دراسات إسلامية

بقلم:  صلاح عبد الستار محمد الشهاوي(*)

       ترك العرب المعرفة الإنسانية تراثًا لم تتركه أمة قبلهم ولا بعدهم يتمثل في أمهات الكتب والمعاجم والموسوعات التي خطتها أقلام العلماء والأدباء الذين أفنوا أعمارهم في التفكير المثمر والإنتاج الغزير نثرًا وشعرًا وعلمًا وفنًا وكانوا يطربون لصرير أقلامهم على الورق كما يطرب الموسيقار لألحان الآلة التي يعزف عليها.

       كلمة ورق – جاءت أصلا من ورق الشجر، إحدى مواد الكتابة عند العرب قبل تعرّفهم على الورق المصنوع. أما كلمة – ورّاق – فجاءت بمعنى الدراهم ربما لكثرتهاتكون مثل ورق الشجر قال تعالى: ﴿فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذه إِلَى الْـمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا﴾ (الكهف:١٩). والورق تعني – الرجل كثير الدراهم – (عرفت الدراهم عند العرب بالورق، وأطلقوا على الموسر مورقًا، وأطلقوا على الفضة اللجين، وأطلق لفظ الورق على المال كله بعد ذلك، قال الشاعر:

يارب بيضاء من العراق

تأكل من كيس أمرئ ورَّاق)

       كما تعني العامل في صناعة الورق ومنها – مورق الكتب – أي الذي يحترف الوراقة مثل بيع الكتب ونسخها وخطها وتجليدها وتهذيبها.

* الورق في التاريخ العربي:

       كانت بدأيات الكتابة عند العرب نقوشًا على الأحجار الكبيرة؛ لذا ساد المثل «العلم في الصغر كالنقش على الحجر» وبعد ذلك أخذت الكتابة على «الصحف». كَتَب العرب على أكتاف الإبل (اللخاف) وألواح الحجارة الرقيقة (الرقاق) والعريض من جريد النخل (العُسُب) واستخدموا جلود الحيوانات كالماشية والإبل والأغنام والماعز، صحفًا للكتابة، وذلك بعد دبغها وإزالة الوبر أو الصوف أو الشعر عنها، كانت هذه الجلود تهيأ بعناية، فتكشط وتحكّ حتى ترقّ، وكانت تسمى Diphterai وهي كلمة يونانية ذات أصل فارسي قديم (دفتر) ومنها أخذ العرب التسمية نفسها. فالدفتر وجمعه دفاتر: مجموعة من الصحف تُضم إلى بعضها بعضًا، وفي طياتها محتوى لموضوع واحد، أو عدة مواضيع متشابهة. بل إننا نستطيع أن نُرجع كلمة «الجفر» وهو في الأصل رقاق من جلد الماعز إلى الكلمة نفسها. وبعد أن يُكتب على الرقاق يطلق العرب على الرقاق أسماء مختلفة:

       المُصحف – والجمع مصاحف-: مجموعة كبيرة من الصحف تتميز طياتها عن الصحيفة بأنها يُكتب على وجهها وظهرها، تُضم طياتها وتربط عند طرفها الأيمن بخيط متين يخاط من فوق نزولًا إلى أسفل، بحيث تكون الكتابة على دفتي المصحف، وعندما جُمع القرآن الكريم، جُمع على هذه الطريقة فسُمي مصحفًا، وجاءت عليه ألف ولام (الـ) التعريف للدلالة على التفرد والعظمة.

       الكتاب – والجمع كُتب-: وهو جامع الكتابة، فإما أن يكون ما كُتب عليه من المؤلف نفسه، وإما أنّ المؤلف أملاه لآخر فاستكتبه. وقد عمّ هذا الاسم فأصبح يعني كل ما هو مكتوب. سواء على الرقاق أو على غير ذلك من المواد، ثم أصبح مرادفًا للمصحف أيضًا.

       الصحيفة – وجمعها صُحُف-: وهي كل ما يكتب عليه بقطعة واحدة وعلى وجه واحد فقط.

