دراسات إسلامية
بقلم: مساعد التحرير
الإخلاص نعمة عظيمة ينبع منها كثير من خصال الخيرالتي لابد للمؤمن منها، ومن أهم الخصال التي تتفرع عن الإخلاص ويتشعب عنه الْيَقِين وَالْخَوْف والمحبة والإجلال وَالْحيَاء والتعظيم. وجاء الحث على الإخلاص وتصحيح النية في كثير من الآيات والأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عيه وسلم، وآثار الصحابة رضي الله عنهم، منها قوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصينَ لَهُ الدّينَ﴾ [البينة:5]، ويقول الله عز اسمه: ﴿وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لله فَأُولَئِكَ مَعَ الْـمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْـمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء:146]، يقول ابن الجوزي في تفسيره: ﴿وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ﴾ فيه قولان: أحدهما: أنه الإِسلام، و إِخلاصه: رفع الشرك عنه، قاله مقاتل. والثاني: أنه العمل، وإِخلاصه: رفع شوائِب النفاق والرياء منه، قاله أبو سليمان الدمشقي(1).
ويقول الرازي – رحمه الله- في تفسيره: واعلم أن هذه الآية فيها تغليظات عظيمة على المنافقين، وذلك لأنه تعالى شرط في إزالة العقاب عنهم أمورًا أربعة: أولها: التوبة، وثانيها: إصلاح العمل، فالتوبة عن القبيح، وإصلاح العمل عبارة عن الإقدام على الحسن، وثالثها: الاعتصام بالله، و هو أن يكون غرضه من التوبة وإصلاح العمل طلب مرضاة الله تعالى لا طلب مصلحة الوقت، لأنه لو كان مطلوبه جلب المنافع ودفع المضار لتغير عن التوبة وإصلاح العمل سريعًا، أما إذا كان مطلوبه مرضاة الله تعالى وسعادة الآخرة والاعتصام بدين الله بقي على هذه الطريقة ولم يتغير عنها. ورابعها: الإخلاص، والسبب فيه أنه تعالى أمرهم أولا: بترك القبيح، وثانيا: بفعل الحسن، وثالثا: أن يكون غرضهم في ذلك الترك والفعل طلب مرضاة الله تعالى، و رابعا: أن يكون ذلك الغرض وهو طلب مرضاة الله تعالى خالصًا، وأن لا يمتزج به غرض آخر، فإذا حصلت هذه الشرائط الأربع فعند ذلك قال: ﴿فَأُوْلٓئِكَ مَعَ الْـمُؤْمِنِيْن﴾(2).
وقال سبحانه: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتٰبَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لله الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ [الزمر:3]، يقول الإمام الرازي: ﴿فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى لما بين في قوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتٰبَ بِالْحَقِّ﴾ أن هذا الكتاب مشتمل على الحق والصدق والصواب أردف هنا بعض ما فيه من الحق والصدق وهو أن يشتغل الإنسان بعبادة الله تعالى على سبيل الإخلاص ويتبرأ من عبادة غير الله تعالى بالكلية، فأما اشتغاله بعبادة الله تعالى على سبيل الإخلاص فهو المراد من قوله تعالى: ﴿فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا﴾، وأما براءته من عبادة غير الله تعالى فهو المراد بقوله: ﴿أَلا لِلهِ الدِّينُ الْخالِصُ﴾ لأن قوله: ﴿ألَا لِلهِ﴾ يفيد الحصر، ومعنى الحصر أن يثبت الحكم في المذكور وينتفي عن غير المذكور، واعلم أن العبادة مع الإخلاص لا تعرف حقيقة إلا إذا عرفنا أن العبادة ما هي وأن الإخلاص ما هو وأن الوجوه المنافية للإخلاص ما هي؟ فهذه أمور ثلاثة لا بد من البحث عنها. أما العبادة: فهي فعل أو قول أو ترك فعل أو ترك قول ويؤتى به لمجرد اعتقاد أن الأمر به عظيم يجب قبوله. وأما الإخلاص: فهو أن يكون الداعي له إلى الإتيان بذلك الفعل أو الترك مجرد هذا الانقياد والامتثال، فإن حصل منه داع آخر فإما أن يكون جانب الداعي إلى الطاعة راجحا على الجانب الآخر أو معادلا له أو مرجوحا. وأجمعوا على أن المعادل والمرجوح ساقط، وأما إذا كان الداعي إلى طاعة الله راجحا على الجانب الآخر؛ فقد اختلفوا في أنه هل يفيد أم لا، وقد ذكرنا هذه المسألة مرارا ولفظ القرآن يدل على وجوب الإتيان به على سبيل الخلوص، لأن قوله: ﴿فَاعْبُدِ الله مُخْلِصًا﴾ صريح في أنه يجب الإتيان بالعبادة على سبيل الخلوص وتأكد هذا بقوله تعالى: ﴿وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [الْبَيِّنَةِ:5] انتهى كلام الرازي(3).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب رجل مسلم: إخلاص العمل لله تعالى(4).
