دراسات إسلامية

بقلم: الأستاذ/محمد بن إبراهيم بن أحمد الحمد

       نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- هو خير البرية، وأزكى البشرية، وأعلاها رتبة، وأجلها قدرًا، وأحسنها خلقا وأكرمها على الله تبارك وتعالى. اختاره الله على علم، وأكرمه بالرسالة، وأيده بالوحي، وجبله على حميد الخلال، وفطره على كريم الخصال، ثم أدبه فأحسن تأديبه، ورباه فأحسن تربيته، فكان خلقه القرآن، كما قالت أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – عند ما سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم(1).

       وإنما أدبه القرآن بمثل قوله –تعالى- ﴿خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجٰهِلِينَ﴾ [الأعراف:199]، وقوله: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَ الْـمُنكَرِ وَالْبَغْيِ﴾ [النحل:90] وقوله: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [لقمان:17] و قوله: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْـمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة:13] وقوله: ﴿فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ [الحجر:85] وقوله: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ الشورى:43] ، وقوله: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت:34] ، وقوله: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْـمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران:134] ، وقوله: ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [الحجرات:12] .

       وأمثال هذه التأديبات في القرآن كثير لا تكاد تحصر.

       وهو – عليه الصلاة والسلام – هو المقصود الأول بالتأديب والتهذيب، ثم منه يشرق النور على كافة الخلق؛ فإنه أدب بالقرآن، وأدب الخلق به، ثم لما أكمل الله له خلقه أثنى عليه فقال – تعالى-: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:4] .

       فسبحانه ما أعظم شأنه، وأتم امتنانه، انظر إلى عظيم فضله، وعميم لطفه؛ كيف أعطى ثم أثنى؟!(2).

       ولقد كتب العلماء -رحمهم الله- في شمائل النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه، فتحدثوا عن حلمه، وعفوه، و رحمته، وشفقته، وإيثاره، وتواضعه، ولين جانبه، وكرم معشره، ونحو ذلك. فمن تأسى به، وتخلق بخلقه كان في أعز جوار، وأمنع ذمار. فبحسب متابعته تكون العزة، والكفاية، والنصرة، كما أنه بحسب متابعته تكون الهداية والفلاح والنجاة؛ فالله –سبحانه- علق سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته.

       فلأتباعه الهدى والأمن، والفلاح، والعزة، والكفاية، والنصرة، والولاية والتأييد، وطيب العيش في الدنيا والآخرة.

       ولمخالفيه الذلة، والصغار، والخوف، والضلال، والخذلان، والشقاء في الدنيا والآخرة(3). فبسط شمائله الحميدة، ونشر أخلاقه الكريمة – من أمثل الطرق، وأقوم السبل لحسم الفساد، وكسر شوكة الباطل؛ بل إن ذلك مرقى العز، وسلم السعادة، وسبيل التأسي.

       وفيما يلي من أسطر ذكر لبعض ما رقمته أقلام العلماء في أخلاق النبي-صلى الله عليه وسلم- وذلك على سبيل الاختصار والاختزال، ودون ذكر للأسانيد، أو إكثار من الإحالات؛ إذ المقام ليس مقام إطالة وإسهاب.

       فمما قيل في أخلاقه -عليه الصلاة والسلام- ما يلي:(4).

       كان –صلى الله عليه وسلم- أحلم الناس، وأشجع الناس، وأعدل الناس، وأعف الناس. وكان أسخى الناس، لا يبيت عنده دينار ولا درهم، وإن فضل شيء ولم يجد من يعطيه وفاجأه الليل لم يأو إلى منزله حتى يتبرأ منه إلى من يحتاج إليه.

       وكان لا يأخذ مما أتاه الله إلا قوت عامه فقط، وكان ذلك من أيسر ما يجد من التمر والشعير، و يضع ذلك في سبيل الله، ولا يسأل شيئا إلا أعطاه، ثم يعود على قوت عامه، فيؤثر منه حتى إنه ربما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأته شيء.

       وكان يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويخدم في مهنة أهله، ويقطع اللحم معهن، وكان أشد الناس حياء، لا يثبت بصره في وجه أحد.

       وكان يجيب دعوة العبد والحر، ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن، أو فخذ أرنب، ويكافئ عليها، ويأكلها، ولا يأكل الصدقة، ولايستكبر عن إجابة دعوة الأمة والمسكين.

       يغضب لربه، ولا يغضب لنفسه، وكان يعصب الحجر على بطنه من الجوع، ومرة يأكل ما حضر، ولا يرد ما وجد، ولا يتورع عن مطعم حلال، وإن وجد تمرا دون خبز أكله، وإن وجد شواء أكله، وإن وجد خبز بر أو شعير أكله، وإن وجد حلوا أو عسلا أكله، وإن وجد لبنا دون خبز اكتفى به، ويشهد الجنائز، ويمشي وحده بين أعدائه بلا حارس.

       وكان أشد الناس تواضعا، وأسكنهم من غير كبر، وأبلغهم من غير تطويل، وأحسنهم بشرا، لا يهوله شيء من أمور الدنيا.