       السّجل – والجمع سجلات-: ولا تختلف السجلات عن الصحف إلّا بمضمون المكتوب عليها، ولا تكون من اللخاف أو الرقاق أو العُسُب، لصعوبة طيها. قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ (الأنبياء:١٠٤). ﴿وَالسَّمٰوٰتُ مَطْوِيّٰتٌ بِيَمِينِهِ﴾ (الزمر:٦٧). فالسجلات عبارة عن وثائق رسمية، أوحسابات تجارية، تُحفظ كمطويات بطريقة أسطوانية، ملفوفة بخيط أوفي علبة معدنية، وتوضع على أرفف خاصة وبطريقة أفقية.

       الكراسة أو الكراس- والجمع كراريس-: مثل الدفتر، إلَّا أنها أصغر في قطعها، وتضم في طياتها موضوعًا واحدًا أو جزءًا من كتاب.

       وفي الحقيقة أن نقلة كبيرة في الكتابة والورق حققها اكتشاف المصريين للبردي. ومنذ ذلك الحين بدأت تختفي الكتب الحجرية والصلصالية الثقيلة وغير العملية، وبدأت تظهر شرائح البردي الطولية، كانت توضع متعارضة، في طبقتين أو ثلاث، فوق بعضها ثم تبلل بالماء وتضغط. وكان يصنع كصفحات منفصلة، ثم تلصق هذه الصفحات الواحدة في الأخرى، وتراوح عرض شرائح البردي من ثلاث أقدام إلى 18 قدمًا. ويقول علماء الآثار: إن أطول ورقة بردي موجودة هي بردية – هاريس – ووصل طولها إلى 133 قدمًا وعرضها إلى 16 قدمًا.

       كان العرب يطلقون كلمة «قراطيس» على أوراق البردي، وقد وردت القراطيس في القرآن الكريم ومنها الآية التي جاءت في سورة الأنعام ترد على طلب مشركي العرب من النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يأتيهم بمعجزة: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَـٰبًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ (الأنعام:٧).

       وانتقلت صناعة الورق إلى العرب والمسلمين عندما فتحت سمرقند على يد القائد قتيبة بن مسلم الباهلي في عام 93هـ/712م، وكان للعرب والمسلمين بعد ذلك فضل تعريف العالم الأوروبي بالورق، يذكر المؤرخ – عبد الملك الثعالبي – أن صناعة الورق في سمرقند انتقلت للعرب إثر معركة –تاليس – عام 143هـ/751م، فقد أسر خلالها القائد – زياد بن صالح – الصنّاع الصينيين، وأرسل بعضهم إلى بغداد لينشئوا هذه الصناعة فيها. وقد ورد في بعض المصادر الصينية نص تاريخي يشير إلى وجود فنانين صينيين في تلك الفترة في الكوفة. وأنهم علموا الصناع المسلمين النقش والتصوير، إضافة إلى نسج الحرائر وغيرها.

       وكانت بغداد أول مدينة تحتضن أول مصنع للورق في بلاد العرب في عهد هارون الرشيد، وقد أسس هذا المصنع –الفضل بن يحيى – في عام 178هـ/794م (الفضل بن يحيى والي خراسان، وابن يحيى البرمكي وزير هارون الرشيد) وبعد أن كثر الورق أمر الخليفة – هارون الرشيد – بترك الكتابة في الورق القديم المصنع من الجدل والبردي وغيره (يروي القلقشندي في صبح الأعشى ما يلي: «ولي الرشيد الخلافة وقد كثر الورق وفشا عمله بين الناس، فأمر ألا يكتب الناس إلا في الكاغد؛ لأن الجلود ونحوها تقبل المحو والإعادة، فتقبل التزوير، بخلاف الورق؛ فإنه متى مُحي فَسُد، وإن كُشط ظهر كشطه. وانتشر الكتابة في الورق إلى سائر الأقطار وتعاطاها من قرب وبعد، واستمر على ذلك إلى الآن). والانتقال للكتابة في الورق الصيني الذي أطلقت عليه العرب «الكاغد» حتى صارت المقولة التي يسير بها الركبان: «كواغد سمرقند عطلت قراطيس مصر».

