دراسات إسلامية
بقلم: د. محمد صلاح الدين المستاوي
لا يزال التقارب والتعايش والتعاون بين المجتمعات والشعوب والأمم التي تتكون منها المجموعة البشرية دون المستوى المطلوب. وما دامت الحروب والنزاعات تندلع وما دامت الخلافات قائمة ولا تحلّ في أغلب الأحيان بالوفاق والحسنى؛ فإن المخاطر التي تتهدد الجميع ستستمرّ وسيظل ركب التمدن والتقدم في مختلف الميادين يعترى مسيرته التعثر والتقهقر.
ولا نقصد مما قلناه بث القنوط واليأس ولا التعبير عن الإحباط وإنما التشخيص للواقع الذي نحن فيه جميعًا على مختلف أجناسنا وألواننا ولغاتناوأدياننا. ذلك أنه إذا سميت الأمور بأسمائها يتعرف على مواطن الخلل وأسبابه ويتحمل كل طرف مسؤولياته.
ورغم بروز العديد من المبادرات في شغل مبادل ومنظمات وندوات ومؤتمرات من أجل إرساء قواعد للتعاون والتكامل لمواجهة المصائب والألعاب والمخاطر التي تتهدد البشرية جمعاء فإن النتائج – مثلما قلنا آنفا – هي دون المستوى المطلوب ودون الرهانات التي حددت.
ومثلما نشطت الدول والحكومات في هذا الميدان فكذلك كانت للأفراد إسهامات تذكر فتشكر؛ فقد حمل لواء الدفاع عن القيم الإنسانية الخالدة وتجسيهما في حيزالواقع المعيش مفكرون وفلاسفة وأدباء وشعراء وفنانون فضلًا عن كبار الساسة والقادة، وخاطب هؤلاء من خلال إبداعاتهم الضمير الإنساني ودعوه –بإلحاح- إلى اليقظة والاحتراس من المخاطر المحدقة بالإنسان في ذاته وكيانه وحياته وفي مستقبلة.
المسملون أول من يتجاوبون مع دعوات الأمن والسلام والتعاون
وكان المسلمون وهم يمثلون ثقـلا بشريًا وماديًا لا يستهان به – في طليعة المتجاوبين مع النداءات والمبادرات المتخذة في السنوات الأخيرة من أجل نشر السلم والأمن والوئام والتعاون والتكامل بين بني الإنسان وليس ذلك؛ لأنهم الأكثر تعرضًا للمظالم والتعديات على شعوبهم وبلدانهم وممتلكاتهم ولكن أيضًا وقبـل ذلك لتأصل هذه القيم الخالدة وتجـذرها فيهم؛ فهم أتباع دين سماوي خالـد وخاتـم للرسالات، قـال الله تبـارك وتعالى في حق النبي الذي شرفه بإرساله للناس أجمعين: ﴿وَمَا أَرْسَلْنٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعٰلَمِينَ﴾ (سورة الأنبياء:107).
إن دين المسلمين يلزمهم أن يكونوا منحازين إيجابيا إلى الحق والخير والعدل والإنصاف، إن المسلم المؤمن له من اسمه نصيب وبينهما تطابق.
المسلم داعية سلام
فالسلام والإسلام والمسلم كلمات بينها اشتراك في الحروف المكونة، والسلام في دين الإسلام اسم من أسماء الذات الإلهية، والسلام تحية المسلمين فيما بينهم تستحب البداية بها عند اللقاء، وخير المسلمين من يبدأ صاحبه بالسلام، ورد السلام واجب على المسلم.
ولهذه الكلمة: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) وقع لا يتصور عمق أبعاده في جبر الخواطر وإطفاء نيران الأحقاد وإحلال المحبة والتآخى محلها وبذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «أفلا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم» قالوا: بلى قال: «أفشوا السلام بينكم».
والسلام هو اسم من أسماء الجنة التي هي مبتغى المسلم ومطلبه لذلك أمر المسلم بأن يدعو بالدعاء المأثور: «أللّٰهم أنت السلام ومنك السلام فحيّنا بالسلام وأدخلنا الجنة دار السلام». فحياة المسلم لا يمكن أن تكون إلا سلامًا.
ولا يكون المسلم مسلما إلا إذا سلم الناس من لسانه ويده يقول – عليه الصلاة والسلام – : «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده».
