إشراقة
لا يُوْجَدُ على الكوكب الأرضيّ مخلوقٌ أكثرُ تعقيدًا من الإنسان. أنتَ تقدر في ضوء علمك وخبرتك بالحياة وبالناس، وبمدى ذكائك وفطنتك، أن تقيس الأشياء، وتعرف مظهر المخلوقات كلها ومخبرها، وتتوصّل إلى عمق الموجودات وسعتها، وطولها وعرضها، وما يحصل لها من تغيرات، ومايأتي عليها من أحوال.
وقد لا تخطئ حتى في الكميّة أو الكيفية التي تتوصل إليها فيما يتعلق بظاهر شيء أو باطنه، وكنهه وصفاته وخواصّه وما ينطوي عليه من منافع ومضارّ.
ونظرًا لظاهر شيء قد لا تخطئ في التنبّإِ بباطله، ونظرًا لعوارضه قد لا يخطئك الصواب في التنبّإِ بالعلل التي هو مُصَابٌ بها أو سيُصاب بها عاجلًا، ونظرًا لما حوله قد لا تخطئ في التنبّإ بالطوارئ المارّة به وبالأعطال التي تنتظره والتي ستحول دون أدائه وحركته.
ولكنك رغم علمك الجمّ، وخبرتك الطويلة، وحياتك المديدة التي عشتَ فيها برد العيش ولفحه، وذكائك النفّاذ، وفكرك الثاقب، ونظرتك البعيدة المدى، واحتكاكك بالأمم والشعوب، وقراءتك الفاحصة لنفسيّة البشر وعقليّة الأقوام، وتعليمات شتى الديانات، لا تستطيع أن تقيس عمقَ فرد من البشر وسعتَه أو طولَه وعرضَه، وأن تقرأ قراءةً تفضي بك إلى نتيجة مطابقة للواقع وجهَه لتعلم قلبه، وتتفرس في ملامحه لتتوصل إلى مدى مصداقيّته في قوله وعمله ومشوار تحرّكاته.
ذلك أنّ الإنسان أعمقُ من البحر اللُّجيّ، وأوسعُ من الكون، وأطولُ مما بين المشرقين، وأعرضُ مما بين السماء والأرض، وأكثرُ تعقيدًا من الجذور المتشابكة في باطن الأرض لدوحة طاعنة في السنّ مترامية الأغصان. ولم يقدر ولن يقدر أحد – سوى الخالق البارئ المصوّر القادر العليم الحكيم تعالى – على أن يعلم علمًا صحيحًا سعتَه وعمقَه، وطولَه وعرضَه، وأن يتنبّأَ صحيحًا بباطنه في ضوء ظاهره، و بأحوال داخله في ضوء خارجه، وبما يدور في دوائر فكره، وأُطُر رؤيته، وبحر خاطره، وصحراء ناظره، من رؤى وقرارات.
كثيرًا ما يبدو الإنسان بغير ما هو عليه في باطنه وحقيقته. يبدو مَلَكًا وهو أخبثُ من على الأرض بسلوكه وأدائه، يتّجر بمظاهر الدين، وبما يتبنّاه من أحكامه وشرائعه، ويستغلّه لتحقيق المكاسب واستدرار المنافع، واستمطار الأرزاق، واستعطاف الناس، وكسب الودّ. ويبدو شديدًا وهو في الواقع على غير ما يبدو عليه طيبَ أخلاق، وحسنَ معاملة، ومواساةً للإنسان، ومراعاةً للأخوّة الدينية، وتقيّدًا بالآداب والتعليمات الإنسانية، وسبقًا إلى الخيرات، ومبادرةً إلى معانقة الأخطار وركوب الأهوال، وتبنّى مواقف الغيرة القوميّة والسلامة الوطنيّة ومقتضيات العقيدة والإيمان.
ربّما يبدو كئيب الوجه، كسير الخاطر، رقيق الحال، مُعْدِمًا مفلسًا، يستوجب ظاهرُه مساعدةً عاجلةً، ولفتةً لازمةً، ومواساةً غير مُتَأَخِّرَة؛ ولكنّه يكون في الواقع مطمئن الحال، وفرح البال، ذاعيش رقيق الحواشي، يملك أغنى الغنى، وأثرى الثروة، وأثمن الكنز، وهو غنى القلب ورضا النفس والقناعةُ بقِسْمة الربّ والطمأنينةُ التي تغمرُ وجودَه وتلفُّ كيانَه كلّه.. يبدو فقيرًا ولكنه «مَلِكٌ» حرّ التصرّف ومطلق الإرادة في «إمبراطوريّته» لا يخاف عدوًّا مغيرًا، ولا لِصًّا هاجمًا.. ينام ملءَ الجفون، ويصحو طلقَ الْمُحَيَّا، ويتحرّك في الحياة ثابتَ الخطى، مطمئنَ القلب محسودًا للملوك والأباطرة، مغبوطاً لدى ذوي الثروات المترفة.
