دراسات إسلامية

بقلم:  الأستاذ محمد ساجد القاسمي (*)

       جَزى الله عنِّي خيرًا خادمَ الحرمين الشريفين الملكَ سلمانَ بن عبد العزيز آل سعود- حفظه الله ورعاه- الذي أدَّيتُ شَعيرةَ الحجِّ ضِمْن برنامج ضيوفه لعام 1437هـ، البرنامجِ الذي مضى على انطلاقه 20عامًا، والذي يقوم بأداء فريضة الحجِّ ضِمْنَه كُلَّ عَام 2400حَاجٍّ من 60 دولةً في العالم، و وَزِيرَه فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ -حفظه الله- وزيرَ الشؤون الدينية والدعوة والإرشاد الذي يرعى هذا البرنامج، وسفيرَه سعادة الدكتور سعود بن محمد الساطي سفيرَ المملكة العربية السعودية لدى الهند، والملحقَ الدِّيْنيَّ أحمد بن على الرومي- حفظه الله-، وأعضاءَ السِّلكِ الدبلوماسيِّ بالسفارة الذين يختارون شخصياتٍ وممثلين لبرنامج ضيوف خادم الحرمين الشريفين.

       ثم جَزى الله خيرًا فضيلةَ الشيخ المفتي أبو القاسم النعماني -حفظه الله- رئيسَ الجامعة الإسلامية: دار العلوم/ ديوبند؛ حيث اختارني والشيخَ جميل أحمد السكرودوي مُمَثِّلَيْنِ للجامعة لأداءِ فريضة الحجِّ تحت برنامج ضيوف خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيزآل سعود- حفظه الله وتولاه-.

       لقد غمرني الفرح والسرور والسعادة يوم 20/ من شعبان 1437هـ الذي بَشَّرَنِيْ فيه رئيس الجامعة، حيث قال: «إنَّك ستحُجُّ هذا العامَ ضَيْفًا على خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيزآل سعود- حفظه الله-، وسَيُرَافِقُك أستاذٌ من أساتذة الجامعة، فهو يُمَثِّلُ الجامعةَ بعلمه وشيخوخته، وأنت تُمَثِّلُها بأدبك ولغتك».

       نقلت هذه البشارة إلى أقاربي وأصدقائي ومعارفي، ففرحُوا أشَدَّ الفَرحِ، وهنَّؤوني، ودعوا لي بالخير والبركة.

       منذ طويل كنت أدعو الله -جَلَّ وعلا- دعاءَ الضَّارع ذي الحاجة، في ساعات الإجابة، أن يُهيِّئ  لي أن أزوربيته المكرَّم حَاجًّا ومُعْتَمِرًا، فأجاب دعوتي وحقَّق أمنيَّتي، حيث يسَّر لي أن أعتمر في رمضان سنة 1434هـ، وأن أحُجَّ هذا العام1437هـ.

       مضت الأيام والليالي استبطئُها، وأنتظرُ موعد السفر بفارغ الصبر.. تمت الترتيبات التي تسبِق السفر.. أرسلتُ جواز السفر إلى سفارة المملكة العربية السعودية بدهلي الجديدة، فأُبْلِغْتُ موعدَ السفر، وهو 2/ سبتمبر 2016م. وقد طُلِبَ أن نحضرَنحن المشاركين في البرنامج إلى منزل سعادة السفير الدكتور سعود بن محمد الساطي بدهلي الجديدة في 1/ سبتمبر 2016م.

       فتحركنا نحن الثلاثة: الشيخ نعمت الله  الأعظمي والشيخ جميل أحمد، وكاتب السطور فجرًا من ديوبند  ووصلنا إلى المقر الرئيسي لجمعية علماء الهند بدهلي في السابعة صباحًا، ثم حضرنا مع الضيوف الآخرين إلى منزل سعادة السفير ظهر 1/ سبتمبر، حيث أقام حفلَ توديعٍ للمشاركين في برنامج ضيوف خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود لعام 1437هـ ، بحضور أعضاء السلك الدبلوماسيّ والملحق الدِيْنِيّ أحمد بن علي الرومي حفظه الله.

