دراسات إسلامية

بقلم: الكاتب الإسلامي الشهيرالشيخ /أسرار الحق القاسمي(*)

ترجمة: أبو عائض القاسمي المبارك فوري

       ينظر العالم كله إلى ما شهدته تركيا من الانقلاب العسكري الفاشل يوم الجمعة وما تبعه من الأحداث نظرةً ملؤها الحيرة والاستعجاب، وهو حقا يثير الاستغراب. فبعد مضي نهار الجمعة وفي الساعة السابعة مساء سمع الناس صوت المدافع والدبابات العسكرية على شوارع مدينة «أنقرة» وأزيز الطائرات العسكرية في سمائها، وتبع ذلك اقتحامُ مجموعة من الجنود البغاة محطة التلفاز الرسمي، و مكاتب حكومية أخرى واستيلاؤها عليها، وهم يرفعون هتافات مناوئة للحكومة، وكاد أن يتكرر على حكومة تركيا الجريئة ما تعرضت له حكومة الدكتور محمد مرسي المنتخبة جمهوريًا في مصر عام 2013م، حيث قامت القوات العسكرية المصرية بقيادة الجنرال عبد الفتاح السيسي بإعلان الخروج على الرئيس المصري بتشيجع من عدة دول عربية وغربية ومساعدات مالية من قبلها. و صمد الشعب المصري عدة أيام ضد هذا الوضع، إلا أنه تم قلب الحكومة المنتخبة جمهوريا؛ بل حدث ما هو أفظع وأشنع؛ حيث زُجَّ بالرئيس المصري وأنصاره في السجن، ولايخفى على العالم ما حدث في أعقاب ذلك. و ربما كانت تسول نفوس القوات العسكرية الخارجة على الدولة في تركيا أنهم ينجحون في قلب الحكومة المدنية وفرض  الطوارئ على البلاد، إلا أن أمنيتهم هذه لم يحالفها النجاح؛ بل عادت هذه المحاولة الفاشلة وبالا عليهم. فما إن بلغ الحكومة التركية أنباء الانقلاب العسكري في البلاد حتى سارعت إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة بحكمة ولباقة، فلجأ الرئيس التركي طيب أردوغان إلى الشبكة العنكبوتية، و استخدم «اسكائب» (skyp) واتصل بالشعب التركي وأهاب بهم إلى النزول إلى الشوارع والساحات احتجاجًا على الانقلاب العسكري ومحاولةً لإفشاله، وحفاظًا على الجمهورية في البلاد، فلم يصل هذا الاتصال إلى مكان من الأمكنة إلا خرج الناس عن بكرة أبيهم تلبيةً لنداء رئيسهم وقائدهم إلى الشوارع والساحات، كما نشط الشباب والشابات لا في تركيا وحدها؛ وإنما في العالم كله على موقع التواصل الاجتماعي في الدفاع عن الحكومة التركية والذود عنها، فلم يمض إلا ساعات حتى دوى هذا النداء في أنحاء تركيا كلها، وخرج مئات الآلاف من الأتراك من بيوتهم وتجمعوا على الشوارع، و لم يتخلفوا عن التضحية بنفوسهم و الإعراب عن ثقتهم بالحكومة حفاظًا على الجمهورية في تركيا، فقد شاهد العالمُ الشعبَ كله –رجالا ونساء- يتصدى للقوات الباغية. كما أن الأحزاب المعارضة السياسية في تركيا آثرت المصالح القومية على مصالحها الخاصة، و لم تستغل الوضع الآني، وإنما قدمت الحفاظ على الجمهورية والقانون في البلاد على كل شيء،  فهي كذلك تستحق التقدير والثناء. مما يدل على أن الرئيس التركي المنتخب السيد «طيب إردوغان» ينزل من قلوب شعبه منزلا عاليا رغم الدعايات المكثفة التي يقوم بها الإعلام العالمي ضده، وأن ما قام به من خطوات نحو الرقي والإنماء والأعمال المجيدة هي حقائق وعلى أرض الواقع، وينظر إليها الشعب التركي نظرةً ملؤها التقدير والإعجاب. وفي الوقت الذي نرى فيه الشعب في معظم البلاد غضبان على الحكومات الراهنة فيها، وترغب في الاستبدال بها حكومات جديدة خلال سنة أو سنتين. وإن استمرار حكم حزبٍ واحدٍ ورئيسٍ واحدٍ في تركيا لمدة خمسة عشر عاما، ثم خروج مئات الآلاف من الشعب إلى الشوارع و الساحات بنداء واحدٍ من رئيسه لدحض البغاة والطاغين يشكل خطوةً غيرَ عادية في الواقع. ويتطلب ذلك الاعتراف بأن السيد «طيب إردوغان» قائد فذ منقطع النظير على المستوى العالمي، و أن شعبه يثق به ويعتمد عليه كل الاعتماد، وقد يكون ثمة خلافات داخلية حزبية إلا أن الشعب على إيمان كامل لايتزعزع بأن «طيب إردوغان» يمثل لاشعبه وحده وإنما المسلمين في العالم كله في المحافل الدولية وبقوة فائقة. فإذا كان «طيب إردوغان» نجح في رفع المستوى التعليمي والاقتصادي في تركيا إلى الذروة في جانب؛ فإنه في جانب آخر لم يدخر جهدًا في إيواء ومساعدة المسلمين المضطهدين المشردين المغلوبين على أمرهم في فلسطين وبورما والشام والعراق وغيرهما من المناطق في العالم، الأمر الذي لايسع حتى أعداءه في السياسية رفضه وإنكاره، وهو ما دفع الإعلام العالمي إلى مواصلة نسج المؤامرات وخلق الجو المناوئ له، والتاكيدات المستمرة على أن «إردوغان» يرغب في فرض الدكتاتورية في تركيا.