       كان العرب يستخدمون في الكتابة ورق الشجر واللخاف – حجارة بيضاء رقيقة – وعسب النخل – الجريد الذي لا خوص فيه – كما كتبوا على الجلود وعظام الحيوانات وعلى قطع النسيج وألواح النحاس والخشب.

       وإذا كان أهل الصين هم أول من توصل إلى سر صناعة الورق واستخراجه من شرانق الحرير فإن العرب تعلموا صناعة الورق من صناع صينيين وقعوا في الأسر عندما فتح العرب سمرقند. (يمثّل وصول الاختراع الصيني لـ -الورق – إلى العالم الإسلامي منعطفًا أساسيًا في انتشار صناعة الكتاب والمكتبات ودور الحكمة والعلم وازدهار محترفات النسخ والتخطيط والتدوين والتصوير والتذهيب والتجليد حتى أصبح – حي الوراقين – يمثل العصب الرئيسي في خطط التنظيم الحضري). ثم بدأ العرب يستبدلون شرانق الحرير بمواد أكثر توافرًا في أقاليم الدولة الإسلامية وكان الورق الصيني يسمى «الكاغد» فسماه العرب بنفس الاسم بعد أحداث التغيير الهام الذي يعتبر حادثًا هامًا في تاريخ العالم فقد قام المسلمون بتنقيته مما كان يستعمل في صناعته من ورق التوت ومن الغاب الهندي وقامت مصانع للورق في دمشق وطبرية بفلسطين وبطرابلس – الشام؛ لكن ظلت سمرقند أكبر مركز لصناعة الورق مما دعا الخوارزمي لمداعبة أحد أصحابه معاتبًا لقلة الكتابة إليه قائلًا: «هل سمرقند بعدت عليه والكاغد عز عليه». ثم انتشرت صناعة الورق بعدها في كل أرجاء العالم العربي والإسلامي ودخل أوروبا عن طريق الأندلس.

       ظهرت صناعة الورق الكاغد في مكة المكرمة عام 171هـ/787م، ثم انتقلت إلى مصر عام 184هـ/800م؛ حيث يحدثنا الثعالبي في كتابه لطائف المعارف بقوله: «إن كواغد سمرقند بطلت قراطيس مصر» – يقصد البردي – كما ظهرت صناعة الورق العربي في الأندلس عام 39هـ/950م. ومن الأندلس انطلقت صناعة الورق إلى أوربا حيث كانت طليطلة – بوصفها من أكبر المراكز الثقافية في ذلك الوقت- أول المدن الإسبانية التي دخلت إليها مصانع الورق، ومنها انتقلت صناعة الورق إلى صقلية عام 1102م، وإلى إيطاليا عام 1154م، ثم ألمانيا عام 1228م، ولم تصل صناعة الورق إلى إنجلترا إلا في حوالي عام 1309م.