        ألقى سعادة السفير الدكتور سعود بن محمد الساطي كلمة نقل فيها تحيات خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- إلى الضيوف، مؤكِّدًا أنَّ برنامج الاستضافة رسالة المملكة العربية السعودية واهتمامها المتواصل بالعلماء والمؤثِّرين في العالم.

       ونوَّه بالمشروعات العملاقة التي تقوم بها حكومة خادم الحرمين الشريفين- يحفظه الله- كل عام لخدمة الحرمين الشريفين والتسهيل على الحجاج والمعتمرين ورعايتهم، يشهد بهذا القاصي قبل الداني.

       فلما انتهى الحفل تَمَّ توزيعُ العُلَبِ على الضيوف، وكانت العُلَبُ تشتمل على ثياب الإحرام  والنعال والأشياء اللازمة الأخرى للحاجِّ. ثم رجعنا – بعد ما أخذنا العلب- إلى المقر الرئيسي لجمعية علماء الهند بدهلي الجديدة، حيث مكثنا الليلة واليوم الذي بعده، وهو يوم الجمعة، وصلينا في مسجده صلاة الجمعة، وتغدينا على مأدبة فضيلة الشيخ أرشد المدني/ حفظه الله.

       كان موعد الطائرة الثامنة مساءً، فتأهَّبنا أهبة السفر، ولبسنا ثَوْبَي الإحرام من المقرِّ الرئيسي آخذين بالحيطة، وأصبحنا كالمتكفن بالثياب البيضاء  الذي ولَّى عن الدنيا وأقبل على الآخرة، وما رحلة الحج إلا كرحلة الموت.

       تحركّنا بالسيارة نحو مطار «إنديرا غاندي» الدولي في الساعة الثالثة والنصف، فوصلنا إليه، وتمت إجراءات ما قبل السفر، حتى حان وقت المغرب، فصلينا المغرب في المطار، ثم ركبنا الطائرة التي أقلَّتنا إلى «جدة» والتي استغرقت في الوصول إليها أربع ساعات ونصف.

       فلما طارت بنا الطائرة في جوِّ السماء وقطعت مسافة لا بأس بها نويت العمرة قائلاً: اللهمَّ  إنِّي أريد العمرة فيسِّرها لي وتقبَّلها مني، وملبِّيًا: «لبَّيْك اللهُمَّ لبَّيْك، لا شَرِيكَ لكَ لَبَّيْك، إنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لك والـمُلكَ لاشَرِيْكَ لَكَ».

       أصبَحْتُ محرِمًا، فوجبَ عليَّ تجنُّب محظورات الإحرام من التطيُّب وتغطية الرأس ولبس المخيط وما إلى ذلك.

       كنت في الطائرة استأنس بالحديث إلى من كان بجنب مقعدي حينًا، وألهج بالتلبية حينًا آخرَ، حتى وصلت الطائرة إلى مطار الملك عبد العزيز الدولي بجدة بعد أربع ساعات ونصف من إقلاعها، ثم أقَلَّتْنَا الحافلاتُ إلى المكاتب الجمركية، فصلَّينا العشاء وأخذنا ننتظر حتى جاء دَورُنا، فاستكملنا الإجراءات الجُمركية، وأخذ أحدُ الموظَّفين جوازاتِ سفرنا، ثم خرجنا من المطار.

       كانت حافلات برنامج ضيوف خادم الحرمين الشريفين في انتظارنا خارجَ المطار، فركبناها، ثُمَّ تَمَّ تَوزِيعُ وجبات العشاء وقارورات الماء و عُلَب العصير علينا – نحن الضيوف- فأكلناها هنيئًا مريئًا. ثم سارت بنا الحافلات من «جدَّة» إلى «مكة» المكرمة سيرًا حثِيثًا، حتى أوصلتنا إلى  فندق الدَّار البيضاء بها ، فنزلنا أمام الفندق، فاسْتَقَبَلَنَا مسؤولو البرنامج وموظَّفوه استقبالاً حارًّا، وقدَّمَ خَدَمَةُ الفندق إلينا -كنُزُلٍ- التمور وماء زمزم ممزوجًا بماء الورد.

