذي يمنح العقول فرصها في الإتقان الذي هو ابن الأمانة، والإبداع الذي هو ابن التريث والتأمل والتجريب ولا يتحقق هذا إلا في جو من الأمن يمنح العقل المشبّع بالأمانة في تصرفاته القدرة على العطاء بحب ورضا.
من هنا فليس عجيبا أن تكون أضلاع صناعة الحضارة الثلاثة التي تمثل الرحم المناسب لميلادها هي حرمة الدماء وحرمة الأموال وتوفر الأمانة.
* * *
(*) نائب رئيس تحرير جريدة الجمهورية – عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العــلوم ديوبند ، المحرم – صفر 1439 هـ = سبتمبر- نوفمبر2017م ، العدد : 1 – 2 ، السنة : 42