دراسات إسلامية

بقلم: الأستاذ/ سيد محبوب الرضوي الديوبندي -رحمه الله-

(المتوفى 1399هـ / 1979م)

ترجمة وتعليق: محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري(*)

إضراب الطلاب عام 1389هـ:

       كان الإضراب الطلابي في ربيع الثاني من عام 1389هـ حدثًا غريبًا من نوعه في محيط الجامعة، وإن لم ينضم إليه كافة طلابها، إلا أن الأسلوب الذي اتبعه الطلاب المضربون عن دراستهم هذا جعل الطلاب- الذين لم يشاركوهم في الإضراب – رغم أنهم كانوا أكثربكثير من الطلاب المضربين– مشلولي الأيدي عاجزين، فكان الطلاب المضربون يأتون ما يشاؤون. فإن الحماس الزائد وعدم النضج في العقل والشعور في حداثة السن، بالإضافة إلى الدوافع والعوامل الخارجية؛ كل ذلك يحمل المرء على أن يأتي ما يشاء من غير خوف ولاوجل. والاتجاه الذي كان تتجه الأوضاع إليه في أيام الإضراب كان يشير إلى أن هذا الإضراب عن التعليم لايهدف فقط إلى تحقيق مطالب معدودة، وإنما يشكل مهمة مبيتة ومؤامرة حيكت بإتقان وفي إصرارعلى إفساد جو الجامعة ونقضها عروة عروة، وكانت من وراء ذلك أصابع خارجية تقود هذا الإضراب وتستخدم الطلاب لأهدافها العدوانية. ولم يكتف الطلاب المضربون في هذه المرة بالمقاطعة الدراسية، وإنما تعدوا إلى الاستيلاء على مفاتيح الفصول الدراسية وبلغ بهم الأمرأن أغلقوا أبواب الجامعة كلها من داخلها، و وضعوا عليها الأقفال. فأصبحت دار العلوم برمتها في يد هؤلاء المضربين من الطلاب الذين استولوا على الفصول الدراسية ومكاتب دارالعلوم الإدارية حتى مكتب الرئاسة وقسم المالية.

       وبلغت مؤامرة الإفساد والتخريب هذه من الإتقان والإحكام مبلغا جعل الناس يتوجسون خيفة من بقاء دارالعلوم نظرًا إلى ذلك إلا أن الله تعالى تدارك القائمين عليها بفضله وكرمه ونصره، فتغلبوا على هذه المؤامرة خلال أيام قلائل على أحسن أسلوب بما منَّ الله تعالى على أعضاء المجلس الاستشاري من التدبير والبصر بالعواقب وبعد النظر. وتم فصل الطلاب الذين تولوا كِبر هذه الفتنة والاضطراب، كما تم إغلاق دارالعلوم لأيام عدة بهدف إعادة المياه إلى مجاريها، وأعيد الطلاب إلى أوطانهم.

       وهذه المؤامرة كانت على غاية من الشدة والإحكام من شأنها أن تؤدي بدارالعلوم إلى شفا جرف هار من الدمار لوتم لهذه المؤامرة النجاح، إلا أن الله تعالى أراد أن يسخرها – دارالعلوم- لخدمته في المستقبل فخرجت من هذه الفتنة سالمة لم يمسها سوء.

باحثون غربيون في دارالعلوم:

       إن مكتبة دارالعلوم – التي تشكل كنزًا علميًا عظيما، وتراثا هامًا لأهل العلم ظلت تستهوي قلوبهم بما تحتضن من كتب النوادر والمخطوطات – بدأت دائرتها تتسع وتمتد منذ السنوات الأخيرة، وأنشأ يدرك  الباحثون والمحققون أهمية مكتبة دارالعلوم في هذا العصر، فتوجه إليها عديد من المحققين واستفادوا من كنوزها ولآليها العلمية، كما استفاد بعضهم بالمراسلات والخطابات التي وجهوها إلى دارالعلوم. وعلاوةً على الوافدين من شتى أنحاء الهند، توجه إليها الباحثون والمحققون من أمريكا وأوربا لاستكمال دراساتهم وتحقيقاتهم، ورأوا الاستفادة منها حتما عليهم. فقدم كل من الأستاذ /هاردي– من جامعة لندن-، والسيدة غيلي غراهم– من أمريكا- والسيدة كرين ديت ميرا – من ألمانيا- والسيده متكاف – من كاليفورنيا- إلى دارالعلوم/ديوبند لاستكمال دراساتهم وبحوثهم العلمية واستفادوا من مكتبتها. وكان موضوع دراسة الطالب الألمانية: مساهمة المسلمين في سياسة الهند. و قالت الطالبة الألمانية: لقد عثرت في دارالعلوم من المواد على أكثرمما ظننت، ولم أكن أتوقع أن المواد التي تخدم بحثي ودراستي ستتوفربهذه الكمية الكبيرة في مكتبة دارالعلوم(1).