       كان الفندقُ ذا نجوم خمسة يُوَفِّر للضيوف جميع وسائل الراحة وأنواع الطعام الشهي وصنوف المشروبات وأرقى الخدمات. كما كان به مكاتب عديدة لوزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد التي تقوم بالإشراف على هذا البرنامج  ونشاطاته.وقد وجدنا المسؤولين والموظفين أولي الصلة بالبرنامج أشدَّ الناس حِرْصًا على خدمة الضيوف وإراحتهم.

       نزلنا نحنُ الثلاثة: الشيخ نعمت الله الأعظمي، والشيخ جميل أحمد السكرودوي وكاتب هذه السطور في الغرفة ذات الرقم:3404  في الفندق، وصَلَّينا الفجر، وبما أنَّنَا كنا مُتعبين جدًا نِمنَا نومًا هادئًا، ثم استيقظنا في نحو الثامنة صباحًا، واستعددنا للذهاب إلى الحرم. فنزلنا من الفندق و اكترينا سيارة أجرة تُقِلُّنا إلى الحرم، فأنْزَلَنا السائقُ بعيدًا عن الحرم  تقيدًا بنظام المرور، فمشينا على الأقدام حتى دخلنا المسجد الحرام.

        فلما وقعتْ أوَّلُ نظرة على الكعبة المشرَّفة دعونا الله -جَلَّ وعلا- بما وفَّقنا؛ لأنَّ الدعاء عند أول نظرة إلى الكعبة مستجاب، ثم وصلنا إلى المطاف، واستقبلنا الحجر الأسود واستلمنا بالإشارة إليه؛ لأنَّ الوصول إليه كان صعبًا، وربَّما كان يؤدي إلى الإيذاء، وطُفنا بالبيت سبعةَ أشواط، ثم صلينا ركعتين، وشربنا ماء زمزم، ثم توجَّهنا إلى المسعى، ووقفنا على الصفا مسقبلين الكعبة، ودعونا الله -جلَّ وعلا-، لأنَّ الصفا والمروة من شعائر الله ومن الأماكن التي يُستجاب لديها الدعاء، ثم بدأنا بالسعي، فسعينا بين الصفا والمروة سبع مرات، وأسرعنا بين الميلين الأخضرين.

       وأثناء السعي ذهب بنا الخيال وراء آلاف السنين، فرأينا أن السيدة هاجر تسعى بين الصفا والمروة بحثًا عن الماء لابنه الصغير إسماعيل -عليه السلام-، وقد رضي الله عن سعيها هذا، حتى جعله عبادة، وأمربممارسته كل من يحجُّ أو يعتمر إلى يوم القيامة.

       بعد ما انتهينا من السعي ذهبنا إلى محل الحلاقة، واقتصرنا على تقصير الرأس؛ لأنَّ الحج كان قريبًا، والحلق سيكون بعد رمي جمرة العقبة والذبح. وكان اليوم يوم السبت: غُرَّة ذي الحجة.

رجعنا إلى الفندق، واستحللنا من الإحرام، ثم بقينا نتمتع بمحظوراته إلى يوم السبت: الثامن من ذي الحجة.

       كانت حافلات البرنامج تذهب إلى الحرم مرتين في اليوم والليلة: في الثالثة ليلاً وفي الرابعة عصرًا، فكنا نذهب بها إلى الحرم نصلي فيه الصلوات، ونقضي الأوقات في الذكر والدعاء والطواف وانتظار الصلاة.

       بقينا كذلك إلى اليوم السابع من ذي الحجة، وقد زارَنا في الفندق خلال هذه الفترة سعادة الدكتور صالح بن عبد العزيزبن محمد آل الشيخ/ حفظه الله وزير الشؤون الدينية والدعوة والإرشاد الذي يُشرِفُ على برنامج الاستضافة.