يقول ابن عبد البر في شرح الحديث: «ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ فَمَعْنَاهُ لَا يَكُونُ الْقَلْبُ عَلَيْهِنَّ وَمَعَهُنَّ غَلِيلًا أَبَدًا يَعْنِي لَا يَقْوَى فِيهِ مَرَضٌ وَلَا نِفَاقٌ إِذَا أَخْلَصَ الْعَمَلَ لله وَلَزِمَ الْجَمَاعَةَ وَنَاصَحَ أُولِي الأمر» (5).
ويقول الملا علي القاري: (لا يغل): بفتح الياء وضمها وبكسر الغين، فالأول من الغل الحقد، والثاني من الإغلال الخيانة (عليهن) أي: على تلك الخصال (قلب مسلم): أي كامل، والمعنى أن المؤمن لا يخون في هذه الثلاثة أشياء ولا يدخله ضغن يزيله عن الحق حين يفعل شيئا من ذلك قاله التوربشتي. قال الزمخشري في الفائق: إن هذه الخلال يستصلح بها القلوب، فمن تمسك بها طهر قلبه من الغل والفساد(6).
وقال: إنما الأعمال بالنيّات، ولكل امرئ ما نوى(7). وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أفضل الأعمال أداء ما افترض الله تعالى والورع عمّا حرم الله تعالى وصدق النية فيما عند الله عزّ رجلّ.
أنواع الإخلاص:
الإخلاص أَقسَام: أَحدهَا أَن يُرِيد الْخَلَاص من الْعقَاب، والثَّانِي أَن يُرِيد الْفَوْز بالثواب، والثَّالِث أَن يُرِيدهُمَا جَمِيعًا، الرَّابِع أَن يفعل ذَلِك حَيَاء من الله تَعَالَى من غير خطور ثَوَاب أَو عِقَاب، والْخَامِس أَن يفعل ذَلِك حبا لله تَعَالَى من غير مُلَاحظَة ثَوَاب أَو عِقَاب، و السَّادِس أَن يفعل ذَلِك إجلالا وتعظيما. انتهى كلامه(8).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أخلص يكفك القليل من العمل ولا يرضى تعالى إلا الإخلاص» كما قال الله تعالى: (ألاَ لِلهِ الدِّيْنُ الْخَالِصُ). فإن من فعل خيرًا نحو أن يصلي لأنه اتفق اجتماعه مع المصلين فساعدهم أو أكره أن يصلي أو صلاَّها في شهر رمضان مثلًا دون سائر الأوقات أو لأجل أن ينال بها جاهًا أو مالًا، فليس ذلك مما يستحق بها محمدة. وكذا من ترك قبيحًا إما اتفاقًا أو اضطرارًا أو خوفًا أو في أي زمان دون زمان أو لأن ينال بذلك أمرًا.
إخلاص المخلص بسبعة:
يقول الحكيم الترمذي (المتوفى:نحو320هـ): فالإخلاص من المخلص يكون بسبعة أشياء: أحدها: بالتوكل على الله، والثاني: بالتفويض إلى الله، والثالث: باليأس عن المخلوقين، والرابع: بتذكره ضعف الخلق وقلة حيلتهم، والخامس: بتذكره العزّ والذلّ والرفعة والوضع من الله لا من المخلوقين، لقول الله تعالى: (قُلِ اللّٰهُمَّ مٰلِكَ المُلْكُ) و السادس: بتذكره جزاء الأعمال بعد الموت عند الميزان والجنة، والسابع: بتذكره وسوسة الشيطان إياه الرياء والثناء و المحمدة بألاّ يقبل ذلك منه.
فشكل الإخلاص الاستقامة على ذلك العمل، وضده الرياء، وللمخلص ثلاث علامات: أولها: أن يخاف من المحمدة؛ لأنه يبطل عمله، ويعطل عمره في تلك الأعمال، ولا يرجو الثواب إلاّ من الله، والثاني: لا يخاف ملامة اللائمين ؛ لأن من خاف من ملامة الناس ترك كثيرًا مما كان لله فيه رضا ويكون خوفهم ملامة الله، والثالث: لا يحب المعذرة؛ لأن صاحب المعذرة لا يكون مخلصًا(9).
ثلاثة أشياء من فعال المخلص:
أولها: أن يتكلم بالحق، وإن كان مرًا ولا يبالي ممن يكون، والثاني: أن يعمل بالحق ولا يتركه مخافة الناس وإن لم يكن له عون؛ لأن الله تعالى يعينه في طاعته، والثالث: إذا أراد أن يعمل من مخافة الله فلا يدع شيئًا من مخافة الناس، فإن مخافة الله تمنع قلبه من مخافة الناس، ولا يكون الرجل مخلصًا حتى يجتهد في هاتين الخصلتين، أولها: أن يجتهد حتى يكرمه الله بالأمن وقد يكفل الله له من مصلحة نفسه. والثاني: أن يكون ذاكرًا لضعف الناس إنهم لا يقدرون أن يصنعوا به شيئًا غير الذي قدره الله له فأخلص العمل لله، فنعم الباب الإخلاص، فطوبى لمن رزقه الله ووفقه للإخلاص(10).