       وعلى كل فإن الانقلاب العسكري في تركيا قد باء بالفشل الذريع، وبدأت الإجراءت ضد السلطات العسكرية والمسؤولين في مختلف المناصب العسكرية ممن كانت لهم يد في هذا الانقلاب العسكري الفاشل تأخذ سبيلها، حيث تم اعتقال ثلاثة آلاف موظف عسكري، و إعفاء 2800 من القضاة الضالعين في هذا الانقلاب، وصدر الأمر بالقبض على 140 قاضيًا من قضاة المحكمة العليا.وقال ابن علي يلدرم – رئيس الوزراء التركي- عقب فشل الانقلاب في حديثه إلى الصحف: «لن يتم التأجيل في اتخاذ الإجراءات اللازمة ضد القوات الضالعة في الانقلاب. وأعلنت الحكومة التركية تغلبَها على الوضع، وعودة كافة النشاطات إلى مجاريها.

       وفيما يخص الوقوف وراء هذا الانقلاب العسكري فقد صرح «إردوغان» بأن حريفه السياسي فتح الله غولن له ولأنصاره في الجيش يد في هذا الانقلاب العسكري. و تجدر الإشارة إلى أن فتح الله غولن نازل في ولاية «بنسلونيا» من الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنوات عدة ماضية، ويخضع- في فكره ونظرته – لسعيد النورسي– الصوفي التركي المعروف- و له منظمة تسمى بـ«خدمت»، ناشطة في أكثر من 160 دولة في العالم، ومعروفة بخدمات تعليمية واجتماعية. وبما أن فتح الله غولن نازل في أمريكا، فاتَّهَمَ أحدُ وزراء السيد «إردوغان» -بصورة غيرمباشرة- أمريكا بأنها ضالعة في الانقلاب العسكري ، وتفيد الأنباء الواردة بأن تركيا قطعت الكهرباء من إحدى قواعدها العسكرية التي سمحت لأوربا باستخدامها، و فرضت الحظر على تحليق الطائرات العسكرية في حدودها الجوية. وفي جانب آخر رفض «جون كيري»- وزير الخارجية الأمريكي- ضلوع أمريكا في محاولة الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا، واعتبر اتهامات تركيا منقوضة الأساس، غير أن السيد إردوغان صرح بأن لديه ما يؤكد ضلوع فتح الله غولن وأنصاره في الجيش- في الانقلاب العسكري، فلننظر ما مدى هذه الإثباتات و البراهين على ذلك.

