الملك فهد إلي رحمة الله
بقلم : الأستاذ شوكت علي القاسمي البستوي
أستاذ بالجامعة
لقد فُجعت الأمتان الإسلامية والعربية ، بوفاة خادم الحرمين الشريفين : الملك فهد بن عبد العزيز ، صانع التأريخ، وصاحب الإنجازات التنموية الهائلة ، والمآثر الحضارية الزاهرة، ومليك الخيرات ، والعطاءات ، والمبرّات . ففَقَدت بموته المملكة العربية السعودية والدول العربية والإسلامية خاصة؛ ودول العالم عامة ملكا عملاقا يمتلك شخصية فذّة عبقرية ، وحنكة سياسية دولية ، ونظرة ثاقبة ، وقوة نافذة ، وقدرة خارقة للتغلب على الأوضاع ، وحل القضايا المستعصية المُعَقَّده ؛ أثــّر السياسة الدولية بأرائه ، ومبادراته ، ومقترحاته، ومساهمته الفعالة في معالجة المشاكل ، وقائدًا وطنيًّا أكسب بلادَه الرقي ، والتطور ، والإزدهار في مجال التعليم ، والصناعات والتجارة والاقتصاد كما فاض فيها الرخاء والأمن والاستقرار. كان زعيما إسلاميا قدم رسالة الإسلام إلى العالم بأجمعه وأقام منارات عالية لخدمة الإسلام والإنسانية والمسلمين وإسعاف المنكوبين والأرامل والأيتام بإنشاء المدارس، والمساجد، والمستشفيات، والمراكز الثقافية، والملاجئ ، وكان خادمًا للحرمين الشريفين حقا؛ خدمهما خدمة لايوجد لها أي نظير في القرون الماضية كما قام بأعمال ومآثر تخدم الإسلام والمسلمين ، والأمة الإسلامية ، والعربية، والأجيال المتلاحقة ، ومليكاً متواضعًا يتمتع بلين الجانب وكرم الأخلاق وسمو الفكر والعاطفة ؛ يحب العلم والعلماء ورجال الدين والإصلاح والدعوة ، ويشجع الأدباء والمفكرين وكان جامعًا لخصال الخير والنبوغ والعبقرية .
ليس علـــى الله بمُستَنْكَرٍ
أن يجمع العالم في واحد
وافته المنية أول أغسطس من هذا العام «وكل نفس ذائقة الموت» .
كل ابن اننى وان طالت سلامته
يومًا على آلــــة حـــدبـــاءَ محمول
فخيَّم على البلاد السعودية والعربية خاصة ، وعلى العالم كله عميق الحزن والأسى وغمرت مشارق الأرض ومغاربها موجة عامة من بالغ الألم والكآبة ، والحداد ، وكيف لا ؟ فإن الخطب كبير، والكارثة فاجعة فادحة :
ألا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر
وليس لعين لم يَفِض ماؤها عــذر
كما ساد جو الألم والحزن محيطَ الجامعة الإسلامية دارالعلوم بـ ديوبند لما تسامع أهلها من القائمين عليها ، وأساتذتها ، وموظفيها ، وطلبتها ، نعى الملك فهد – رحمه الله – وأعرب رئيس الجامعة فضيلة الشيخ مرغوب الرحمن الموقر – حفظه الله – عن عميق الأسى والحزن ، وأشاد بأمجاده ومآثره ، وقدم أحر التعازي إلى خادم الحرمين الشريفين : الملك عبد الله بن عبد العزيز – حفظه الله – و ولي عهده الأمين سمو الأمير سلطان بن عبد العزيز – حفظه الله – وإلى الأسرة المالكة الغرّاء ، وإلى الشعب السعودي الميمون ، بوساطة سعادة الأستاذ صالح بن محمد الغامدي حفظه الله ، سفير المملكة العربية السعودية ، بنيو دلهي . فقد سافر إلى نيو دلهي وفد مكون من فضيلة الشيخ السيد أرشد المدني – حفظه الله – أستاذ الحديث الشريف ، ومدير شؤون التعليم والقبول والتسجيل بالجامعة . وفضيلة الأستاذ محمد سلمان البجنوري أستاذ بالجامعة وكاتب هذه السطور شوكت على القاسمي البستوي أستاذ بالجامعة وأمين عام رابطة المدارس والجامعات الإسلامية العربية لعموم الهند ، فلقينا سعادة السفير المكرم في بيته وقدّمنا إليه خطاب التعزية من قبل فضيلة رئيس الجامعة الموقر وكتبنا كلمات التعازي والمواساة في سجل التعزية في 5/أغسطس .