       ويعتقد أن أقدم الكتب المؤرخة الموجودة والمنسوخة باللغة العربية على الورق هي جزء من أعمال – أبي عبيد القاسم بن سلام – عن أحاديث الرسول –صلى الله عليه وسلم- وهذا الكتاب محفوظ في مكتبة جامعة –ليون- ويعود تاريخه إلى ذي القعدة 252هـ/ نوفمبر عام 866م. وهو من الورق البني الداكن، والورق غير شفاف وصلب وقوي ومتوسط السمك ومن الواضح أنه تم تلميعه من الجانبين. ويبدو أنه كانت هناك بعض المعارضة لاستخدام تلك المادة الجديدة (أي الورق) لتدوين القرآن والذي كان يدون في العادة في ذلك الوقت، على الورق المصنوع من جلد الماعز بعد ترطيبه وتنظيفه، وفضّل الجلد لقوته وطول عمره؛ إلّا أن الجلد كان مكلفًا ويحتاج إلى جهد وعمالة لتجهيزه، فضلًا عن وجوب ذبح الماعز للحصول عليه. ومن ثم انتصر الورق في النهاية كمادة للكتابة الأكثر سلاسة. كما تغير بالإضافة إلى ذلك الشكل النمطي للكتاب من الوضع الرأسي إلى الوضع الأفقي. وأقدم النسخ الورقية الموجودة للقرآن كتبت بيد الخطاط – علي بن سدان – الرازي – في عام 971-972م، وما تبقى من هذه المخطوطة المكونة من أربعة أجزاء مكتوبة بشكل رأسي، مقسم بين – أردبيل – في إيران. ومكتبة جامعة إسطنبول، ومكتبة – تستربيتي – في دبلن، وهناك مخطوطة ورقية أخرى من القرآن تم نسخها في أصفهان في عام 993م، وهي تحتفظ بالشكل الأفقي للمخطوطات الجلدية. وربما تكون المخطوطة الورقية الأولى للقرآن الكريم التي يرجع تاريخها إلى عام 1000-1001م هي أكثر المخطوطات شهرة، وقد نسخها – علي بن هلال – المعروف باسم – ابن النواب – والمخطوطة عبارة عن جزء صغير يحتوي على 286 صفحة، كل صفحة بها 15 خطًا من الخط اليدوي المعروف باسم – النقشي – وهو الخط الذي جعل ابن النواب بهذه الشهرة. وغياب الإهداء من هذه المخطوطة مع صغر حجم الخط يوحيان بأن ابن النواب نسخ تلك المخطوطة ليبيعها في السوق وليس بتكليف من أحد.

الوراقون في جزيرة العرب

       عُرفت مهنة الوراقة في مختلف أرجاء الجزيرة العربية منذ قرون قديمة؛ إلا أن منطقة نجد شهدت وجودها مع بداية القرن التاسع الهجري بسبب نشاط الحركة العلمية آنذاك خاصة في العلم الشرعي، وما صاحبها من حركة فاعلة في نسخ الكُتب التي سهلت تداول العلوم والمعارف بين طلبة العلم والعلماء، وعدّت في ذلك الوقت من أهم الروافد الملازمة لصناعة الكتب قبل ظهور الطباعة في القرن الخامس عشر الميلادي.

       وحمل العديد من الوراقين في نجد أقلامهم وأحبارهم متنقلين في مختلف مناطق نجد والجزيرة العربية؛ بحثًا عن نسخ الكتب التي تُطلب من المهتمين بالعلم، وذلك بمقابل مادي أو ابتغاءً لوجه الله تعالى للمساهمة في نشر العلم والمعرفة، وتجاوز عددهم ما بين القرن التاسع إلى القرن الثالث عشر الهجري (150وراقًا)، وفي القرن الرابع عشر بلغ عددهم (82 وراقًا).

       إن إدخال وانتشار صناعة الورق في الدولة العربية الإسلامية منذ العصر العباسي الأول – القرن الرابع الهجري – أحدث طفرة ثقافية وحضارية لم يسبق لها مثيل في تاريخ الإنسانية، فقد يسرّ الورق على العلماء تأليف الكتب ونسخها وازدهرت تجارة الكتب وأعمال الوراقة، وأصبح الكتاب يلعب دورًا هامًا في حياة الإنسان العربي المسلم الذي حضّه الإسلام على العلم والتعلم وجعله فريضة على كل مسلم. وهذا ما عبر – الجاحظ – عنه في رسالة إلى المعلمين بقوله: «ولولا الكتاب لاختلت أخبار الماضي وانقطعت آثار الغائبين ولقد رأينا عمود صلاح الدين وصلاح الدنيا إنما يعتدل في نصابه ويقوم على أساسه بالكتاب والحساب».

       يقول – وول ديورانت – عن صناعة الورق على يد العرب: «كان إدخال هذا الاختراع سببًا في انتشار الكتب في كل مكان».

