دراسات إسلامية

بقلم:   الأستاذ أسامة  نور/ القاسمي (*)

       كان للإسلام أكبر الأثر في حركة الإحياء العلميّ والبناء الحضاريّ؛ فالقرآنُ الكريمُ فيه آيات عديدة تُقَدِّر العلمَ والعلماءَ تقديرًا بالغا، وتدعو لطلب العلم والنظر في الكون والتأمّل في خلق الله ودراسة آيات الله الـمُنْبَثَّة في الأرض والجوّ والسماء، وعمارة الأرض بالـمُعْطَيَات الإنسانيّة، والـمُكْتَسَبَات العلمية والفكرية، وبإحماليّ التحركات التي خُلِقَ الإنسان ليُؤَدِّيها، راميًا إلى عبادة الله وحده.

       قال تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١)خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ (٣)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤)عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (٥)» (العلق:1-5)

       إنّ هذه الآيات الخمس من سورة العلق — التي هي الآيات الأولى التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها كان بدء الوحي الإلهي إليه صلى الله عليه وسلم— تُؤَكِّدُ أهميّةَ العلم والتأمل والقراءة والدراسة. وقد انتبه لذلك المسلمون منذ البداية؛ ولذلك فإن دعوة الإسلام إلى الانفتاح على التطور الحضاري بناحيتيه المادية والمعنوية شيء لا يحتاج إلى دليل.

       فكان للإسلام وتعاليمه السبقُ إلى دفع المجتمع البشري إلى القراءة والتعلم والاستزادة من العلم والاستفادة من حقائق الحياة. وقد حَرَّضَ القرآن على اكتساب العلم والاستزادة منه بقوله: «وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا» (طه:114).

       ولذلك استطاع الإسلام إثر فترة قصيرة من ظهوره أن يشيد حضارةً مثاليةً رائعةً كانت أطول الحضارات البشرية عمرًا وأكبرها أثرًا في الرقي المدني الذي شهده العالم خلال القرون الوسطى، وكانت أساسًا لما يتمتع به العالم ليومنا هذا من التقدم الحضاري بجميع جوانبه الاجتماعية والاقتصادية، والعسكرية والطبية، والمدنية والثقافية.

       والشواهد على ذلك كثيرة تَتَمَثَّل في كل ما خَلَّفَه المسلمون في مجالات العلوم والآداب والفنون؛ حيث تزخر مكتبات الشرق والغرب بالآف مؤلفة من المخطوطات العربية الإسلامية في كل من الأدب – بفروعه – والتاريخ والاجتماع، والفلسفة والطبيعة، والجغرافيا والهندسة، والكيميا والطب، والصَّيْدَلَة والفلك، والغناء والموسيقي، والنظم السياسية والتربوية، تُشَكِّل برهانًا صارخًا على مدى ما وصل إليه المسلمون من حضارة رائعة عريقة لم تسبق إليها حضارة على وجه الأرض.

       وَأَكَّدَ عددٌ من المؤرخين والمُتَخَصِّصِين في النفسيّة الحضاريّة أن طَابَعَ التسامح الإسلاميّ كان له أثرٌ فَعَّال هائل في حركة الإحياء العلمي والبناء الحضاريّ التي نشأت ونَشِطَت على أيدي العرب بعد الفتح الإسلامي، فقد ذكر المستشرق الهولندي «دوزي» (راينهارت) Dozy (1820-1884م) – الذي كان مُدَرِّس العربيّة في كليّة «ليدن» Leiden إحدى مدن «هولندا»وكان قد دَرَسَ تاريخ الدول الإسلامية في الأندلس والمغرب، من أهم مُؤَلَّفَاته «ملحق وتكملة القواميس العربيّة» ذَكَرَ فيه الألفاظ العربيّة التي لم تَرِدْ في سائر المعجمات العربية – البراهين والشواهد على حرّيّة الفكر في العصر العباسيّ، ويذكر فيها كيف أنه كان يحضر في بغداد دروسًا كثيرة يشترك فيها مع المسلمين يهود وزنادقة ومجوس ونصارى وغيرهم، وكان الحضور يستمعون إلى كل منهم باحترام عظيم.

       وتلك هي الآثار الإسلامية المنتشرة في جنبات الأرض تشهد بعظمة وسموّ ما وصلت إليه الفنون الإسلامية الحضارية التي لم يشهد العالم نظيرًا لها على مدى التاريخ البشري.

       وفي داخل أوربّا حضارةُ المسلمين في الأندلس كانت ناطقةً بماوصل إليه المسلمون من التقدّم الحضاريّ، ولا تزال المعالم الحضاريّة الـمُتَبَقِّية في كل من «قرطبة» و«غرناطة» و«بلنسية» ومُعْظَم المدن الإسبانيّة خير شاهد بالحركة الحضاريّة التي أَسَّسَها وطَوَّرَها المسلمون خلال العصر الزاهر الذي حكموا فيه هذا الجزءَ الهامَّ من أوربّا التي عَكَفَتْ خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر على ترجمة علوم المسلمين، التي شَكَّلَت أساسًا بَنَتْ عليه – أوربا – حضارتَها الحديثةَ التي تُبَاهِي بها في كل ناد و وادٍ دونما كَلَل ومَلَل.