إن فقيدنا الغالي – رحمه الله – وإن كان ينحدر من سلالة ملكية عريقة ذات مجد مؤثـَّل وشرف عتيد ، اشتهرت لفضلها وذكائها ونبوغها وخدمتها للإسلام والمسلمين ، والبلاد الإسلامية والمشاعر المقدسة ، لايداينها في هذا الفضل والنبل والكرم أسرة ما على وجه المعمورة . ولكنه – رحمه الله – لم يتَّكل على أسلافه ، ولم يتبجّح بسلالته ؛ بل شق بنفسه طريقة إلى المجد ، والأعمال الجبارة مُتَمَثِّلا بقول الشاعر :
لسنا – وإن أحسا بنا كرمت – يومًا على الآباء نَتَّكلُ
نَبنى كمــا كانت أوائلنــا تبنى ونفعــل مثلما فعلـــــوا
مُتَأَسِّيًا بأسوة أسلافه الميامين ، الملوك المغاوير، فقام بمآثر خالدة سيُردِّدُها التأريخ ويَحكيها الأجيال المتلاحقة على مر الدهور والأحقاب . كان الملك الراحل – رحمه الله – يمتاز بمشاعره الدينية الصادقة ، وروحه الإيمانية الوثابة ، وأخلاقه الكريمة السامية فقد جرد اسمه عن لقب «جلالة الملك» وأعلن عن كونه خادمًا للحرمين الشريفين وكان حقّا خادمًا لهما ، ويتجلَّى أثر هذ اللقب بارزًا ، في جميع أعماله التي اتَّسمت بسمة دينية ، واصطبغت بصبغة إسلامية؛ فإن البلاد السعودية المقدسة التي تمتاز عن البلاد الأخرى بصفتها مهوى أفئدة المسلمين ، ومهبط الوحي الرباني ، ومهد الرسالة المحمدية الخالدة ، ومنطلق الدعوة الإسلامية العالمية، ومركز الثقافة الدينية الناصعة ؛ شكَّلت في عهده – على نهج أسلافه – دولة إسلامية متكاملة يحكمها الإسلام بنصوص القرآن ، والسنة ، وتعاليمهما الرشيدة، السمحة التي تضمن للإنسانية جمعاء، الخير، والفلاح ، والأمن، والاستقرار، فأصدر الملك فهد – رحمه الله – توجيهات سامية ، ومراسم ملكية تهدف إلى ترسيخ جذور الشريعة الإسلامية في جميع قطاعات الحياة ؛ فأقام نظامه على أساس الشورى ، ونشّط العلماء، والدعاة ، والمفكرين لإصلاح المجتمع ونَشِطت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تطبيق الشريعة حتى في الحدود والقصاص وتشجيع الناس بالعمل بالعبادات والنهي عن المنكرات ، والفواحش ، واقتراف الجرائم من الزناء وشرب الخمر، والفاحشة، وظاهرة أخذ الرشوة، وقمع وضع البطاله والتسول ، مما جعل الشعب السعودي شعبًا مثاليًّا في إسلامه، وعباداته، ومعاملاته، وأخلاقه، وحبه للإسلام والمسلمين، وجعله يتقلب في أكناف السعادة وأحضان النعيم .
والشيء الثاني الذي يجعل كل مؤمن محب للإسلام ، والمشاعر المقدسة ، مدينًا لفضل الملك الراحل ومُوْلَعًا بشخصيته العملاقة ، هو عنايته الفائقة بتوفير التسهيلات لحجيج بيت الله الحرام ، وإراحة ضيوف الرحمن ، وحشد الطاقات ، والإمكانات ، لتوفير كافة الاحتياجات ، والمستلزمات لهم وإزالة العقبات من طريقهم ، مما جعلهم يؤدون مناسكهم بيسر وسهولة وهدوء وطمأنينة ، فعُني الملك – رحمه الله – بمد شبكة الطرق والشوارع والأنفاق والجسور في المشاعر المقدسة ومكة المكرمة والمدينة المنورة . وتطوير خدمات النقل وتشكيل فرق العمل لتطوير مستوى الأداء ، ووضع خطط طوارئ عاجلة للتعامل مع الأخطار وتوفير المياه المُبَرَّده ، وإنشاء المُستَشْفَيَات المتنقلة ، وأخذ تدابير لازمة لتيسير السفر والقدوم من المنافذ البرية والبحرية والجوية . وتنشيط المؤسسات للطواف والزمازمة وما إلى ذلك .