والمسلم مدعو إلى أن يدخل مع غيره في السلم ﴿أدْخُلُوا في السِّلمِ كَافَّة﴾ وكل ما من شأنه أن ينشر السلام ويعزّزه لا يتأخر المسلم في دعمه والإسهام الإيجابي فيه.
وعكس السلام هو الحرب والقتال لا يبررهما الإسلام ابتداءً وعدوانًا، وإنما يبررهما دفاعا عن النفس وعن المستضعفين من النساء والشيوخ والأطفال وتصدٍ لمن يحولون دون بلوغ دين الله للناس أجمعين، وتلك هي خاصية الفتوحات الإسلامية، إنها ليست بالحروب المقدسة ولا الغزوات والحملات الاستعمارية المريقة للدماء والمزهقة للأنفس البشرية والمنتهكة للأعراض والمبددة لخيرات الغير.
الإسلام لا يبرر التسلط والاكراه
وكيف يتسلط المسلمون على غيرهم من الأمم والشعوب ودينهم يحرم عليهم الظلم والغدر والحملات والغش وإلحاق الأذى بأي كائن حي. نعم إن دين الإسلام يأمر المسلمين بتبليغ دينهم لك الناس ولكنه يحرم عليهم الإكراه والتسلط فآيات القرآن التي تؤكد ذلك عديدة، ولن نملّ من ترديدها والتذكير بها حتى لا ينحرف عنها وعن هديها القويم – جهلا وتعصبًا – المسلمون وحتى لا تذهب بعيدًا في التحامل على الإسلام والمسلمين بعض الدوائر التي لا نعتقد أنها تجهل أن تصرفات بعض المسلمين لا يمكن أن تكون حجة على الإسلام المحفوظ في أصليه الثابتين القرآن الكريم والسنة النبوية الطاهرة يقول جلّ من قائل: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّين قَد تَّبَيِّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (البقرة:256) ويقول: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلٰكِنَّ اللهَ يَهْدِيْ مَنْ يَشَاءُ﴾ (القصص:56)، ويقول: ﴿لَكُمْ دِيْنُكُمْ وَلِيَ دِيْنِ﴾ (الكافرون:6)، والرسول –صلى الله عليه وسلم- هو منذر ومبشر وهو ليس بالمسيطر أو المتسلط.
وغير رسول الله –صلى الله عليه وسلم- راد ومردود عليه ولا يمكن أن يكون حجة على الإسلام وعلى الأمة الإسلامية، وأول من يستنكر صنيع من ينحرف عن هدي الإسلام هي أصول الإسلام جمعاء وفي طليعتها علماؤها وأهل الذكر لا تأخذهم في ذلك لومة لائم.
ولم يبلغنا في يوم من الأيام من عالم عارف انحياز إلى ما يمكن أن يخل بالسلام من قول أو فعل أو أدنى تصرف، والشاذ دائما يحفظ ولا يقاس عليه، والحق دائما هو ما كان محل إجماع، وقد عصم الله أمة محمد إذا أجمعت أن تقع في الخطأ أو عكس الأمر الحسن حيث قال –صلى الله عليه وسلم-: لاتجتمع أمتي على الضلالة وقال: «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن».
وقد أجمعت أمة الإسلام على أن السلام هو الحق وأن السلام هو الحسن لأجل ذلك فإن المسلمين لا يمكن إلا أن يكونوا دعاة سلام مسلمين لهذه القيمة النبيلة بكل ما أوتوا أوّلًا فيما بينهم ثم فيما بينهم وبين غيرهم من الأمم والشعوب.
بالإيمان يندفع المؤمن لتجسيم الأمن
وبين كلمات الإيمان والمؤمن والأمن أكثر من حرف تشترك فيه؛ ولهذا فإن مقياس قوة إيمان المؤمن إنما يتجلى في مقدار شعور من يحيطون به ويتعايش معهم بالأمان والاطمئنان إليه، وهو لا يكون مؤمنا حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وهو لا يكون مؤمنا حقا إذا جمع في قلبه بين الإيمان وكراهية الآخرين وإضمار الشر لهم. ولا يكون مؤمنا حقا إذا لم يأمن من يحيط به ممن جاوروه وغيرهم بوائقه وشروره. ولا يكون مؤمنا حقا إذا لم يكترث بما يجري حوله ولا يتحرك له ساكن إذا ما أصيب غيره بمكروه، وفي هذا السياق يقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «لا يكون أحدكم مؤمنا حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، ويقول: «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منا»، ويقول: «لايؤمن بي من بات شبعانا وجاره إلى جانبه جائع»، ويقول: «من غشّ فليس منا» ويقول: «لا يؤمن بي من لا يأمن جاره بوائقه» إلى غير ذلك من النصوص العامة والخاصة المتضافرة في سبيل تجسيم قيم السلام والأمن والتعايش والتعاون والتحابب بين المسلمين خصوصًا وبين بني الإنسان عمومًا.