       وهذا الحادث الذي شهدته تركيا كان غير عادي بالقدر الذي كان مفاجئا، فنشط المتخصصون والصحف على المستوى العالمي في دراسة أسبابه وعواقبه وخبايا زواياه، ويحتل تقرير الصحيفة الأمريكية المعروفة (wall street general) أهمية خاصة للغاية، فقد سلطت الصحيفة – وهي تقارن بين الانقلاب العسكري الذي شهدته مصر عام 2013م ومحاولة إعادته في تركيا – الضوءَ على نجاحه في مصر وفشله في تركيا، وهو ماتع للغاية. تقول الصحيفة: «حين نفخت القوات المصرية في صور الانقلاب العسكري في مصر بقيادة السيسي تجمعت الحشود الشعبية حولها، كما خرجت الطبقات الحرة و بعض الجماعات الدينية إلى الشوارع تأييدا له  مما استغله السيسي، على العكس من تركيا التي عارض الشعب فيها حظر التجول المزعوم الذي فرضته حفنةٌ من الجيش التركي، كما وقفت الأحزاب السياسية المعارضة  وقبائل الكرد والطبقات الحرة – وقفةَ رجلٍ واحدٍ- بجانب الحكومة المنتخبة، وعارضت الانقلاب العسكري بصورة مكشوفة.

       وتقول الصحيفة: «لقد لعب موقع التواصل الاجتماعي دورًا هامًا في إفشال محاولات الانقلاب العسكري في تركيا،كما أن إشعار إردوغان شعبه في حينه وتأكيده المستمر على أن تركيا – إذا ما نحج الانقلاب العسكري فيها – ستتعرض لاضطهادات الجيش وأعماله الهجمية الوحشية شأن ما حدث في مصر مما كان له تأثير بالغ في نفوس الشعب التركي. ولا أدل على ذلك من أن الشعب التركي حين خرج إلى الشوارع والساحات بنداء رئيسه السيد طيب «إردوغان» كان – بجانب رفع الهتافات المختلفة- يشير إلى رمز «رابعة»، الذي أصبح معلما واضحا على الاحتجاج ضد حكومة السيسي في مصر.

       وتعترف الصحيفة أيضا بأن إردوغان قد خَطَاَ بتركيا خطوات حثيثة بعيدة إلى الرقي والازدهار خلال خمسة عشر عاما مضى، مما أكسبه شعبيةً واسعةً في تركيا، وخلق جوا ملؤه الثقة بالرئيس التركي، وهو الأمر الذي دفعهم إلى الوقوف بجانبه.

       وتقول الصحيفة: إن من أهم أسباب ذلك أن «إردوغان» حدَّد صلاحيات الجيش بعد تولي الحكم في البلاد، و أما محمد مرسي فلم تتيسر له الفرصة الكافية لهذا العمل. ثم إن أبرز ما عمل وراء فشل الانقلاب العسكري في تركيا ونحاجه في مصر أن الجيش المصري برمته قام بجانب السيسي في الانقلاب العسكري ضد الحكومة المنتخبة، وأما في تركيا فلم يساهم في محاولات الانقلاب إلا حفنة من الجيش، وبقي سائر الجيش مواليا للحكومة فلم يصعب التغلب على القوات الباغية، بعد ما أوشكت الحكومة الجمهورية في تركيا على الانهيار والسقوط.

لِلتُّرِك سَاعَاتُ صَبْرٍ يَوْمَ نَكْبَتِهِمْ

كُتِبْنَ فِي صُحُفِ الأخْلاَقِ بِالذَّهَب


(*)     عضو مجلس الشعب الهندي، ورئيس المؤسسة التعليمية الوطنية لعموم الهند.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، المحرم – صفر  1438 هـ = أكتوبر – نو فمبر 2016م ، العدد : 1-2 ، السنة : 41

Related Posts