أما توسعته التأريخية العملاقة للحرمين الشريفين ، فحدث عن البحر ولاحرج ، حظيت بالأولوية لدى الفقيد – رحمه الله – وتشكل درة أعماله الجليلة الجبارة الناصعة ، وستظل متلألئة في جيد التأريخ المجيد على مرالدهور والأجيال، مُردِّدة مجدَه وعطاءه وكرمه وفخره ويكتب تفاصلَها المؤرخ الاسلامي بحروف من ذهب ، لقد أولى بها الملك الراحل – رحمه الله – اهتمامه الشخصي ومتابعته الذاتية فأشرف بنفسه – كما سرده المَعْنِيُّونَ – على وضع المُخَطَّطات والتصاميم للمشروع ؛ فكان يجتمع مع المهندسين وفِرَق العمل ويدخل في التفاصيل حتى في اختيار نوعية الرخامات؛ فجاءت التوسعة ملائمة لمكانة الحرمين الشريفين، وافية لحاجات ضيوف الرحمن والمصلين ، ولإنجاز أعمال التوسعة أنفقت المملكة ما يزيد على خمسة وسبعين مليار ريال سعودي .
وإن أول ما ظهر ذكاءه ونبوغه في معالجة الشؤون والقضايا هو كفاحه الدؤوب وجهده المتواصل الناجح في قطاع التعليم ؛ فعُيِّن – رحمه الله – أول وزير للمعارف في المملكة عام 1344هـ ، فحقق مُنْجَزَات عظيمة ، وأنفق على المشاريع التعليمية بكرم وسخاء. والفضل في مدّ شبكة المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية والكليات والجامعات في مشارق الدولة ومغاربها يرجع إلى فقيدنا الراحل – تغمده الله برحمته-
ومنذ أن تولى مقاليد السلطة والحكم في المملكة سهر على وضع التنظيم الإداري وتطوير جهازه مُتَمشِّيا على منهج أسلافه الكرام ، الذين كان من طموحاتهم الكبيرة تحقيق الأمن والاستقرار ، وتنشيط أجهزة الإدارة ، والتنظيم ، ورفاهية الشعب، وحفظ نظام الدولة ، وحماية أمنها الخارجي، وصيانة حدودها من أي اعتداء غاشم ، فقفزت المملكة لاسيّما في عهد الملك فهد – رحمه الله – قفزات حثيثة في طريق التقدم والرقي ، وتضخَّم الجهاز الإداريّ ، وشُكِّلت أنظمة ، ولجان ، ومجالس ، ووزارات أدت دورًا كبيرًا في تطوير الدولة وتفعيل خدماتها المتنوعة .
أما سياسة الفقيد – رحمه الله – فحظيت بالقبول، والاحترام ، والتقدير، والشعبية، وجعلته قائدًا سياسيًّا دوليًّا يلعب دوره الفعال في القضايا المُعَقَّدة ، وكانت سياسته مُؤسَّسة على الإيمان بثوابت الإسلام وركائزه الأساسية ، والتقيُّد بالقيم والأعراف العربية ، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة ، وتعزيز التضامن الإسلامي والعربي ، وتأمين السلام الدولي، ورفض استخدام القوة لفض المنازعات. وحل القضايا الناشبة بالمفاوضات السلمية الثنائية واستخدم – رحمه الله – حنكته السياسية وفراسته الإيمانية في تلمس الحلول الناجعة لِما تعقَّد واستعصى من القضايا والمشاكل ، وأكسبته هذه الحنكة الدولية والخبرة البالغة مشاركته الفعالة في المؤتمرات الدولية . وتجلت ملكته السياسية وحنكتة الفقيدة المثال في مواجهته «طاغية العرب» صدام حسين حينما غزا – مدفوعا بعَنجهِيَّته وغطرسته و بدون أي مبرر دولة الكويت واكتسح بلادها . وحشد قواته على حدود المملكة العربية السعودية ؛ فاتخذ الملك فهد رحمه الله قرارا حاسما وحازما لتحرير دولة الكويت وصيانة بلاده من عدوان الطاغية الغاشم مستندا إلى الشرعية الدولية» واستدعى القوات المساندة الإسلامية وغيرها حينما لم يُصغ صدام لأيّ مفاوضة سلمية ومحاولة ثنائية لتحقيق الأمن وتشلت الجهود تماما كما أدّى دورًا متميزًا في حل القضايا العربية الأخرى ، كحل قضية لبنان باتفاقية الطائف . وبذل محاولته لوقف نيران الحرب العراقية الإيرانية الدامية . ولإنْهاء احتلال الاتحاد السوفيتي للبلاد الأفغانية وتأسيس الدولة الإسلامية فيها .