إذا كنتَ تقدر على التوصّل إلى معلومات دقيقة وأرقام صادقة عن كل حَيَوَان في البرّ والبحر، وكلّ كائن فيما بين السماء والأرض، إذا كسبتَ لذلك العلمَ اللازم، وصبرتَ على الدّراسة، وتوفّرتَ على البحث والتفكير، وبذلتَ له الوقتَ الكافيَ والإمكاناتِ الْـمُتَاحَةَ، وجَنَّدْتَ له الوسائل المُيَسَّرَة.
فإنك لن تقدر – مهما حاولتَ، وفكّرتَ وقدّرتَ، وقارنتَ وحلّلتَ، و وصلتَ بين المتناقضات وجمعتَ بين المتوافقات – على سبر أغوار النفس البشريّة وأعماق الطبيعة الإنسانيّة، وعلى الاطّلاع على التعقيدات الفكريّة لهذا الكائن الحيّ الّذي سخّر البرّ والبحر، ويحاول أن يصطاد النجوم، ويقتنص الشمس والقمر وأشقاءهما من الكواكب، ويدرك الأسرار الكامنة والأدوار الخافية والأعمال الدقيقة والوظائف المختلفة العجيبة التي أرادها الله تعالى من الأشياء التي بسطها في هذا الكون الهائل الذي خلقه بقدرته.
الإنسان بسيطٌ ومُعَقَّدٌ، مفرد ومركّب، مألوف وغريب، حليم وشديد، سهل وصعب، عاقل وغبيّ، عجول وصبور، متناقض ومتوافق، وعشرة في عشرة بل هو مائة في مائة أو قل: هو ألف في ألف أو مائة ألف في مائة ألف، أو مليون في مليون أو بليون في بليون – إذا صحّت هذه التعابير وسمح بها عرف الناس – إنّه ساذج إلى حدّ العجب، وماكر إلى مدى الغرابة، شريف لحدّ أنّ الملائكة تغطبه، وخبيث لحـدّ أن الشياطين تودّ أن تتلمذ عليه وتتعلم منه. إذا صلح ارتفع حتى بَذَّ في رفعته السماواتِ، وعظمت مكانتُه فلا تسعها السماء والأرض، وإذا هبط سقط إلى الحضيض من الذلّ وآخر حدّ من قعر الهوان.
كلُّ الأشياء في الكون غير بني آدم ظاهرها كباطنها في الأغلب أو إلى الحدّ الأقرب، ومظهرها ينمّ عن مخبرها، وصورتها عن حقيقتها. فالوصولُ في شأنها إلى النتائج المطلوبة والأحوال المرجوة سهل للغاية.
أمّا الإنسان فلكلّ فرد منه صورٌ عديدةٌ: صور حقيقية وصناعيّة، صور طبيعية ومُتَكَلَّفَةٌ، صور تقتضيها الحاجات وتفرضها الضرورات؛ وحقائق مختلفة؛ فقد يختلق «الحقائق» حسب الضرورات ويتخلى عن حقيقة ليرتدي «حقيقة» فرضها الواقع.
قد يبكى فيرثى له القريب والبعيد؛ ولكنّه في الواقع يضحك ويمارس البكاء كفن أو مهنة أتقنها بالكسب والاجتهاد وبذل الوقت.
قد يضحك فيتوهّم الأقربون والأبعدون أنّه يضحك ضحكَ الخبيث، ويبتسم ابتسامَ الـمُتْرَفِيْنَ، ويفرح فرح الطاغين المستغنين؛ ولكنّـه في الواقـع يبكى بكاءَ الثّكلى المفجوعة في وحيدها، ويتوجّع توجّـعَ الأبيّ أُصِيْبَ في شرفــه، والغنـي سُلِبَ جميـعَ ما كان لديه.
أنت تقدر على أن تُرَوِّضَ ترويضًا كاملًا كُلًّا من الجاموس، والثور، والفيل، والغنم، والإبل، حتى السباع الضواري، والطيور ذات المخالب، والحيات ذات السموم المميتة، والثعابين التي لا تدع اللديغ ليتناول جرعة من الماء.