       كان في الفندق دفتر وُضِعَ لتسجيل كلمات الشكر والتقدير والانطباعات عن هذا البرنامج ومدى أهميته للمسلمين، وقد كَتَبَ فيه بعضُ الضيوف آراءَهم وانطباعاتهم، فكتبت فيه انطباعاتي تجاه هذا البرنامج المبارك، وهي فيما يلي:

بسم الله الرحمن الرحيم

       أحمد الله -جلَّ وعلا-، وأشكره على نعمه ومننه التي أسبغها علينا ظاهرة وباطنة، ومن أعظم نعمه أن أتاح لنا فرصة أداء شعيرة الحج التي هي من أهمِّ عبادات الإسلام وفرائضه، وذلك ضِمْنَ برنامج ضيوف خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيزآل سعود حفظه الله.

       فأشكر أصالة عن نفسي ونيابة عن الوفد المرافق لي المكوَّن من كل من الشيخ نعمت الله الأعظمي والشيخ جميل أحمد السكرودوي أستاذي الجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ ديوبند بالهند، وعن الجامعة ورئيسها فضيلة الشيخ المفتي أبو القاسم النعماني/ حفظه الله، وعن جميع الحجيج الهنود القادمين ضمن البرنامج.. أشكر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود/ حفظه الله وتولاه، ووزيره معالي الوزير الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ/ حفظه الله، الذي يُشرف على هذا البرنامج الهادف البنَّاء.

       لا شك أن هذا البرنامج برنامج لا يوجد له نظير في تاريخ خدمة الحجيج وخدمة الحرمين الشريفين..برنامج يُحَقِّقُ التضامن الإسلاميَّ، ويُقَرِّب بين صفوف المسلمين في مختلف دول العالم، ويُتِيْح لهم فرصة طيِّبة لمشاهدة ما تقوم به حكومة خادم الحرمين الشريفين من خدمات جُلَّى نحو الأماكن المقدسة، وتوفير جميع وسائل اليسر والراحة للحجَّاج والمعتمرين.

       فجزى الله عنَّا خيرًا خادم الحرمين الشريفين، ومتَّعه بطول العمرمع الصحة، ويصون قيادته الرشيدة من كل شرٍّ وفتنة، ويوفِّقه لما يحبُّه ويرضى.

       وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

وكتبه

محمد ساجد القاسمي

أستاذ التفسير والأدب العربي

بالجامعة الإسلامية دار العلوم ديوبند، الهند

7/ ذو الحجة 1437هـ = 9/ سبتمبر2016م

        فلما كان اليوم الثامن: يوم التروية لبسنا ثوبي الإحرام مرة أخرى: اتَّزرنا ثوبًا وارتدينا ثوبًا آخر. كان من ترتيبات مسؤولي البرنامج والمشرفين عليه أن يذهبوا بنا في اليوم الثامن: يوم التروية بعد صلاة العصر رأسًا إلى عرفة، وقد أعلنوا بعد صلاة الفجرأن يُصلِّي الحجيج العصر في مسجد الفندق، ويعودوا إلى غرفهم، ويبقوا فيها منتظرين النداء؛ لأنَّ المرشد يُنادي باسم كلِّ بلد، فاذا نادى باسم بلد يخرج أهله، وذلك منعا للتدافع والتزاحم في المصاعد وفي أبهاء الفندق.

       صلينا عصر يوم التروية في مسجد الفندق عملاً بالتوجيه المسبَّق، ورجعنا إلى غرفنا، وقد بقينا فيها منتظرين النداء، فلما نادى المرشد باسم «الهند» خرجنا من غرفنا ونزلنا بالمصعد إلى الدور الأرضي من الفندق، ووقفنا بباب الفندق، ثم ركبنا حافلة ذات رقم: 14، وكانت هذه الحافلة للحجاج الهنود، وركب الحجاج الآخرون من البلاد الأخرى حافلاتهم المختصة بهم، فلما استوى جميع الحجيج المقيمين في الفندق على الحافلات، زحفت قافلة الحافلات إلى عرفة، وقد فاتتنا صلاة المغرب في الطريق، ووصلنا عرفة في نحو التاسعة والنصف ليلاً، فنزلنا نحن الحجيج الهنود والباكستانيين في مخيم ذي رقم:5، وكان المخيم مزوَّدًا بالمكيفات والوسائد والحشايا.