التحامل على الإسلام والمسلمين غير مبرر ولا داعي له
إن هذا الرصيد الزاخر الذي لم نذكر إلا بعضه، وهذه السمات الواضحة التي لم نبين إلا بعض معالمها هي مع بعضها خير مدافع عن الإسلام والمسلمين وهي خير دافع للافتراءات والأباطيل والترهات التي يلقي بهاهنا وهناك أدعياء الفكر والثقافة وحملة الأقلام والإعلاميون، من ذلك إلصاق صفة الإرهاب والتطرف بالإسلام والمسلمين وإصدار الأعداد الخاصة في ذلك للمجلات والصحف وتخصيص الملفات الإذاعية والتلفازية للتشنيع بالإسلام والمسلمين انطلاقا من بعض اللقطات بالصوت وبالصورة يختارونها بدهاء ومكر لتزيد القراء والمستمعين والمشاهدين كراهية وحقدًا على الإسلام والمسلمين وتظهرهم في مظهر الخطر القادم الذي سيأتي على الأخضر واليابس وسيقضي على كل المعالم والمكاسب العلمية والمادية والحضارية!!.
فأين هي الموضوعية والعقلانية والتجرد؟ وأين هي النية الصادقة للوصول إلى تطويق يشترك فيه الجميع للظواهر الشاذة والمنحرفة؟
فهذه الظواهر لا يمكن أن نقصر فيها الاتهام على الإسلام والمسلمين فهناك اليوم في كل المجتمعات شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا: بين المسلمين وبين المسيحيّين، وبين اليهود وحتى بين اللادينيين دعوات متطرفة متعصبة متزمتة عنصرية تتخذ الإرهاب والقتل والتصفية الجسدية سبيلًا لبلوغ مادتها وغاياتها الدنيئة. والموضوعية تقتضي تعميم الأحكام وعدم التبرير والسكوت على طرف والتشنيع بطرف آخر واتخاذ ذلك تعلة للتحريض والتحامل على دين أمة وحضارة يشهد التاريخ والواقع أنها أقرب ما يكون إلى الكمال المنشود والمدنية الفاضلة التي حلم بها كبار الفلاسفة والمفكرين.
السبيل الأقوم لمعالجة قضايا السلم والأمن
إن السبيل الأقوم والمنهج الأرشد في معالجة قضايا السلم والأمن في العالم الذي أصبح قرية كونية لا تحد بين أحيائها وشوارعها وأزقتها حدود هو في صدق النوايا وإخلاصها وحسن الظن والتطابق بين الشعارات والنداءات والتصريحات والبيانات من جهة وبين الواقع والممارسات الفعلية من جهة أخرى.
وسبيل ذلك ينبغي أن يبرز في برامج مرحلية مضبوطة لتحديد المخاطر والوقوف جماعيا في وجهها، ثم التعاون لاستئصال أسباب هذه المخاطر والتي هي الفقر والمرض والأمية؛ فهذه الأسقام الثلاثة ستبقى البؤر التي يجد فيها دعاة التعصب والتطرف المرتع الخصب والمبرر الذي يتعللون به.
والاتفاق اليوم حاصل بين الجميع بأن الأسباب الرئيسية للتوترات والحروب والأزمات إنما تعود في أصلها إلى هذه الأسقام الثلاثة: الفقر والمرض والأمية وما لم يعجل: دوليًا وإقليميًا ومحليًا ووطنيًا في وضع البرامج القصيرة والمتوسطة والبعيدة المدى للقضاء بصفة نهائية على هذا الثلاثي الخبيث فإن السلم والأمن والتعاون بين شعوب الكرة الأرضية سيظل مهددًا.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الأولى 1438 هـ = فبراير2017م ، العدد : 5 ، السنة : 41