       وكانت الطالبة الأمريكية تدرس موضوع «الخلافة». وأرادت أن تستفيد فيه من رئيس الجامعة، فأشارعليه فضيلته بأن تضع أسئلة تفتح لها باب المعلومات والمواد الخاصة ببحثها وموضوعها. فقدمت فهرسًا يضم واحدا وثلاثين سؤالا، وجمع فضيلة رئيس الجامعة حضرات الأساتذة في بيته ليرد على الأسئلة التي وجهتها الطالبة الأمريكية  ردًا تحقيقيًا. وأخذ فضيلته فهرس الأسئلة في يده، وتوجه إلى السيدة غراهم، وقال لها: إن أسئلتك سيرد هؤلاء المشايخ عليها واحدا بعد واحد فيما بعد، وإنما أقدم لك قولا موجزًا يتضمن أساس هذه المسألة وما يتفرع عنها. ثم ألقى عليها خطبة مفصلة تسلط ضوءا كافياعلى حقيقة الخلافة وأدوارها التاريخية والتطورات والآثار اللاحقة، و استمرت الخطبة ساعة إلا ربعًا، واحتوت على المواد المفصلة الخاصة بأسئلتها. ثم قال لها: و الآن يرد هؤلاء المشايخ على أسئلتك، فهيا اطريحها عليهم واحدًا واحدًا. وكانت السيدة «غراهم» تكتب الملحوظات خلال هذه الخطبة، فقالت: لقد تلقيت ردودًا كافية شافية على كافة الأسئلة التي وجهتها إليكم، وأنا في غنى عن توجيه سوال آخر.

انطباعات الزوارالعرب:

       قدم وفد مكون من الزوار المنتمين إلى الدول العربية من المغرب والجزائروشرق الأردن دارَالعلوم ديوبند، وتأثروا كثيرًا، وسجلوا انطباعاتهم بما يلي:

       «من فضل الله وكرمه علينا أن هيأ لنا فرصة زيارة الهند، ونحن في رحلتنا إليها نستشعر الحماس والعاطفة الدينية التي كانت تموج بها قلوب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنا نستصغر ما لقينا من المتاعب والمشكلات ونحقرها في جنب حياة الصحابة التي قضوها في سبيل الله تعالى، لقد طوفنا في الهند وتجولنا في مختلف أنحائها و أصقاعها و وجدنا المسلمين – والحمد لله – قد احتلت السنة النبوية في حياتهم مكانة كبيرة، وألفينا نساءهم ملتزمات بالحجاب وحريصات على حضور المشاهد الدينية و الاستماع إلى المواعظ والنصائح. كما تحمل المراكز والمؤسسات الدينية كذلك خصائص وميزات، لها نظام وأسلوب تتبعهما، لقد أعجبنا كثيرًا أن التوجيهات الإسلامية تركت بصمات بعيدة المدى على التقاليد والأعراف السائدة في الهند، وتشكل التوجيهات الإسلامية مهوى الأفئدة في بلد مثل الهند، التي تفد إليها الناس من أطراف العالم وأكنافه.

       ونقدم الشكرالجزيل النابع من أعماق القلوب إلى القائمين على دارالعلوم، الذين أطلعونا على دارالعلوم، وأرعوا آذانهم لطلباتنا، أضف إلى ذلك أنهم سمحوا لنا أن نبدي آراءنا في سجل الانطباعات. فجزاهم الله خيرًا.

       وندعو الله تعالى أن يكتب لهذه الجامعة مزيدًا من الرقي والازدهار ويوفق رجالاتها ومشايخها وطلابها لتحقيق أهدافهم الحسنة».