       صلينا المغرب والعشاء في المصلّٰى، ثم تعشَّينا في المطعم الذي كان أمام المخيم. وبما أنَّنا كنا تعبانينَ نِمنا مِلءَ جفوننا، واستيقظنا على أذان التهجد، ثم توضأنا وتوجهنا إلى المصلى، فصلينا ما شاء الله أن نُصلِّي، وبقينا ننتظر لصلاة الفجر، ثم أُذِّنَ لصلاة الفجر، فصلّٰى بنا الإمام الفجرَ، ثُمَّ ألقى خطبة وجيزة يعرف فيها بأهمية يوم عرفة، وكون الوقوف بها أحد ركني الحج، وبيَّن الأمور اللازمة الأخرى. وبعد الفجر أوينا إلى فراشنا لنأخذ قسطًا من الراحة لنتقوَّى على الوقوف بعد زوال الشمس.

       استعددنا في الساعة الحادية عشرة نهارًا، وتوجَّهنا إلى المصلّٰى، فما إن زالت الشمس حتى صلّٰى الإمام بنا صلاتي الظهر والعصر جمعَ تقديم قصرًا. ثم ألقى  خطبةً بيّن فيها ما فعل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في هذا اليوم المبارك من الجمع بين صلاتي الظهر والعصر، وإلقاء الخطبة، ودعائه –صلى الله عليه وسلم- رافعًا يديه إلى السماء، والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس، ثم التحرك إلى مزدلفة، والجمع بين صلاتي المغرب والعشاء جمعَ تأخيرقصرًا، وما إلى ذلك.

       وألقى الشيخ عبد الرحمن السديس من مسجد النمرة خطبة ضافية تناول فيها ما تواجه الأمة الإسلامية من مشكلات وقضايا متنوعة، وقد نشرت الخطبة على الشاشة  في المصلى، فتابعناها بكاملها.

       بعد ما فرغ الحجيج من الصلاة وسماع الخطبة أصبحوا بين تالٍ للقرآن، وذاكر لله، ومبتهل إليه..حتى مالت الشمس إلى المغيب. ثُمَّ أعلن المرشد بالتحرك نحو الحافلات، فركبناها.. ووقفت الحافلات في مكانها حتى غربت الشمس، ثم زحفت إلى مزدلفة، وكان الطريق مزدحمًا بالمشاة والحافلات والسيارات. فوصلنا إلى «مزدلفة» في الساعة العاشرة والنصف، فصلينا فيها المغرب والعشاء ومكثنا بها نحو ساعتين، ثم تحركت الحافلات في الثانية عشرة والنصف إلى منى، فوصلنا منى في الساعة الواحدة والنصف.

       كان مخيَّم ضيوف خادم الحرمين أمام الجمرات وآخرَ مخيَّمٍ بمنى، فدخلنا المخيم وأخذ الحجيج الهنود مضاجعهم.

       وقد أهمَّني في هذه الليلة أمر، وهو أن الوقوف بمزدلفة في شيء مما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس واجب عند الإمام أبي حنيفة -رحمه الله-، فإن فات الوقوف بمزدلفة في شيء من هذا الوقت يجب الدم. فكان لي إما أن أتخلَّف في مزدلفة عن الحافلة للوقوف بعد الفجر، إذًا فيصعُب عَلَيَّ وصولي إلى مخيمي بمنى؛ لإنِّي ما رأيته حتى الآن؛ وإمَّا أن أركب الحافلة مع الحجيج الآخرين وأصل إلى مخيمي بمنى وأرى سريري فيه، ثمَّ أعود أدراجي إلى مزدلفة وأقف بها وقوفًا واجبًا.

       آثرت الخيارالثاني، فخرجت من مخيمي بمنى في نحو الساعة الثالثة والنصف ليلاً، وسألت الشرطة والمرشدين عن مزدلفة وبُعْدِها، فأخبروني -يجزيهم اللهُ خيرًا-، فمشيت على قدميَّ وحدي إلى مزدلفة، حتى وصلت إليها بعد نحو ساعة ونصف، ووقفت بها بضع عشرة دقيقة حتى أُذِّنَ للفجر، فصليت الفجر، ورجعت بالقطار إلى منى، ووصلت إلى مخيمي وقد طلعت الشمس.