درجات الإخلاص:
يقول أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري الهروي (المتوفى: 481هـ): الْإِخْلَاص تصفية الْعَمَل من كل شوب، وَهُوَ على ثَلَاث دَرَجَات: الدرجَة الأولى: إِخْرَاج رُؤْيَة الْعَمَل من الْعَمَل والخلاص من طلب الْعِوَض على الْعَمَل وَالنُّزُول عَن الرضى بِالْعَمَلِ. والدرجة الثَّانِيَة: الخجل من الْعَمَل مَعَ بذل المجهود وتوفير الْجهد بالاحتماء من الشُّهُود ورؤية الْعَمَل فِي نور التَّوْفِيق من عين الْجُود. والدرجة الثَّالِثَة: إخلاص الْعَمَل بالخلاص من الْعَمَل تَدعه يسير مسير الْعلم وتسير أَنْت مشاهدا للْحكم حرا من رق الرَّسْم(11).
منزلة الإخلاص في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
يقول ابن تيمية رحمه الله: «وإذا كانت جميع الحسنات لا بد فيها من شيئين: أن يراد بها وجه الله، وأن تكون موافقة للشريعة، فهذا في الأقوال والأفعال، في الكلم الطيب، والعمل الصالح، في الأمور العلمية والأمور العبادية، ولهذا ثبت في الصحيح عن النبي-صلى الله عليه وسلم-: «أن أول ثلاثة تسجر بهم جهنم: رجل تعلم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن وأقرأه ليقول الناس: هو عالم وقارئ، ورجل قاتل وجاهد ليقول الناس: هو شجاع وجريء، ورجل تصدق وأعطى ليقول الناس:جواد سخي»(12). فإن هؤلاء الثلاثة الذين يريدون الرياء والسمعة هم بإزاء الثلاثة الذين بعد النبيين من الصديقين والشهداء والصالحين، فإن من تعلّم العلم الذي بعث الله به رسله وعلّمه لوجه الله كان صديقا، ومن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وقُتِلَ كان شهيدًا، ومن تصدق يبتغي بذلك وجه الله كان صالحا، ولهذا يسأل المفرط في ماله الرجعة وقت الموت، كما قال ابن عباس: من أعطي مالا فلم يحج منه ولم يزك سأل الرجعة وقت الموت. وقرأ قوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنٰكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الـْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصّٰلِحِيْنَ﴾ [المنافقون:10](13).
قالوا في الإخلاص:
قال الغزالي في الإحياء: «قال السوسي: الإخلاص فقد رؤية الإخلاص؛ فإن من شاهد في إخلاصه الإخلاص فقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص. وما ذكره إشارة إلى تصفية العمل عن العجب بالفعل؛ فإن الالتفات إلى الإخلاص والنظر إليه عجب وهو من جملة الآفات، والخالص ما صفا عن جميع الآفات، فهذا تعرض لآفة واحدة. وقال سهل – رحمه الله تعالى-: الإخلاص أن يكون سكون العبد وحركاته لله تعالى خاصةً. وهذه كلمة جامعة محيطة بالغرض، وفي معناه قول إبراهيم بن أدهم: الإخلاص صدق النية مع الله تعالى. وقيل: لسهل أي شيء أشد على النفس؟ فقال: الإخلاص؛ إذ ليس لها فيه نصيب. وقال رويم: الإخلاص في العمل هو أن لايريد صاحبه عليه عوضًا في الدارين. وهذا إشارة إلى أن حظوظ النفس آفة آجلًا وعاجلًا»(14).
* * *
الهوامش:
(1) ابن الجوزي، زاد المسير، تفسير الآية.
(2) الرازي، مفاتيح الغيب، تفسير الآية.
(3) الرازي تفسير الآية.
(4) رواه الترمذي برقم [2658]
(5) ابن عبد البر، التمهيد21/277.
(6) الملا علي القاري، مرقاة المفاتيح 1/306.
(7) رواه البخاري باب بدء الوحي برقم[1]، ومسلم في الإمارة برقم [1907]
(8) مقاصد الرعاية لحقوق الله 1/54 وما بعدها.
(9) الحكيم الترمذي، العقل والهوى1/3-4.
(10) نفس المصدر.
(11) الهروي ، منازل السائرين 1/40-42.
(12) رواه مسلم بمعناه برقم [1905].
(13) ابن تيمية، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر1/54.
(14) الغزالي، إحياء علوم الدين 4/381.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالقعدة 1438 هـ = أغسطس 2017م ، العدد : 11 ، السنة : 41