دراسات إسلامية

بقلم:  فضيلة الشيخ/ عطية صقر «رحمه الله»

          إن الحديث عن النبي –صلى الله عليه وسلم- ليس حديثًا مرهونًا بمناسبة ميلاده، أوبدء دعوته وظروف هجرته، ولكنه حديث الرسالة الإسلامية المتكاملة مبادئ وقيادة، ونظامًا وسلوكاً على امتداد الزمن وفي جميع المجالات حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

       إنه حديث عن نشأته كيف تمّت، وعن دعوته كيف بدأت، وعن دولته كيف تكوّنت، وعن مسيرته كيف تحرّكت، وعن حياته كيف انتهت.

       إنه حديث عن الرسول –صلى الله عليه وسلم- كيف شقّ الطريق بين الأشواك، وكيف تخطى بإيمانه وإصراره كل العقبات، وكيف غرس أصول الحضارة الصحيحة في عقل الإنسان ونفسه، وفي روحه وخلقه، وفي نظام حياته وسلوكه، وكيف سلم الراية لمن بعده ممن صنعهم على عينه بتوفيق من الله ورحمة، وكيف انطلقوا بها شرقًا وغربًا، وعاشوا بين الأمم منارات هدىً وروّاد إصلاح في ظل دولة قوية السلطان شامخة البنيان.

       لقد صح أن النبي –صلى الله عليه وسلم- ذكر أن النبوة ختمت به، وأنه اللبنة الأخيرة في صرح الإنسانية الصحيحة الذي تداولت بناءه جميع الرسل من قبله. لقد كان هو اللبنة التي تم بها البناء وكمل، وتزين وتجمل. عاش هو قائد المسيرة الإصلاحية أعوامًا محدودة بين الناس بشخصه، ثم لحق بربه؛ لكنه ظل حيًّا يعيش في قلوب المؤمنين وعقول جميع المفكرين على توالى العصور وتعاقب الأجيال. عاش هذه الحياة المثالية بمبادئه التي ظلت صالحة للتطبيق في كل عصر، ولإشاعة الخير في كل مصر، امتد بصره وبصيرته إلى الأجيال القادمة فعاش معها بالنصح والتوجيه، وتحدث عن الأمصار التي سيفتحها الله على الأمة وهو لايزال محاصرًا بدعوته يحفر الخندق حول مدينته، أخبر أن الله سيبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها، أو يصحح لها مسيرتها فيأخذ بيدها إلى الصراط المستقيم، وتحدث عن المغرورين المتكئين على أرائكهم وهم يطعنون في سنته الشريفة وقد أوتي القرآن ومثله معه كما يقول. وتابع مسيرته مع أمته وهم بين يدي الساعة فيأمر من بيده فسيلة أن يغرسها ليبرهن على أن دينه دين حياة وعمل وكفاح وأمل؛ بل إنه-صلى الله عليه وسلم- لم يترك أمته حتى طمأنهم على أنه سيكون معهم في الآخرة شفيعًا فقد ادخر لهم دعوته المستجابة لهذا الموقف كما صحّ في الحديث.

       إنها الرسالة التي أخذ الله لقائدها البيعة من النبيين من قبله أن يؤمنوا به إن أدركوه فأقروا وكان معهم على ذلك من الشاهدين، وستظل له الزعامة عليهم حتى يبعث الله من كل أمة بشهيد ويجيء بمحمد -عليه الصلاة والسلام- على هؤلاء شهيدًا، وحتى يبعثه مقامًا محمودًا لم يقل فيه كما قال الأنبياء:نفسي نفسي؛ بل يستجيب ويقول: يارب أمتي يارب أمتي.

       إن رسالة كهذه شأنها وشأن قائدها لجديرة بأن تظل معطاءة لكل خير، ومنارًا لكل هدىً كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها، وكيف لا تكون معطاءة للخير على الدوام وهي ثرية المبادئ كاملة التشريع واضحة الهداية. ثرية بأصالتها التي تغني عن كل مستورد غريب، كاملة بوفائها الذي لا يحتاج معه إلى قانون، واضحة بأسلوبها الميسر لكل مدكر بعيدًا عن الخلجات الغامضة، والشطحات التجريدية الخاوية، والإشارات الخفية الحائرة، ولا عجب في ذلك فمنبعها الصافي هو القرآن الكريم الذي لا تفنى عجائبه، ولا يعقل آياته إلا العالمون، تنزيل من حكيم حميد.

       إن دين الإسلام ليس قديمًا جامدًا كما يروّج المضلِّلون؛ بل هو دين حيّ متحرك يعيش مع كل نبضة من نبضات الوجود البشري، ومجتمعه الأصيل الذي بناه ليس مجتمعًا منغلقًا كما يدّعي المفترون؛ بل هو مجتمع فيه انفتاح على كل العالم يقبس من خيره، ويرد عليه خبثه، وجدير بهذا الدين – وهو صنع الله- أن تنصهر فيه كل الأفكار، وتذوب فيه جميع النظم، ومن نكسة التفكير أن تنعكس هذه الحقيقة فينصهر الحق في الباطل، ويذوب الكامل في الناقص كما ينادي من يدعون أنهم مجددون.