       استعدَّ رفقائي في المخيَّم للذهاب لرمي جمرة العقبة، فأفطرتُ على عجَل، وأخذتُ الحصيات التي تزوَّدتُها من مزدلفة، وصحبتهم إلى جمرة العقبة، فرميتُها بسبع حصيات رضًا للرحمن ورغمًا للشيطان، وتشبُّهًا بإبراهيم عليه السلام.

       لقد ظهر إبليسُ لإبراهيم -عليه السلام- وحاول أن يورد شبهة في حجه، أو يفتنه بمعصية، فأمره الله أن يرميه بالحجارة طردًا له وقطعًا لأمله. أما نحن فنرمي الجمرات امتثالًا لأمر الله تعالى وانقيادًا له. ونعم ما قال الإمام الغزالي رحمه الله:

        «اعلم أنَّك في الظاهر ترمي الحصى إلى العقبة، وفي الحقيقة ترمي به وجه الشيطان، وتقصم به ظهره؛ إذ لا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثال أمر الله -سبحانه تعالى- تعظيمًا له بمجرد الأمر من غير حظ للنفس والعقل فيه».(إحياء علوم الدين: 3/489)

       ثم علينا أن نذبح شاة كدمٍ للتمتُّع، ثم نحلق رؤسنا؛ إلا أنَّ خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز تولّى عن الضيوف دم التمتع، كما أخْبَرَنَا في الفندق مستشاره سعد بن ناصر بن عبد العزيز الشثري عضو هيئة كبار العلماء، والمستشار بالديوان الملكي، فحلقنا رؤسنا فور رمي جمرة العقبة.

       ثم توجَّهنا إلى الحرم لطواف الزيارة، وبحثنا عن السيارة أو الحافلة التي تُوصِلنا إلى الحرم، و بعد ما مشينا كثيرًا وجدنا سيارةَ أجرةٍ أخذ صاحبُها من كل منا مئة ريال، وأوصلنا من الطريق البعيد إلى مكان قريب من الحرم، فطُفْنا بالبيت طوافَ الزيارة، ثم سعينا بين الصفا والمروة، وما إن فرغنا من السعي حتى كان وقت العصر فصلينا العصرفي الحرم.

        ثم أردنا أن نرجع إلى منى فاكترينا سيارةً طلب منَّا صاحبُها ثلاثَ مئة ريال موزَّعةً على خمسة أشخاص، واشترط علينا أنَّ شرطة المرور إذا منعه من السير في خطٍ ينزلهم جميعًا، فرضينا بأجرته وشرطه.

       أخذ السائق يسوق سيارته في الطريق المؤدِّي إلى منى، فلما وصل إلى إشارة المرور قبل النَّفَقَيْنِ الوَاقِعَينِ قبل منى، منعه الشرطي من السيرفي الطريق إلى منى، فاضْطُرِرْنَا إلى النزول من السيارة، فمشينا على الأقدام، وعبرنا النفق الأول والثاني، واكترى بعضُ زملائنا  العربية، حتى وصلنا مخيمنا في منى بعد المغرب، وقد أخذ التعب والإعياء منَّا كلَّ مأخذٍ.

       فلما كان يوم القَرِّ، وهو الحادي عشر من ذي الحجة بقينا في مخيمنا مستريحين حتى إذا زالت الشمس صلينا الظهر و ذهبنا  لرمي الجمرات، ثم عدنا أدراجنا إلى المخيم.

       وأما في يوم النّفر الأول (وهو اليوم الثاني عشر من ذي الحجة) فقد أعلن مسؤولو البرنامج أنَّ الضيوف يرمون الجمرات بعد صلاة العصر، ويتَّبِعون المرشدين الذين يأخذون بهم إلى الحافلات ذات الأرقام الخاصة، فتبعنا المرشد الذي بيده اللواء ذو الرقم 14، فمشينا كثيرًا حتى ركبنا إحدى حافلات البرنامج، ولم نجد الحافلة ذات رقم 14، ثم أوصلتنا الحافلات إلى فندق الدار البيضاء قبل غروب الشمس بنحو ساعة، فصلينا العصرفي الفندق.

