الطائفيّة المُتَفَاقِمَة في البلاد وتَسَمُّم النفسيّة الشبابيّة منها بنحو خطير

إشراقة

       عندما كنّا صغارًا نتعلّم في الكُتَّاب ثم في المدرسة، ثم كنّا غِلْمانًا نتعلم في الجامعة، لم يكن في حسباننا أن الطائفيّة في بلادنا ستَتَفَاقَمُ ولاسيّما لدى الجيل الجديد من الشباب الهندوسي لهذا الحدّ الخطير الذي نلمسه اليوم، ولاسيّما في ولاية «أُتْرَابَرَادِيش» التي تُلاَصِق العاصمةَ «دهلي» والتي تحتلّ أهميّةً كبرى لدى كل من المسلمين والهندوس، لكونها تَحتَضِن أهمَّ المراكز الدينيّة لكل من الطائفتين؛ ففيها تُوجَد كلٌّ من مُدُن «بَنَارَاس» و«الله آباد» و«مَثُورَا» و«دَاهَرَادُون» – وقد عادت الأخيرة تضمها ولاية «أُتْرَا كَهاَنْد» التي انفصلت منذ سنوات عن ولاية «أُتْرَا بَرَادِيش» – التي يُقَدِّسها الهندوس ويَشُدُّون الرحالَ إليها فرديًّا وجماعيًّا للتبُّرك بها وأداء عبادات وطقوس لا يُؤَدُّونَها إلّا فيها.

       كما توجد بها أهمُّ المراكز الإسلاميّة والجامعات التي تَضَخُّ الدم الطازج بالقدر المطلوب لحياة وصحة الجسم الإسلاميّ في الجزء الشرقي من العالم، وعلى رأسها أمُّ المدارس والجامعات الإسلاميّة في شبه القارة الهنديّة: الهند وباكستان وبنغلاديش ونيبال، المعروفة بـ«دارالعلوم/ديوبند» وتليها جامعةُ مظاهر العلوم بمدينة «سهارنفور» وجامعةُ دارالعلوم ندوة العلماء بمدينة «لكهنؤ» وبها تُوجَد أكبرُ الجامعات العصريّة الرسميّة في الهند وهي جامعة «عليجراه» الإسلاميّة التي كان قد أَسَّسَها المصلح الزعيم المثقف المسلم «سرسيّد أحمد خان» (1232-1315هـ = 1817-1898م) في 24/مايو من عام 1875م الموافق 17/جمادى الأولى 1292هـ. إلى جانب كثير من المدارس والمنظمات الإسلامية التي لا توجد بهذه الكثرة في غيرها من الولات الهندية.

       كما أنّ هذه الولاية تَلْعَبُ دورًا رئيسًا في إدارة سياسة البلاد منذ أن استقلّت البلاد، فالحزبُ الذي يَنْجَحُ فيها في الانتخابات الإقليميّة والانتخابات المركزيّة، أو إحدى منهما يُعَدّ ذا نفوذ أكبر وقدرة أكثر على التصرّف في الشؤون السياسية والتحرك على المسرح السياسي وامتلاك ناصية الأحزاب السياسيّة، لكونها أكبر ولاية بالبلاد بالنسبة إلى الكثافة السكانيّه، وأكثر إنجابًا للرجال المُؤَهَّلِين في كثير من المجالات؛ فهي القلب الخَفَّاق في جسم البلاد.

       ورَغْمَ أنّ الكراهيةَ بين الطائفتين ظَلَّتْ مُتَبَادَلَةً حتى على عهد الاستعمار الإنجليزيّ، الذي ظلّ يُثِيرُها عملاً بموقفه الذي وَضَعَه ونَفَّذَه لترسيخ قدمه في البلاد، وهو «فَرِّقْ تَسُدْ»، زادت إثر استقلال البلاد وتيرةُ الكراهيةالتي تَمَثَّلَتْ أحيانًا كثيرةً في الاضطرابات الطائفيّة التي ربما اَسْفَرَتْ عن القتلى والجرحى والخسائر في المُمْتَلَكَات، وفي الأغلب كان المسلمون هم ضحاياها.