ولكنك لن تقدر على ترويض الإنسان – أشرف المخلوقات وأكرم الموجودات – بتلك السهولة نظرًا للتعقيدات التي تنطوي عليها طبيعتُه، وأنواع من الزيغ رُكِّبت معها طينتُه.
يأتي الأنبياءُ والرسلُ، ويعقبهم وَرَثَتُهُمْ من العلماء الصالحين والعباد الربانيين، ولا يألون جهدًا أو وقتًا أو وسيلةً في ترويض الإنسان، وتهذيبه، وصوغه في القالب المرضيّ لدى الربّ؛ ولكنهم لا يقدرون على ترويض كل إنسان، وتهذيب كل فرد بشريّ وتثقيف كل عضو في المجتمع الإنسانيّ:
﴿إِنَّكَ لا تَهْدِيْ مَنْ أَحْبَبْتَ وَلٰكِنَّ اللهَ يَهْدِيْ مَنْ يَّشَآءُ﴾ (القصص:٥٦)
قد يُمْضي النبيّ ألفَ عامٍ في الدعوة والتبليغ فلا يؤمن به إلّا المعدودون على الأصابع. وقد يبذل الأنبياءُ مُهَجَهُمْ وأرواحهم في أداء الأمانة فلا ترقّ قلوب القوم من البشر، ولا تنفذ فيهم كلماتُهم الساحرةُ الرقيقةُ الـمُرَقِّقَـةُ، وأساليبُهم اللّطيفة البليغة.
قد يبذل الداعي والمربي والمعلم كلَّ ما لديه من أساليب الدعوة والتربية والتعليم، وطرائق التفهيم والتلقين، والتسهيل والتقريب، ويعصر لذلك قلبَه وفكره: يُدْمِعُ عينُه، ويَكْلُمُ فؤادَه، ويُؤْذِيْ نفسَه، ويَسْهَرُ لَيْلَهُ، ويَتْعَبُ نَهَارَهُ؛ فلا يَفوز بالحصيلة المطلوبة والنتيجة المنشودة؛ لأنّ الإنسان: ذلك المخلوقَ المعقّد، السهل الصلب، البعيد الأغوار، الغريب الأطوار، الْـمَطْوِيَّ على الأسرار، الْـمُنْقَادَ لحدّ عجيب، العاصي إلى مدى بعيد؛ لم تُعْطِ فيه جهودُه المضنيةُ النتيجةَ المتوخّاةَ.
يتأثّر لحدّ أنَّ كلمةً واحدة قد تُغَيِّرُ مجرى حياته وتضع حدًّا لغلوائه ونهاية لجميع سلبياته، وتجعل قطار حياته يتحرّك على الخطّ المستقيم.
ويتأبّى لحدّ أنَّ المواعظ الساحرة، والخطب الطويلة، والدروس العظيمة، والنصائح الغالية، وكلمات المربين المخلصين المتألّمين تضيع فيه ضياعَ الذَرَّة في الصحراء الواسِعة.
قد يتأذّى بالكلمة الطيبة واللفظة الناعمة نعومة الحرير، فيقاومها بعمله، ويعارضها بسلوكه، ويرفضها بقوله، ويجمع ضدها من يُشَاطِرُوْنَه الرأيَ.
وقد لا يُبَالِي بالكلمة الصلبة كالحجر، المؤذية كالسهم، اللادغة كالعقرب، والْـمُهِيْنَة كالعدوّ؛ فيُقَابِلُها بالقول الجميل، والعمل الحسن، والسلوك الطيب.
قد يحمل المواساةَ من قبل أخيه على معنى سلبيّ أو مطلب ماديّ، وقد يظنّ المعاملة الخشنة من أحدٍ من الإنسان أنّها إكسير لحياته و وسيلة نجاح فيما هو في سبيله.
الدعوةُ الزائدةُ إلى الخير، وتكرار كلمات النصح، وترداد التبليغ بالصلاة والزكاة والصيام وغيره من الأحكام، قد تثير فيه غريزةَ المعارضة والانتقام، فيقابل الداعيَ للخير بمواقف متشددة، فضلًا عن أن يستجيب للنداء الذي أطلقه.
من هنا كان الواجب على الدّاعي والمعلّم والمربّي أن يكون حليمًا كريمًا عطوفًا صبورًا مثابرًا في جانب، وحكيمًا عاقلًا لَبِقًا مُتَبَصِّرًا بالوقت المناسب والفرصة المواتية في جانب آخر.