أما القضية الفلسطينية فاعتبره – رحمه الله – دومًا القضية الأولى للعالم الإسلامي والعربي . وجدد مرة بعد أخرى تأكيده على ضرورة المحافظة على طابع القدس وعلى إعادة المدينة إلى المسلمين ولوقف أعمال الإرهاب والظلم والعدوان التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني المناضل وصرح مرات كثيرة أنه لايمكن أن يقوم سلام حقيقي في الشرق الأوسط حتى يتم حل عادل وعاجل ودائم للقضية الفلسطينية وذلك من على المنابر السعودية والخليجية والدولية .
ووقف – رحمه الله – دائما بجانب الشعب الفلسطيني ، وقدم إليه مساعدات سخية مادية ومعنوية ؛ فساعده بمليارات من الريال ودعمه بالسيارات والطائرات والمواد الغذائية والأدوية والأجهزة الطبية واعترف بذلك السيد ياسر عرفات قبل سنتين بقوله أمام الصحفيين : «لقد أفنى الملك فهد حياته في نصرة قضية فلسطين» .
ومن أعماله الجلائل في خدمة الإسلام والمسلمين هو عنايته الشخصية البالغة لقضايا المسلمين عبر العالم ومساعدتهم باقامة المستشفيات الخيرية ، ودور التعليم الإسلامي وانشاء المراكز ، والمساجد ، والمعاهد الإسلامية ، ودعم الملاجئ والمخيمات للأيتام والأرامل والمنكوبين والمصابين والمعوزين ، وحماية الأقليات المسلمة ، والمحافظة على هُوَياتهم وثقافتهم وصيانة معتقداتهم وتوفير مصاحف القرآن الكريم ، وتراجم معانيه ، وتفاسيره بمختلف اللغات والإصدارات وأنوِّه خاصة في هذه الفرصة بخدمته الذهبية اللامعة المنقطعة النظير للقرآن الكريم ، الخدمة التي جعلته مُحبَّبا ومقبولا قبولا عاما في الأوساط العلمية والدينية ولدى المسلمين جميعا في كل مكان مما اضطرهم إلى أن يشيدوا بدوره فأقام مُجَمَّعًا مختصا بطبع القرآن الكريم ونشره وتوزيعه وطبع تراجم معانيه وتفاسيره وعلومه فقد أنتج المُجَمَّعُ أكثر من 160 إصدارا و 193 مليون نسخة من المصحف الشريف بمختلف الروايات واللغات إلى جانب الاهتمام البالغ بإعداد وإصدار تسجيلات صوتية للقرآن الكريم وتراجم معانيه بشتَّى اللغات العالمية والمحلية .
ومن أهم وأروع ما طبعه المجمع ترجمة معاني القرآن الكريم بالأردية للشيخ العبقري المجاهد البطل العلامة محمود حسن الديوبندي المعروف بشيخ الهند ، رئيس هيئة التدريس بالجامعة وصاحب مشيخة الحديث الشريف بها التي تتحلّى بتعليقات تفسيرية قيمة ونادرة بقلم الباحث الإسلامي المحدث الجليل العلامة الشيخ شبير أحمد العثماني أستاذ الحديث الشريف سابقا بالجامعة ، طبعه المجمع عام 1409هـ ووزعه بعدد مآت آلاف نسخة عبر العالم .
يقول أعضاء الهيئة الاستشارية العليا للمجمّع في تقديم الطبعة لهذه الترجمة.