       وكانت الحالُ على هذا المنوال إذ جاء عام 1984م الذي تَجَوَّلَ بدءًا منه الزعيمُ الهندوسيُّ البارز «إيدفاني» (لالاكرشنا إيدفاني و1927م) في أنحاء البلاد لإثارة الهندوس للاستيلاء على المسجد البابري الأثري (تاريخ بنائه يرجع إلى 1529م) وزرع الكراهية الشديدة في قلوب الهندوس ضد المسلمين، وهَدْمِه – المسجد – عن آخره، حتى احتشد الهندوس في مدينة «أجودهيا» بعدد لا يقل عن نحو مئتي ألف، وبدؤوا يهدمونه منذ الساعة الثانية مساءً من يوم أحد: 10/جمادى الآخرة 1413هـ الموافق 6/ديسمبر 1992م حتى سَوَّوْه بالأرض، ونصبوا مكانه تمثالَ إلـٰهِهِم «راما» بعدما مَهَّدُوا الأرضَ وأنشأوا عليها معبدًا مُوَقَّتًا.

       وإثر هدم المسجد البابري على مرأى ومسمع من العالم تَفَجَّرَتْ الاضطراباتُ الطائفيّة في أرجاء البلاد كلها، وذهب عددٌ كبيرٌ من المسلمين ضحايا لها إلى جانب ما لَحِقَهم من الخسائر الباهظة في الْـمُمْتَلَكَات، وظلّت البيئةُ في الهند مُتَوَتِّرَةً طَوَالَ شهور طويلة.

       كان هدمُ المسجد البابري بالونَ اختبار قَدَّرَ من خلاله المتطرفون من الهندوس مدى قدرة المسلمين على «الصبر» و«الاحتمال» وعجزهم عن صاينة أنفسهم وأموالهم، ولاسيّما في حالة كون الشرطة – وهم هندوسٌ في الأغلبيّة الساحقة – واقفةً بجانبهم ومنحازةً إليهم في جميع الاضطرابات الطائفيّة ونتائجها الوخيمة المتمثلة في اعتقالهم والزجّ بهم في السجون لأعوام طويلة ومُحَاكَمَتِهم الطويلة في كل من المَحَاكِمِ المحليّة فالمحاكم العالية فالمحاكم العليا، ثم إدانتهم بالجرائم وفرض الغَرَامَات عليهم وإطالة مَكْثِهم في السجون.

       إنّ هدم المسجد البابري عَمَّقَ ووَسَّعَ الكراهيةَ في قلوب كل من الطائفتين وجَرَحَ مشاعر المسلمين بشكل لا يقبل الوصفَ، ونَشَأَ الجيلُ الهندوسيُّ الذي عَاصَرَ الكارثةَ أو وُلِدَ إثرها يَرِث الكراهيةَ ضد المسلمين؛ لأنه قد رُسِّخَ في ذهنه أن المسلمين أعداءُ أَلِدَّاءُ للهندوس؛ لأنهم كانوا قد بَنَوْا المسجد – كما  يزعم الهندوس – مكانَ ولادة إِلـٰهِهِم الكبير «راما»، ولا زَالُوا أصرُّا على الإبقاء عليه، وبعدما هَدَمْنَاه لا يزالون يُطَالِبُون الحكومةَ بالسماح لهم ليُعِيدُوا بناءَه في المكان نفسه.

       وزاد الطينَ بَلَّةً أن المُنَظَّمَة الهندوسيّة «آر إيس إيس» – التي هَدَفُها الأساسيّ أولًا كَهْرَبَة قلوب الهندوس بالكراهية المتناهية ضد المسلمين، وثانيًا هَنْدَكَةُ البلاد وإقامة دولة هندوسيّة فيها لامكان فيها للمسلمين بهويتهم الإسلامية – تَوَلَّتْ بصفة خاصّة بعد هدم المسجد البابري الذي عَدَّتْه خطوةً أُولىٰ إلى إقامة الدولة الهندوسية في البلاد، تربيةَ الأطفال الهنـدوس، ورَكَّزت عليها تركيزًا لم يُعْهَدْ في الماضي، وبَلَغَ عددُ المدارس التي أنشأتها آلافًا متزايـدة، تديرها بالتبرعات الهندوسيّة الشعبيّة العامة التي تَتَّبِع في جمعها طريقةً خاصّةً وَضَعَتْها لذلك.