مسجد تشته:

       لعلك تذكر أن دارالعلوم بدأت في مسجد قديم عريق يطلق عليه مسجد «تشته»، و بجانبيه الشمالي والجنوبي حجرات عديدة، وكان ينزل في الحجرات الجنوبية كل من الحاج إمداد الله (1233- 1317هـ /1817-1899م) والشيخ  محمد يعقوب النانوتوي ( 1249-1302هـ /1833-1884م). وأما الحجرة الشمالية فكان يقيم بها الإمام محمد قاسم النانوتوي (1248-1297هـ/ 1832-1880م)، وكانت الحجرة الشمالية على غاية من الرثاثة والبلى، وتم إعادة بنائها عام 1389هـ، وتم الاحتفاظ بهذا المكان الأثري داخل قاعة واسعة، كما أنشئ  رواق واسع أمام الحجرة، و كان الله تعالى كتب سعادة إنشاء هذا المبنى لضابط عسكري متقاعد من مدينة خورجه – بلند شهر-، وهو اللواء أحمد سعيد خان. فجزى الله تعالى اللواء المذكور خيرا، فقد تم الحفاظ على هذا المكان التاريخي لمدة طويلة بعناية منه.

عام1390هـ، وتعديلات في المنهج الدراسي:

       كانت دارالعلوم تدرك- بشدة – الحاجة إلى إعادة النظرفي المنهج الدراسي، وكان المجلس الاستشاري يدرس هذه المسألة، مما أدى إلى إدخال التعديلات التالية في المنهج الدراسي:

       1. ضرورة تحديد المراحل الدراسية في المنهج التعليمي، فقد جرى العمل لحد الآن على تدريس الكتب واحدًا بعد واحد بدلا من تحديد المراحل والصفوف الدراسية.

       2. ضمُّ بعض الكتب إلى المقررات الدراسية.

       3. إنشاء الأقسام التخصصية لإكمال الدراسات العليا في دارالعلوم أمثال: قسم التفسير، وقسم العلوم الدينية، وقسم العلوم العقلية وقسم الأدب العربي. وستأتي تفاصيل المنهج الدراسي ضمن «المنهج التعليمي» بإذن الله تعالى.

صلة دارالعلوم بالدول العالمية:

       لقد قضت تسهيلات التنقل والسير في العصر الحاضرعلى المسافات البعيدة في القرون السالفة، فلم تعد دولة على منأى من دولة أخرى، وكانت جريدة «دعوة الحق» العربية تشكل أكبر سبب لإقامة هذه الصلات. وفيما يلي أسماء الدول التي وصلت إليها هذه الجريدة وعملت على التعريف بخدمات دارالعلوم العلمية والدينية:

       المملكة العربية السعودية- جمهورية مصر- الكويت- الشام- لبنان- ليبيا- العراق- شرق الأردن- المغرب- تونس- اليمن- الخليج العربي- نيجيريا- الجزائر- إيران- إندونيسيا- تركيا-تاشقند- الحبشة- أمريكا- ألمانيا- دنمارك- سيلون.

وتصدر -حاليا- جريدة «الداعي» النصف الشهرية بدلا من جريدة «دعوة الحق».

عام 1391هـ، والأبنية الجديدة:

       وفيما يلي تفاصيل الأبنية الجديدة في دارالعلوم في هذه السنة:

       دارالشفاء: اكتمل بها بناء الجامعة الطبية المبتور، وأقيم هذا المبنى خارج حرم دارالعلوم بالجانب الشمالي الغربي، ويضم مبنى دارالشفاء هذا قاعتين واسعتين، وأربع حجرات و أروقة. وتولى بناء جناح منه وقفية كرنال، وجناحا منه السيد الحافظ إرشاد إلهي من آغره، ومتبرعون آخرون  غيره، كما أقيم الجزء الأكبر من سكن الطلاب الأفارقة في الشمال باسم المبنى الإفريقي. ويضم هذا المبنى إحدى عشرة حجرة واسعة، كما تم إدخال بعض التعديلات في الحجرات السكنية من مبنى الدارة الجديدة وتم تحويلها إلى مخازن الحبوب، وأقيمت هذه المخازن على طراز أحدث متبع للحفاظ على الحبوب. ويتم تخزين حبوب قدرها ستة آلاف منّ تغطي حاجة دارالعلوم طوال السنة.