       وكان من المقرر في هذه الليلة أن تذهب الحافلات بالضيوف لطواف الوداع في الساعة الحادية عشرة، ثم تتحرك بنا إلى المدينة المنورة في الساعة الثالثة سحرًا.

       فوفقًا للبرنامج المرسوم توَجَّهنا بالحافلات إلى الحرم، فطُفْنَا ببيتِ الله – عزَّ وجَلَّ- طوافَ الوداع، وفي نهاية الأمر حاولنا الوصول إلى الملتزم وعتبة الباب، فنجحنا في المحاولة، و دعونا الله بما وَفَّقَنا، ثم جلسنا في المطاف برهة نكتحل برؤية الكعبة المشرفة، ثم نظرنا إليها نظرةَ مُوَدِّعِ وخرجنا إلى موقف السيارات حَزانى آسِفين، ورجعنا إلى الفندق في الساعة الواحدة والنصف. استرحنا في الفندق قليلًا، ثم خرجنا منه في الساعة الثالثة ليلاً، وركبنا الحافلات التي تحركَّت بنا للمدينة المنوَّرة.

       صلَّينا الفجر في الطريق، ووصلنا إلى المدينة المنورة في الساعة العاشرة والنصف من اليوم الثالث عشرمن ذي الحجة، ونزلنا في فندق «كراون بلازا» بالمدينة، لم يكن هذا الفندق أقلَّ مستوىً من فندق الدار البيضاء، وكان قريبًا من المسجد النبوي – على صاحبه الصلاة والسلام-. وقد استقبلنا الغلمان في الفندق بالأغاني العربية المطربة. وضعنا أغراضنا في غرفة ذات رقم:133 في الدور الأول، واستعددنا للذهاب إلى المسجد النبوي. دخلنا المسجد من باب السلام وقد حان موعد صلاة الظهر، فصلَّينا الظهر، ثم توجَّهنَا إلى الروضة الشريفة على صاحبها -ألف تحية وسلام-، وبي من العواطف والأحاسيس ما لا أكاد أصفه، فسلمت على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما-، كما سلمت عليه وعلى صاحبيه ممن وكلوني بتبليغ سلامهم.

       عدنا إلى الفندق وتغدَّينا فيه، ثم اشتغلنا بقضاء بعض شؤوننا ثم صلينا العشاءين في المسجد النبوي. و ما إن رجعنا إلى الفندق في الساعة العاشرة والنصف ، حتى أوْذِنَ بالرَّحِيْل ، فخرجنا من الفندق، وركبنا حافلات البرنامج وقد استلمنا فيها هدية غالية من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود/ حفظه الله، وهي عبارة عن زجاجة من العطر وسبحة وعلبة من التمر. وقد وَدَّعَنَا رجالُ البرنامج ومُوَظَّفُوه معتذرين عن التقصير في الحفاوة والإكرام، كما شَيَّعنا بعضُهم إلى مطار المدينة.

       كان موعدُ الطائرة في مطار المدينة 3:50 فجلسنا منتظرين في المطار، فلما حان الموعدُ ركبنا الطائرة، ثم أقلعت في موعدها،  وهبطت على مطار جدة 4:55، ثم علينا أن ننتظر الطائرة التي تُقِلُّنا إلى دهلي أربع ساعات، فقضينا الساعات الأربع في المطار، ثم ركبنا الطائرة  في10:20، وهبطت بنا في مطار «إنديرا غاندي» الدولي بدهلي في 6:10.

       حضر فضيلة الشيخ أرشد المدني مطاردهلي لاستقبالنا نحن الحجيج لا سيَّما فضيلة الشيخ نعمت الله الأعظمي، ثُمَّ ذهب بنا إلى مقرِّ جمعية علماء الهند حيث صلينا العشاء وتعشينا على مائدة فضيلة الشيخ شأنَنَا في الذهاب. ثم وصلنا إلى ديوبند في الساعة الواحدة والنصف – بفضل الله ورحمته- سالمين مُعافين.


(*)   أستاذ قسم الأدب العربي بالجامعة الإسلامية: دارالعلوم ديوبند (الهند)

      sajidqasmideoband@gmail.com

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول  1438 هـ = ديسمبر 2016م ، العدد : 3 ، السنة : 41

Related Posts