       يلبس ما وجد، فمرة شملة، ومرة بردا حبرة يمانيا، ومرة جبة صوف، فما وجد من المباح لبس.

       يركب ما أمكنه، مرة فرسا، ومرة بعيرا، ومرة بغلة شهباء، ومرة حمارا، ومرة يمشي راجلا حافيا.

       يجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين، ويكرم أهل الفضل في أخلاقهم، ويتألف أهل الشرف بالبر لهم، يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم.

       لا يجفو على أحد، يقبل معذرة المعتذر إليه، يمزح ولا يقول إلا حقا، يضحك من غير قهقهة، يسابق أهله، ترفع الأصوات عليه فيصبر.

       وكان لا يمضي له وقت في غير عمل لله –تعالى- أو فيما لا بد له منه من صلاح نفسه.

       لايحتقر مسكينا لفقره وزمانته، ولا يهاب ملكا لملكه، يدعو هذا وهذا إلى الله دعاء مستويا، قد جمع الله -تعالى- له السيرة الفاضلة، والسياسة التامة، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب.

       نشأ في بلاد الجهل والصحارى في فقره، وفي رعاية الغنم يتيما لا أب له، فعلمه الله –تعالى- جميع محاسن الأخلاق، والطرق الحميدة، وأخبار الأولين والآخرين، وما فيه النجاة والفوز في الآخرة، والغبطة والخلاص في الدنيا، ولزوم الفضل، وترك الفضول.

       ما شتم أحدا من المؤمنين بشتيمة إلا جعل لها كفارة ورحمة، وما لعن امرأة قط ولا خادما بلعنة.

       وما ضرب بيده أحدا قط، إلا أن يضرب بها في سبيل الله –تعالى- وما انتقم من شيء صنع إليه قط إلا أن تنتهك حرمة الله، وما خير بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما إلا أن يكون فيه إثم أو قطيعة رحم، فيكون أبعد الناس من ذلك.

       وما يأتيه أحد حر أو عبد أو أمة إلا قام معه في حاجته.

       ولم يكن فظا ولا غليظا، ولا صخابا في الأسواق، وما كان يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح.

       وكان من خلقه أن يبدأ من لقيه بالسلام، ومن قادمه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف.

       وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر، وكان إذا لقي أحد من أصحابه بدأه بالمصافحة، ثم أخذ بيده فشابكه ثم شد قبضه عليها.

       وكان أكثر جلوسه أن ينصب ساقيه جميعا، ويمسك بيديه عليهما شبه الحبوة، ولم يكن يعرف مجلسه من مجلس أصحابه؛ لأنه كان يجلس حيث انتهى به المجلس، وما رؤي قط مادا رجليه بين أصحابه؛ حتى لا يضيق بهما على أحد إلا أن يكون المكان واسعًا لا ضيق فيه.

       وكان يكرم من يدخل عليه حتى ربما بسط ثوبه لمن ليس بينه وبينه قرابة ولا رضاع يجلسه عليه.

وكان يؤثر الداخل عليه بالوسادة التي تحته، فإن أبى أن يقبلها عزم عليه حتى يفعل.

       وما استصفاه أحد إلا ظن أنه أكرم الناس عليه، وكان يعطي كل من جلس إليه نصيبه من وجهه، وسمعه، وحديثه، ولطيف محاسنه وتوجهه.

       ومجلسه مع ذلك مجلس حياء وتواضع وأمانة.

       ولقد كان يدعو أصحابه بكناهم؛ إكراما لهم، واستمالة لقلوبهم، وكان يكني من لم تكن له كنية، فكان يدعى بما كناه به، وكان –أيضا- يكني النساء اللاتي لهن الأولاد، واللاتي لم يلدن يبتدئ لهن الكنى، ويكني الصبيان، فيستلين به قلوبهم.

       وكان أبعد الناس غضبا، وأسرعهم رضا، وكان أرأف الناس بالناس، وخير الناس للناس، وأنفع الناس للناس، وكان لا يشافه أحدا بما يكرهه.

       هذه بعض أخلاقه وشمائله، ورزقنا الله حسن اتباعه، والاتساء به، والاهتداء بهديه.

*  *  *

الهوامش:

(1 )       رواه مسلم 1/512، 746، والحاكم في المستدرك2/613، وأبوالشيخ في أخلاق النبي وآدابه9، والبغوي في الأنوار في شمائل النبي المختار197.

(2 )       انظر: إحياء علوم الدين 2/357-358.

(3 )       انظر: زاد المعاد لابن القيم1/37.

(4 )       انظر: الشمائل المحمدية للترمذي، ص 186-280، 262-283 تحقيق محمد عفيف الزعبي، وانظر الأنوار في شمائل النبي المختار للبغوي، تحقيق الشيخ إبراهيم اليعقوبي1/161-358، وأخلاق النبي-صلى الله عليه وسلم- لأبي الشيخ الأصبهاني تحقيق عصام الدين الصبابطي، ص 13-98، ودلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني، ص 551-656، وإحياء علوم الدين2/357-387، وشمائل الرسول ودلائل نبوته وفضائله وخصائصه لابن كثير1/73-152.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الأولى  1438 هـ = فبراير2017م ، العدد : 5 ، السنة : 41

Related Posts