       ويدلنا – اليعقوبي (ت:278هـ/891م) – أنه كان في زمانه أكثر من مئـة بائع للكتب في بغداد، وأن محلاتهم كانت مراكز للنسخ وللخطاطين والمنتديات الأدبية، وكان كثير من طلاب العلم يكسبون عيشهم عن طريق نسخ المخطوطات وبيعها للوراقين، وألحق بأغلب الجوامع مكتبات عامة، وكان يوجد في بعض المدن مكتبات تضم كتبًا قيمة، يباح الاطلاع عليهاللجميع.

       أما أجور النساخين والمدونين فقد كانت تختلف باختلاف حسن خطوطهم ودقة تدوينهم وأمانتهم في التدوين والضبط والمطابقة، وفي بعض الأحيان كان المؤلفون يجعلون النساخين والمدونين يبيتون عندهم طول الليل حتى يفرغوا من إنجاز المؤلف وعدد من النسخ منه، فقد روي عن عالم يدعى –يعقوب بن شيبة السدوس – أنه صنف مستندًا وكان في بيته أربعون لحافا لمن يبيتون عنده من الوراقين لتبييض المستند ونقله وقد كلفه ذلك عشرة آلاف دينار حتى خرج المستند كاملا.

رواج الكتب وانتعاش الأدب

       ونتيجة لصناعة الورق ظهرت مهنة الوراقة والنسخ، ومن ثم راجت الكتب وظهرت المكتبات حيث بدأ الخلفاء والسلاطين يقيمون المكتبات لهم في قصورهم كما أقاموا المكتبات العامة للناس وكانوا يتباهون بما يجمعون فيها من كتب مخطوطة ومنسوخة وينفقون عليها ببذخ شديد لتنميتها وتضمينها المخطوطات التي لا توجد في أي قطر سواها حتى يأتي الناس من كل صوب ومكان للقراءة والاطلاع والنسخ، فانتشرت خزائن الكتب في أقطار العالم الإسلامي من سمرقند وفارس إلى بخارى وقرطبة ومن بغداد ودمشق إلى حلب والقاهرة، وأصبح التفوق الثقافي مجالًا للتنافس بين الدول والإمارات الإسلامية – بين العباسيين في بغداد والأمويين في الأندلس وبين الحمدانيين في حلب والموصل- إلى أن تكون جنة الأدباء والشعراء والفلاسفة في نفس الوقت التي قامت المقاومة الإسلامية وحدها ضد العدوان البيزنطي المتلهف لاحتلال الشام وفلسطين حتى قيل: إن ملك الروم عاير الأمير أبي فراس الحمداني بأن قومه قوم كتاب وأصحاب أقلام ولا يعرفون الحرب مما ألهب مشاعر الأمير فاندفع بقواته لتأديب ملك الروم المتبجح وأنشد الأمير الشاعر قصيدته الغراء مخاطبًا ملك الروم المجروح والمندحر والتي جاء فيها قوله:

بأقلامنا أحجــرت أم بسيـــوفنا

وأسدُ الشرى قدنا إليك أم الكتبَا

       وقد تواصل العرب قبل غيرهم من الأمم إلى علم إدارة المكتبات وتصنيف المؤلفات تصنيفًا موسوعيًا ووظفوا بالمكتبة موظفين يرأسهم – الخازن – وهو أمين المكتبة والذي كان يختار من أهل العلم والمكانة، ومن أشهر خزان المكتبات في التاريخ الإسلامي – سهل بن هارون وابن مسكوب وأبي يوسف الأسفراني – وكان بكل مكتبة عدد من النساخين والمترجمين والمجلدين بالإضافة إلى عدد من المناولين الذين يحضرون الكتب للقراءة.