       وما يشهده العالم اليوم من تخلّف المسلمين عن ركب التقدّم الحضاري السيّار، فإن دين الله الإسلام لا يتحمل وزره؛ لأن الأخطاء التي صدرت من المسلمين فيما يتعلق بالعناية بالعلم والحضارة وأنماطهما الحديثة المتطورة، لا يرجع فيها الذنب إلى الإسلام؛ لأنه يُضَادُّ التخلّفَ بأنواعه وصوره، وإنما يرجع الذنبُ كُلُّه إلى المسلمين؛ حيث قَصَّرُوا في إدراك القيم الحقيقيّة للإسلام، فعجزوا عن التعامل الإيجابيّ المطلوب مع معاني العلم والحضارة، بعد ما كانوا أساتذة العالم بفضل توجيهات الكتاب والسنة اللذين فَتَحَا لهم أبوابَ التقدم العلميّ الحضاريّ على مِصْرَاعَيْها وعَرَّفا العالَمَ البشريَّ بمعنى العلم والدراسة والقراءة وقد كان جاهلًا به الجهلَ كُلَّه.

       يقول المفكر الإسلامي الجزائري العبقري: «مالك بن نبي» (1323-1393هـ = 1905-1973م)— مُعْظَمُ آثاره باللغة الفرنسيّة، نحو 30 كتابًا جُلُّها مطبوع، أصدر أكثرها بالقاهرة حيث أقام سبع سنوات. تُرْجِمَ بعضُ مُؤَلَّفَاته إلى العربيّة. وُلِدَ وتُوُفِّي ببلده «قسنطينة بوطنه الجزائر—:

       «إنّ التخلّف الذي يعانيه المسلمون اليوم، ليس سببه الإسلام، وإنما هو عقوبة مُسْتَحَقَّة من الإسلام على المسلمين، لتخلّيهم عنه، لا لتمسّكهم به، كما يظن الجاهلون؛ فليست هناك صلة بين الإسلام وبين تخلّف المسلمين».

       فلا يجوز بحال محاولة الربط بين الإسلام وبين مايعيشه المسلمون من الواقع الـمُتَدَنِّي السافل وما يعانيه العالم الإسلاميّ المعاصر من التخلف الشائن في جميع مجالات الحياة. فمهما بَحَثَ المصنف الدارس من أي ديانة كان عن العوامل الحقيقيّة وراء تخلّفهم – المسلمين – فلن يجدوا الإسلام من بينها؛ بل هناك أسباب أخرى متنوعة تفاعلت وشَكَّلَتْ عائقًا للمسلمين عن مجاراة الركب الحضاري الذي كانوا هم الذين وضعوه على الطريق ودفعوه إلى الأمام يُغِذُ السير ويواصل الخطوة حثيثًا. وكان من العوامل الخارجية لتخلّفهم ما يرجع في الأغلب إلى مُخَلَّفَات العهود الاستعماريّة التي أعاقت البلاد الإسلاميّة عن الحركة الإيجابية الفعّالة نحو التقدم الحضاري الحديث. وكان ذلك مما أَدَّىٰ المسلمين إلى التغافل الجماعي والفردي عن العناصر الإيجابية لحركة الحياة في الإسلام، الذي ظلّ ولايزال وسيظلّ منفتحًا على كل تطوّر حضاري قوامه عناصر الخير للإنسان؛ ومن ثم تَوَجَّهَ المسلمون منذ مستهل العصر العباسي إلى ترجمة كتب الحضارات الأخرى، فقامت حركة شاملة نشيطة للترجمة والاقتباس من التراث العلمي الحضاري لدى الأمم الأخرى، كَوَّنَتْ مادّةً علميّة بنى المسلمون عليها وأضافوا إليها وطَوَّرُوها تطويرًا جعل العالم حيران مدهوشًا أمام الـمُعْطَيَات الحضاريّة الضخمة التي كانت غيضًا من فيض صنيعهم مع العالم، الذي لا يُقَدَّرُ بثمن.

       فالمسلمون هم الذين وضعوا أساسًا للحضارة الراقية التي استنارت بها أوربّا وبنت عليها الحضارة الحديثة بجوانبها الإيجابية البنّاءة لا بناحيتها الشيطانية المُدَمِّرة التي نشهدها اليوم.

*  *  *


(*)     المتخرج من الجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ ديوبند والحامل لشهادة الماجستير في الفلسفة في اللغة العربية وآدابها من جامعة دهلي.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الآخر  1438 هـ = يناير 2017م ، العدد : 4 ، السنة : 41

Related Posts