       وإلى جانب ما تُعَلِّمُهم فيها، تُرَوُِّضهم على استخدام الأسلحة وتأخذهم بالرياضة البدنيّة وتُرَبِّيهم على منهج متكامل يزرع في قلوبهم منذ البداية الكراهيةَ والعداءَ ضدّ المسلمين، فيَنْشَأ النُشْءُ الهندوسيّ مُتَسَمِّمًا ذهنُه ومُشْرَبًا في قلبه العداءُ الشديد ضدّ «خصمه» المسلم؛ من ثم نرى الشباب الهندوسي الجديد أشدَّ كراهيةً للمسلمين في الأغلب، من جيل الكهول والشيوخ الهندوس؛ لأن هذا الجيل الأخير لم يَتَخَرَّجْ في مدارس «آر إيس إيس» وظَلَّ في الأعمّ بمنجاة من عمليّة التسميم وغسل الأدمغة.

       ومع الأيّام يزداد تَسَمُّمُ أدمغة الشباب الهندوسيّ، ولاسيّما في ولاية «أُتْرَابَرَادِيش» التي تقع فيها مدينة «أجودهيا» التي يقع فيها المسجد البابري؛ فقد نشرت الصحف الهندية يوم الخميس: 8/ربيع الأول 1438هـ الموافق 8/ديسمبر2016م، تقريرًا أَصْدَرَه «مركزُ تطوير المجتمع» Center of Developing Society (CSDS) بعنوان (الشباب الهندوسي بولاية «أُتْرَابَرَادِيش» قد تَفَاعَلَ مع التحزُّب الطائفيّ) وهذا المركزُ ظَلَّ يُتَابِع قضية المسجد – المعبد طَوَالَ العقدين: العقد العاشر من القرن العشرين الماضي والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين الذي تُعَايِشُه؛ فمنذ 1996م ظلّ يسائل الأفراد الذين اسْتَعْلَمَهُمْ آراءَهم: أيًّا من المسجد أو المعبد يَوَدُّون إِقامتَه مكانَ المسجد المهدوم؟ ففي عام 1996م أجاب 58٪ من الهندوس أنهم يَوَدُّون إنشاءَ معبدهم وحده، ومن جانبهم قال 56٪ من المسلمين أنهم يريدون إنشاءَ المسجد وحده.

       وبقيت النسبة المئويّة نفسها لعام 2002م؛ لكن النسبة تغيّرت كثيرًا في عام 2009م؛ حيث انخفضتْ نسبة المطالبة ببناء المسجد وحده لدى المسلمين؛ لكنه في يوليو 2016م ارتفعت نسبةُ المطالبين الهندوس ببناء المعبد وحده، على حين بقيت نسبة المطالبين المسلمين ببناء المسجد وحده في مكانها، ونسبةُ المسلمين المطالبين ببناء المسجد والمعبد معًا ارتفعت.

       إن الإحصائيّة الحاليّـة تقـول: إن نحو 49٪ من الهنـدوس يطالبـون بأن المكان الـمُتَنَازَعَ عليه يجب أن يُبْنَىٰ عليه المعبدُ وحده، على حين إن 28٪ من المسلمـين فقط يطالبون ببناء المسجد وحده عليه، وعلى ذلك ارتفعت نسبة من يطالبون ببناء المسجد والمعبـد على المكان الـمُتَنَازَعِ عليه؛ ولكن عدد المسلمين المطالبـين بـذلك في «أُتْرَابَرَادِيش» أكثر من عـدد الهنـدوس المطالبـين بـه فيها، المُحَلِّلون السياسيّون والمُعَلِّقُون الاجتماعيّون يرون أن هـذا الفـرق بين المسلمين والهندوس يرجع إلى أنه جَرَىٰ في الولاية – أُتْرَابَرَادِيش – اسْتِقْطَابُ Polarization الطائفيّـة بشكل هائل خلال السنوات الأخيرة، فأَدَّتْ إلى تفجر اضطرابات طائفيّـة في مُعْظَم مـديريّات الولايـة شَكَّلَتْ ارتفـاعًا ملحوظا بالنسبة إلى أقطار البلاد الأخرى: وكان للجـزء الغربي من الولاية النصيبُ الأكبرُ منها، وخاصّة لمديريتي «مظفرنجار» و «شاملي» ويبدو أن هـذه المنطقة صارت بُؤْرةَ صراعات طائفيّة منــذ أن شَهِدَتْ مناطقُ المديريتين حوادثَ طائفيةً داميةً خلال 2013م؛ حيث إن المُنَظَّمَات الهندوسيّة ظلّت منـذئذ تَسْعَىٰ لإثارة التوتّر الطائفي.