       ومن المعروف أن الحضارة العربية والإسلامية قد أقامت نهضتها على أكتاف المكتبات وأن هذه المكتبات قد أقامت نهضتها على أكتاف النساخين والوراقين الذين اضطلعوا بنسخ الآلاف المؤلفة من المخطوطات والمدونات التي شملت كافة مجالات العلوم والمعرفة الإنسانية، فقد لعب النساخون والوراقون دورًا كبيرًا في نشر الثقافة، فكانوا يلعبون دور آلات النسخ والطباعة التي نستخدمها في عصرنا الحالي؛ بل كانوا مدرسة تخرج منها العلماء، فكثير من المؤلفين بدءوا حياتهم كنساخ وكتبة ووراقين في قصور الخلفاء أو حوانيتهم التي أصبحت تشغل أحياء كاملة في كل مدينة عربية، يذكر اليعقوبي أنه كان في بغداد في القرن التاسع الميلادي – أي بعد أقل من قرن من الزمان منذ أن دخل العرب صناعة الورق – ما يزيد على وراق استخدمت حوانيتهم في نسخ الكتب وبيعها والاتجار فيها.

       وهناك أيضًا من كانوا من كبار علماء المسلمين وقد بدءوا حياتهم وراقين وناسخين، ثم عدلوا عن هذه المهنة، منهم: ابن الخزاز وأبي بكر القطنطري وأبوبكر الخراساني وابن عقيل الذي ذكره الباخرزي في مخطوطة الشهير – دميه القصر- وكان لبعض الوراقين تأثير علمي وأدبي على أسرهم فنبغ بعض أفرادها مثل: زينب وحمدة ابنتا زيد الوراق – تاجر الكتب الذي كان يعيش في وادي الحمى بالقرب من غرناطة – فقد عرفت زينب وحمدة بسعة الاطلاع والتبحر في العلوم والأدب، بل كانتا تقفان في صف مشاهير أهل العلم.

وفي الختام:

       لم يجد الإنسان طوال تاريخه المعروف، سندًا لإثبات إنسانيته مثل الورق، منذ أن كان مجازًا في جلد وحجر وصلصال، إلى أن أصبح حقيقة تستعصي على الزوال، ظل الورق يؤكد على جدارته بلقب الذاكرة الثانية للإنسان في مقابل مخاوف النسيان وأحلام الخلود. رافق الإنسان والكتابة منذ عهد مبكر، وما زال يلوّن حياة مليارات البشر في العالم، يحفظ لهم تاريخهم، يشكل حاضرهم، ويؤثر على مستقبلهم. مثلما كان رفيقًا للكتابة كأرقى نشاط إنساني، فهو إلى الآن قرين للذهب والفضة كأغلى ممتلكات الناس، لن يكذب من قال: إن حياتنا ورق.

*  *  *

المراجع

  • محمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، المجلد العاشر الطبعة الثالثة 1971م.
  • أحمد أمين، ضحى الإسلام، الجزء الثاني 1952م.
  • د/سيد أحمد علي الناصري: الوراقون والنساخون، مجلة الدارة العدد الرابع السنة الرابعة عشر رجب 1409هـ.
  • سعيد عبدالفتاح عاشور، المدينة الإسلامية وأثرها في الحضارة الأوربية، دار النهضة الطبعة الأولى القاهرة 1963م.
  • محمد عطية الأبراشي، التربية الإسلامية وفلاسفتها، دارالفكر العربي ط 19776م.
  • إريك دي جرولييه، تاريخ الكتاب،ترجمة الدكتور/خليل صابات مكتبة نهضة مصر القاهرة 1965م.
  • عبد الملك الحمصي، إسهام العرب في نشأة الكتابة والخزانة العامة، مجلة الفيصل العدد 197.
  • فريق تحرير مجلة القافلة، ملف العدد الورق، العد 63 يوليو/أغسطس 2013م.
  • د. أشرف صالح محمد، حضارتنا المتألقة في العصور الوسطى، مجلة الوعي الإسلامي العدد 581 محرم 1435هـ نوفمبر 2013م.
  • شهير الشاذلي، تاريخ موجز للورق، مجلة العربي العدد 673 ديسمبر 2014م.

*  *  *


(*)        باحث في التراث العربي والإسلامي عضو اتحاد كتاب مصر.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، المحرم – صفر  1438 هـ = أكتوبر – نو فمبر 2016م ، العدد : 1-2 ، السنة : 41

Related Posts