       إن الإطار الكبير الذي وصفه الله لدينه يتسع لكل فكر سليم ونظام صحيح أن يعيش فيه؛ بل ينمو ويزدهر في ظلّه، والإسلام بمقاييسه الدقيقة جدير بكل مذهب ورأى أن يحتكم إليه ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ (سورة النساء: الآية ٥٩). والمسلمون بحكم أصالتهم لا يخشون التعامل مع غيرهم فقد قال لهم قائدهم: «خالط الناس ودينك لا تكلمنه» ذلك جانب من جوانب الخلود في الرسالة، وما كان لها هذا الخلود إلا بالقيادة الراشدة فهما أمران متلازمان لا يغني أحدهما عن الآخر، فإن فَسدت القيادة وصحت المبادئ وقفت الدعوة أو انحرفت، وإن فسدت المبادئ وصلحت القيادة فسدت الدعوة وأفسدت.

       ورسالة الإسلام صحت مبادئها وصلحت قيادتها، وكيف لا تصح مبادئها وهي صنع الله الذي أتقن كل شيء، ودستورها القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم، وكيف لا يصلح قائدها وهو محمد –صلى الله عليه وسلم- الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه(1)، وتعهده بالرعاية منذ طفولته المبكرة، وجده يتيمًا فآواه، وضالًّا حائرًا كيف يصلح قومه فهداه، وعائلًا فقيرًا في ذات يده فأغناه.

       وأبرز صفات هذا القائد أنه من جنس قومه معروف النسب والتاريخ، خبير بمشاكلهم عليم بالأساليب التي تناسبهم، رقيق القلب يعزّ عليه أن يراهم في عنت وشدة أو منحرفين في الفكر والسلوك عن الجادة، حريص كل الحرص أن يوفر الخير لهم ويدفع الضرر عنهم يفيض رحمة وتقديرًا للمؤمنين به كفاءة ما تحملوه من آلام وما بذلوه من تضحيات؛ بل إن قلبه الكبير ليتسع بهذه الرحمة فلم يدعُ بالهلاك على أعدائه؛ بل كان يرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به، ودعا لهم بالهداية حين شجّوا وجهه وكسروا رباعيته في لقاء «أحد»، كما صحّ في الحديث، اقرأ قوله سبحانه: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْـمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (سورة التوبة: الآية ١٢٨).

       لقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- في قيادته لمسيرة الإصلاح تجسيدًا حيًا للمبادئ التي يدعو إليها عقيدة وسلوكًا، وجاء عن عائشة – رضي الله عنها – أن خلقه كان القرآن، وليس من السهل أن تحصر هذه الأخلاق في صورتها الكاملة فمبلغ العلم فيه أنه بشر، وأنه خير خلق الله جميعًا كما قال البوصيري في بردته، ويكفينا في ذلك هذا الإيجاز البليغ من قوله سبحانه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ﴾ (سورة القلم: الآية 4) يقول الشاعر الحكيم:

يا مصطفى من قبل نشأة آدم

والكون لم تفتح لــه أغـلاق

أيروم مخلوق ثناءك بعــد ما

أثنى على أخلاقك الخلاق؟

       لقد عاش هذا القائد في قومه عيشة اجتماعية نموذجية، ومثَّل في كل شؤونه القيادة الراشدة الموفقة فلم يجعل بينه وبين الناس فجوة من زهو أو تكبر، ولم يرض أن يتميز عليهم بما يشعر بجفاء أو ترفع، وكم أمر من الله أن يقول: «إنما أنا بشر»، وكم وجه أصحابه إلى عدم المبالغة في مدحه فقال: «لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم، ولكن قولوا: عبد الله ورسوله». كان مربيًا حكيمًا يعفو عن مسيئهم ككل ابن آدم خطّاء، ويكرم محسنهم فيؤتي كل ذي فضل فضله، ويقبل منهم النصح والمشورة لرفع معنوياتهم وتدريبهم على الاستقلال والحرية، وإذا اقتنع برأي نفذه مستعينًا بقوة الله مطمئنًا لتأييده.

       وحتى تكون هناك ثقة قوية في القيادة كان هو أول من يطبق أوامر الله على نفسه، فعاش زاهدًا قانعًا مع أن الدنيا كانت تجري بين يديه، وعروض الثراء كانت تتكاثر من حواليه، وذلك دليل نزاهته وعفته، وشاهد حق على صدق دعوته فأجره على الله وحده، وكان تحريه في تطبيق العدالة والمساواة حتى على نفسه وأقرب الناس إلى قلبه، دليلًا فوق دليل على أنه رسول المبادئ الإنسانية الإصلاحية لا داعية المنافع الشخصية، وموقفه من المخزومية السارقة، وحلفه أن ينفذ الحدود حتى على ابنته «فاطمة» معروف.

       وبعد فإن أيّة حركة إصلاحية تتخذ لها الإسلام شعارًا لابد لنجاحها من قيامهاعلى مبادئ الدين، وأن يكون القائمون عليها نماذج متخيرة واعية متيقظة تستهدف الخير والإصلاح العام وتستلهم العون من الله الذي يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (سورة محمد: الآية 7).

الهامش:

  • «أدبني ربي فأحسن تأديبي» ليس حديثًا مرفوعًا إلى النبي، وإن كان معناه صحيحًا.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول  1438 هـ = ديسمبر 2016م ، العدد : 3 ، السنة : 41

Related Posts