       فأثارت قضية «الجهاد بالغرام» أي أن الشباب المسلم يَتَصَيَّدُون الفَتَيات الهندوسيّات بالغرام ويُحَوِّلُونَهنّ مسلمات، وبذلك يقومون بعمليّة «الجهاد» الذي يَأْمُرُهم به دينُهم. وكانت قضيّةً مزعومةً مُخْتَلَقَةً؛ ولكن المُنَظَّمَات الهندوسيّة الطائفيّة ظلّت تُثِيرها من وقت لآخر عَبْرَ وسائل الإعلام وتُبْدِي ردود فعل عمليّة ضدّها من خلال توتير الوضع.

       ثم رَكَّزت على قضية صيانة البقر التي هي عند الهندوس أُمٌّ دينية يُقَدِّسُونَها كآلهتهم الكثيرة، وأثارت لذلك ضَجَّةً واسعةً، أدت إلى اغتيال هندوسٍ لمسلم اسمه «أخلاق» في قرية «دادري» الملاصقة لمدينة «نوئيدا» الملاصقة لدهلي العاصمة؛ حيث تَنَاوَلُوه بضرب شديد حتى لفظ أنفاسه الأخيرة. وذلك باتِّهامِهم إِيَّاه بأنّه يستهلك اللحم البقريَّ، وفَتَّشُوا عنه في ثلّاجته، حتى وجدوا فيها كميّةً من اللحم الذي زَعَمُوا أنه لحم البقر؛ ولكن الفحص الرسمي القضائي أكّد أنه لحمُ ماشية غير البقر.

       وأخيرًا زعم أحد زعماء الهندوس المنتمي إلى حزب «ب ج ب» الهندوسي اليميني اسمه «حكم سينغ» أن كثيرًا من الهندوس نزحوا من بلدة «كَيْرَانَهْ» بمديرية «شاملي» مُتَخَوِّفِين من المسلمين لأنهم في أغلبية فيها وفي المنطقة المجاورة؛ فلابدّ من تأمين حصانة لهم حتى يعودوا إلى وطنهم دونما مخافة.

       ولا شكّ أن أمثال هذه الأحداث هَدَفَتْ وتَهْـدِفُ إلى إثـارة المخافــة الطائفيّـة لدى الهندوس؛ ولذلك ارتفعت لدى الهندوس نسبة المطالبة ببنـاء المعبـد وحــده مكان المسجد البابري المهدوم. أمّا انخفاضُ نسبة المُطَالَبَة لدى المسلمين ببناء المسجد وحده مكان المسجد فالسبب فيه يرجع إلى أن المسلمين قد يئسـوا تمـامًا من إمكانية إعادة بناء المسجد مكانَـه، واليأسُ يَنْبُعُ من أن النظام الحاليَّ في البـلاد يرونــه لا يُنْصِف معهم. وهو مُؤَشِّر خطير للاستنزاف المعنويّ للديمـوقــراطيّة في هذه البلاد التي هي أكبر بلاد العالم ديموقراطيّةً. (صحيفة «روزنامــه خـبرين» الأردية اليومية، دهلي الجديـدة، الخميس: 8/ديسمبر 2016م الموافق 8/ربيع الأول 1438هـ، العدد:150، السنة:6، ص1).

(تحريرًا في الساعة 12 من ظهيرة يوم الثلاثاء: 13/ربيع الأول 1438هـ الموافق 13/ديسمبر 2016م)

        أبو أسامة نور

 nooralamamini@gmail.com

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الآخرة  1438 هـ = مارس 2017م ، العدد : 6 ، السنة : 41

Related Posts