وبقدر تمتّعه بهذه الصفات يحقّق النجاح في دعوته وتعليمه وتربيته، وبقدر فقدها لها يحصد الإخفاق ويبوء بالفشل.
ولذلك كان الأنبياءُ والرسل كلهم مُكْرَمِيْنَ من قبل الله تعالى بتلك الصّفات والخصائص بشكل كامل وبصورة متوافرة.
ومن ثمّ قد يُخْفِقُ أو لا يحقّق النجاحَ للحد المطلوب الداعي والمعلم والمربي رغم إخلاصه الكبير، وجهده المتواصل، إذا كان لا يمتاز بالحكمة واللّباقة، وبالإنسانيّة والكرم، وبالصبر والمثابرة، للنصاب المطلوب.
إنّ الخبير كلّ الخبرة بالنفس البشريّة، والمطّلعَ على أبعاد الطبائع الإنسانيّة كلّ الاطّلاع، إذا كان لا يقدر أن يتعامل مع الإنسان: كُلِّ فردٍ منه بما ينبغي، فكيف بداعٍ أو أستاذ أو مُرَبٍّ عَجُوْلٍ أو قَسِيٍّ في معاملته أو فظٍّ غليظٍ قَلْبُهُ، أو مُحَاوِلٍ أن يُغَيِّرَ أحوالَ المخاطبين المدعوين بين عشية وضحاها، ولم يحاول ذلك حتى الأنبياءُ الذين كان الله معهم بالتأكيد.
كم من داعٍ ومعلمٍ ومُرَبٍّ مزعوم وجدتُه يرتكب الخطأ: خطأَ محاولةِ الحصد قبل الانتظار بعد الزرع، وخطأَ عرض الدعوة والدرس في عدم لباقة وبدون حكمة وفي لحظة غير مناسبة وفرصة غير لائقة، واستعدادٍ غير مسبق، وتحضيرٍ غيرِ كافٍ، وبدون قراءةٍ جدّيّة للحال والمآل، وتهيئةٍ مطلوبة لأرضيّة قلب المخاطب. ورغم ذلك وجدتُه ينتظر نتائجَ خَيِّرةً مُبَشِّرةً. إنّه من الغباء الذي لاغباء بعده!.
وهكذا كم من أناس وجدتُهم يثقون بكل من هَبَّ ودَبَّ، ويُخْلِدُوْن إلى كلّ من تَظَاهَرَ بالوفاء، ويفرحون بالنعومة تُوْجَدُ على جلد الحيّة ذات الطبيعة الخبيثة، وينخدعون بكل من هَشَّ في وجوههم وبَشَّ، وبكل عدوّ محتال ومغير مغتال يقابلهم للخداع طلقَ الوجه باسم الثغر، ولا يحاولون أن يقرؤوا طبيعةَ الحياة فيرموا بعيونهم إلى السكاكين الحادّة المسمومة التي يتأبّطها ليذبحه ذبحَ النعجة دونما شعور برحمة.
أيّها الإنسان! أنتَ في راحة أيّ راحة إذا تعاملتَ في هذا الكون الهائل مع أيٍّ من الحَيَوَانَات والجمادات والنباتات غير الإنسان؛ حيث لا تحتاج إلى تنبّهٍ زائد وتيقّظ كافٍ.
أمّا إذا رماك الدهرُ بأخيك الإنسان شريكِ لحمك ودمك، ومُشَاطرِ فضائلك من الأخلاق والآداب، ومُقَاسِمِ عشائرك من الأفكار والأفعال، وصورتك الأولى والثانية في كل آمالك وأعمالك، وآلامك وأحزانك.. يجب عليك وجوبَ أوامر أستاذك الوفيّ عليك، أن تكون على حذر كامل، واحتياط مستطاع؛ لأنّك تتعامل إذن مع أعدى أعدائك وأصدق أصدقائك في وقت واحد؛ فلا يُوْجَدُ على وجه الأرض غير الله أرحمُ بك من الإنسان، ولا أضرى منه وأفتك، وأقتل منه وأقسى في نفس الوقت.
ذلكَ هو الإنسان الذي إذا أحصى الحسنات فاق الملائكةَ، وإذا تمرّغ في السيئات تخرّج أستاذًا للشياطين.
(تحريرًا في الواحدة من ظهر يوم الثلاثاء: 26/شعبان 1438هـ الموافق 23/مايو 2017م).
أبو أسامة نور
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالقعدة 1438 هـ = أغسطس 2017م ، العدد : 11 ، السنة : 41