يزدان تاريخ الهند بخدمات دارالعلوم:

       ولعله لايعد حشوًا في ذكر أوضاع هذه السنة إيراد انطباعات الجودهري رندير سينغ – عضو في لجنة الزراعة لعموم الهند – التي أبداها المذكور في اجتماع عقده دارالعلوم على شرفه عقب زيارته لها حيث قال:

       «هذه المؤسسة مصنع يُعَد زيارتُه سعادة عظمى، وأشعربالفرح البالغ بتحقق هذه الأمنية القديمة اليوم، وقدمتها كواحد من عائلتكم وأسرتكم، وأود أن أقول لكم بكل إخلاص و بصورة صريحة: إنكم – بصفتكم مسلمين – أعضاء طائفة هامة، وما كان لكم أن تتضايقوا أو تتأثروا بضيق نظرة الطائفيين إليكم؛ فإن للمسلمين منةً عظيمةً على هذه  البلاد، لقد قام المسلمون بخدمات جليلة يعتز بها في صنع الحضارة والثقافة والأخلاق و تحسينها، ونحن نعتز بأن هذه المؤسسة تضم بين جناحيها أفرادا دائبين على نشرالضوء الإسلامي الخالص باسم الإسلام».

       وأكد الجودهري قائلا: «إن هذه البلاد بلادكم، وإن المسلمين مواطنون كرام في هذه البلاد، وإن خدماتهم يزدان بها تاريخ هذه البلاد، وإن أمثال هذه المؤسسات الروحية والأخلاقية تحتل مكانة سامية في رفع رأس الهند».

رحلة رئيس دارالعلوم إلى أوربا:

       من أهم أحداث هذا العام مما يجدر الإشارة إليه رحلة رئيس دارالعلوم إلى أوربا، حيث قام فضيلته بالسفرإلى إنكلترا وفرنسا وألمانيا الغربية، اعتبارا من 14/جمادى الأولى عام 1391هـ حتى 15/من شعبان عام 1391هـ، و زار فضيلته مدن إنكلترا الكبرى كلها من «كلستر» (Gloucester)، و «براد فورد» (Bradford) باتلي وبليك بورن وبرستول (Bristol) و بولتن وشيفلد (Lichfield) وكونتري (Coventry) و برمنغم (Birmingham) و راجديل وسيول ونحوها. وألقى عدة خطبات في لندن نفسها، كما ألقى خطبة في جامعة بريد فورد، حيث أعرب طلاب الجامعة عن حاجتهم إلى خطبة لها مفعول طيب في الفكر الأوربي الإلحادي والنظام غير الإلهي. وكانت خطب فضيلته تركزعلى وجود الصانع، والتوحيد الإلهي، والحاجة إلى الرسالة، و الأهداف الأساسية للشريعة الإسلامية، والمبدأ والمعاد، وغيرها من الموضوعات. وأفاد الطلاب بعد نهاية الخطب: كنا نستمع إلى الخطب والشكوكُ والشبهات التي أثارتها الجوالغربي في أذهاننا هنا  تتلاشى وتزول، وكأن قلوبنا قد تم غسلها بالماء البارد».

       وأقام فضيلته في إنكلترا حتى 22/سبتمبر عام1971م، وعرج في طريق العودة منها على باريس، وتوجد جاليات عربية كبيرة فيها، ورحب به العرب على المطار ترحيبًا حارًا بكل حماس، وألقى فضيلته خطبتين باللغة العربية في اجتماعين عربيين بها، كان لهما مفعول طيب في نفوس العرب، وتوجه منها فضيلته إلى ألمانيا الغربية، ثم شد رحاله إلى مكة المكرمة، وأدى مناسك العمرة، وتشرف بزيارة الروضة النبوية الشريفة في المدينة المنورة، ثم توجه إلى الكويت وأقام  بها برهة من الزمان، وعاد منها إلى الهند.

       وأعرب فضيلته – بعد زيارة الدول الأوربية هذه– عن انطباعاته بقوله: «إن الأوربيين يطلبون الطمانينة القلبية اليوم، فهم عطاشى، وفي حاجة شديدة إلى علماء و دعاة متمكنين من اللغة الإنجلزية كل التمكن، بالإضافة إلى التضلع من مبادئ العلوم الإسلامية، وبإمكانهم أن يشرحوا الدين لهم على بصيرة وفقه، ثم يقضوا فيهم مدة من الزمان ملتزمين بمبادئ الاستغناء عن الخلق». ونشرت الصحف العديدة مقالة ضافية بقلم فضيلة رئيس دارالعلوم، لقيت إعجابًا كبيرًا في أوساط القراء، تسلط ضوءا على الجانبين: محاسن أوربا ومساوئها بالوسطية والاعتدال اللازم.

*  *  *


(*)   أستاذ التفسير واللغة العربية وآدابها بالجامعة.

(1)      جريدة دارالعلوم، شهر فبراير عام 1970م، ص 46، والتقارير الدورية لعام 1389هـ ص 5.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالقعدة 1438 هـ = أغسطس 2017م ، العدد : 11 ، السنة : 41

Related Posts