«ولما كانت هذه الترجمة قد حظيت بالاعتماد من قبل وزارة الشئون الدينية بجمهورية باكستان الإسلامية كما زكّى سماحة الشيخ أبو الحسن الندوي العلماء الذين قاموا بالترجمة، وأنها من أحسن التراجم الموجودة باللغة الأردية ، وتستحق الطباعة والنشر …. يسعدنا أن نقدم هذا المصحف الشريف بترجمة معانيه وتفسيره إلى اللغة الأردية ، والتي قام بترجمتها فضيلة الشيخ محمود حسن وتفسير معانيه فضيلة الشيخ شبير أحمد العثماني – رحمهما الله – . »
وبهذه المناسبة يطيب لي أن أذكر العلاقة الوطيدة بين الجامعة الإسلامية دارالعلوم بديوبند و بين المملكة العربية السعودية فإن القائمين على الجامعة نظروا إلى المملكة نظرة ثقة واحترام لعملياتها التي تتمثل في نشر العقيدة الصافية والقضاء على ظواهر الشرك والوثنية والبدع والخرافات والقيام بما يخدم الإسلام والمسلمين والأجيال المتلاحقة فإننا نجد – على حدّ كبير – تماثلا بين الجامعة ، وبين المملكة لاسيَّما في شأن عقيدة التوحيد .
فإن علماء الجامعة وبُناتها وأبناءها عضّوا على عقيدة التوحيد – بجميع مُسْتَلْزَماته ومتطلباته – بالنواجذ ، وشددوا على البدع والأعمال الشركية ودعوا المسلمين إلى هذه العقيدة الصافية بكتاباتهم ومؤلفاتهم وخطبهم ومواعظهم وأحاديثهم ورسائلهم ، حتى سمّاهم أهل البدع والزيغ والأهواء الباطلة في ْتَلْزَماتهطبعة لهذه الترجمة الهند بالوهابيين» نسبة إلى الشيخ العبقري والمصلح الكبير محمد بن عبد الوهاب النجدي – رحمه الله – كما أنهم سمّوا علماء السعودية الكرام ودعاتهم بالوهابيين» كذلك ؛ فإنهم وجدوا تماثلا وتطابقا بين علماء الجامعة وعلماء المملكة في العقائد .
ومن جهة أخرى فإن كثيرًا من علماء الجامعة ومشايخها هاجروا إلى مكة المكرمة أو المدينة المنورة ومازالو مع اتصال وثيق مع علماء المملكة ، مما أدى إلى تبادل علمي ، وثقافي بينهم ، وعلى رأسهم الشيخ إمداد الله المهاجر إلى مكة المكرمة رئيس طائفة علماء ديوبند والمحدث النابغة الشيخ خليل أحمد السهارنفوري صاحب بذل المجهود في حل أبي داؤد، والشيخ الجليل المحدث الكبير حسين أحمد المدني المعروف بالديار الهندية بشيخ الإسلام ، هاجر مع أبيه وإخوته وأسرته إلى المدينة المنورة وبدأ يدرس الحديث الشريف في المسجد النبوي الكريم واشتغل بذلك ستة عشر عاما . وتخرج عليه وتتلمذ إليه بعض كبار علماء المملكة كما قام أخوه الشيخ السيد أحمد الفيض آبادي بإنشاء مدرسة العلوم الشرعية بالمدينة المنورة التي أدت دورا رائعا في نشر العلوم الدينية ، والصناعات اليدوية ، في المملكة ، وهاجر كذلك سماحة المحدث الجليل الشيخ بدرعالم الميرتهي من كبار محدثي الجامعة والمحدث العبقري النابغ، فخر أماثله الشيخ الداعية محمد زكريا الكاندهلوي السهارنفوري ثم المدني، فمكثو هؤلاء سنوات متتالية واستفاد منهم خلق كبير كما رحَّب علماء الجامعة ومسؤولو جمعية علماء الهند بنيو دلهي بمقدم جلالة الملك سعود بن عبد العزيز لدى زيارته التأريخية للهند .
وعندما لقي شيخ الإسلام السيد حسين أحمد المدني رئيس هيئة التدريس وصاحب مشيخة الحديث الشريف بالجامعة بعد ذلك، الملك سعود بت عبد العزيز في الحجاز منحه هدية قيمة من المطبوعات السعودية لمكتبة الجامعة الإسلامية دارالعلوم بديوبند . كما زار الجامعة ولا سيما في السنوات الأخيرة كبار علماء المملكة وعلى رأسهم سماحة الشيخ محمد بن عبد الله السبيل إمام الحرم المكي ورئيس شؤون الحرمين الشريفين – حفظه الله – ومعالي الدكتور عبد الله عبد المحسن التركي – رعاه الله – رئيس رابطة الجامعات الإسلامية ورئيس رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، ومعالي الدكتور عبد الله عمر نصيف رئيس رابطة العالم الإسلامي سابقا، والشيخ عبد الله عبد المطلب بوقس حينما كان وكيل وزارة الحج بالسعودية، ومعالي الشيخ عبد المحسن العباد نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ومعالي الشيخ عبد الله بن زايد نائب رئيس الجامعة بالمدينة المنورة، ومن إليهم .
ونظرا إلى هذه الأواصر المتينة بين الجامعة وبين علماء المملكة لما وطَّدت الجامعة عزمها على عقد الاحتفال المئوي على مرور أكثر من مأة عام على تأسيسها، وذلك عام 1400هـ وجّهت دعوتها المخلصة إلى جلالة الملك خالد بن عبد العزيز و ولي عهده الأمين فهد بن عبد العزيز وأصحاب السمو الأمراء الآخرين وأصحاب الفضيلة العلماء والمفكرين والدعاة فحضر الاحتفال وفد مبجل من كبار علماء المملكة وعلى رأسهم معالي الدكتور عبد الله عبد المحسن التركي – حفظه الله – الذي ناب عن جلالة الملك في الموتمر ونقل تحياته وكلماته ومشاعره كما بعث ولي العهد آنذاك سمو الأمير فهد بن عبد العزيز برسالة غرّاء للاحتفال ألقاها فيه نيابة عن سموه معالي الدكتور التركي – حفظه الله – يقول فيها بعد الحمد والصلاة :
«فانتهز مناسبة هذا اللقاء التأريخي العظيم ، الذي تقيمه الجامعة الإسلامية دارالعلوم في ديوبند بعد مرور أكثر من مآة عام على تأسيسها أسهمت خلالها إسهاما فعالا في نشر الإسلام وحفظ علومه ، وتعليم شريعته وظهرت آثارها الحميدة واضحة في هذا الميدان السامي الجليل فأصبحت بذلك منارا للعلم ، ومعقلا من معاقل النور والرشاد .
أيها الاخوة ! انتهز هذه المناسبة فأحيّ جمعكم الكريم تحية مباركة طيبة وأنقل لكم جميعا تحية صاحب الجلالة الملك خالد بن عبد العزيز – حفظه الله وأيّده – وتحية رجال حكومته ، وكافة الشعب العربي السعودي المسلم أنقل إليكم ما يكنُّونه لكم من المودة والإخاء والمشاعر القلبية الصادقة بما لا قدرة لي على وصفه في هذا المقام، ولكنهم يرون فيكم إخوة أعزَّة ، ومجاهدين صادقين ، وعاملين نشيطين ، ضربوا من أنفسهم المثل في التمسك بالدين والعمل به وبذلوا جهودا مضنية خلال عشرات السنين من عمر هذه الجامعة المديد ….. ويقول في ختام كلمته الضافية: وأعرب عن شكري وتقديري للجامعة الإسلامية في ديوبند والقائمين عليها على نشاطهم العظيم وجهودهم المباركة في نشر الإسلام وعلومه .
إن الجمل المنتقاة من كلمة الملك فهد ورسالته الضافية تدل دلالة صارخة على أنه رحمه الله كان على اطلاع واسع على مدى شعبية الجامعة وأهميتها وعراقتها وخدمات علمائها المتمثلة في صيانة الإسلام وحفظ كيان المسلمين ونشر العلوم الإسلامية والاحتفاظ بهُوِيَّة المسلمين الدينية في شبه القارة الهندية .
فالآن حينما نقدم إليك يا مليكنا الراحل وفقيدنا الغالي ضرائب الحب والتقدير على مآثرك الضخمة ، وإنجازاتك الهائلة ، وأمجادك الخالدة ، ندعو الله جل وعلا أن يتقبل حسناتك ويغفر زلاتك ويُسكنك أعلى الفردوس مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ومع أسلافك الغر الميامين ، وحسن أولئك رفيقا ، وأنزل عليك شآبيب رحمته ورضوانه .
عليك تحية الرحمن تَتْـــرَى
برحمات غوادٍ رائحـــــات
جزاك الله ثم جزاك خيرًا
بأعمال جلائل خالــدات
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان – شوال 1426هـ = سبتمبر – نوفمبر 2005م ، العـدد : 8–10 ، السنـة : 29.