دراسات إسلامية

بقلم:  مساعد التحرير

       رنَّ جرس هاتفي الجوال وأنا عائد من دهلي في الليلة المتخللة 7 و8 من ديسمبر عام 2015م فإذا المتصل المفتي أبو الكلام القاسمي حفظه الله – المفتي الشرعي بولاية بهوبال(1)- حيث طلب مني بعد التحية والتسليم أن أقوم برحلة دعوية لمدينة الحياض والترع مدينة بهوبال حيث يشغل الشيخ منصب المفتي الشرعي الرسمي، علما بأن ولاية «مدهيه برديش» هي الولاية الهندية الوحيدة التي تعترف الحكومة المركزية الهندية بالمناصب الشرعية الإسلامية بها من الإفتاء والقضاء. وكنت قرأت وسمعت كثيرًا عن ولاية «بهوبال» الإسلامية السابقة وعن رجالاتها ونشاطاتها الدينية ومآثر أمرائها الإسلامية. وكان صوت الجوال متقطعا فلم أستطع استيعاب الموضوع جيدًا فأجلت المكالمة إلى صباح الغد، وبالتالي أعاد الشيخ مكالمته، وأصر على زيارة «بهوبال» إصرارًا لامزيد عليه، فقبلت دعوته حين علمت أن بعض مشايخ جامعتنا هو الآخر قد استدعاه المفتي أبو الكلام بهذه المناسبة وهو الشيخ منير الدين- أستاذ الجامعة و ناظر عام شؤون السكن الطلابي بها-. وفي اليوم نفسه قطع المفتي أبوالكلام تذكرتين ذهابًا وعودة، بالقطار السريع من ديوبند إلى دهلي والعكس وبالطائرة من دهلي إلى بهوبال والعكس.

       وفي اليوم الموعود غادرنا دارالعلوم/ديوبند الساعة الرابعة مساء ووصلنا إلى محطة السكة الحديدية في ديوبند، قبل موعد القطار بوقت كافٍ، وجاء القطار على الموعد– الساعة الخامسة إلا الربع- يتهادى ونحن على الرصيف رقم واحد، فركبناه وأخذنا مقاعدنا فيه، وسار القطار بطيئا ثم اشتد سيره، وتوقف القطار على بعض المحطات بين ديوبند ودهلي حتى وقف على محطة نظام الدين/ دهلي، وأخذنا أغراضنا البيسطة ونزلنا من القطار وتوجهنا إلى مكتب سيارات الأجرة المسبوقة الدفع خارج المحطة، و ركبنا «الركشا الآلية» التي سارت بنا في طرق دهلي الواسعة حتى وصلنا إلى المنطقة التي كنا نريدها و الوقت الساعة العاشرة والنصف ليلا، فَضَلّ السائق الطريق ونحن أضل منه طريقا إلى المدرسة التي كنا قررنا النزول بها، وأجرينا الاتصال مع مديرها الفاضل الشيخ قاسم القاسمي(2)– الذي رحب بقدومنا إليها-، فاتصلنا عليه ليرشدنا إلى المدرسة التي كنا حواليها، فلم نتلق ردا منه؛ لأنه كان يحضر بعض البرامج الدعوية في المدينة، وفي نهاية المطاف دلنا على موقع المدرسة بعض المارة حتى وصلنا إليها بسلام آمنين، والشيخ قاسم لم يزل في مشواره فنزّلنا نجله البارع في دارالضيافة المريحة، وقدّم لنا الفطور الخفيف ثم العشاء فتناولناهما وأوينا إلى فراشنا، وقد وضعنا المنبهة على الساعة الثالثة فجرًا، وكان الشيخ قاسم قد كلف أحد أبنائه أن يوصلنا إلى المطارفي الساعة الرابعة بالضبط بسيارته الخاصة مما كان له وقع طيب كبير في نفوسنا؛ فقد علمنا مسبقا صعوبة الحصول على سيارات الأجرة إلى المطار في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل. فحمدنا الله تعالى على هذا التيسير وشكرنا الشيخ قاسم على حسن صنيعه بنا، فجزاه الله خيرا. دخلنا صالة المطار والناس صفوف طويلة هائجين مائجين أمام مكتب الخطوط الجوية الهندية التي تم حجز مقاعدنا عليها، وتحدثنا إلى بعض الموظفين بالمكتب ولكن دون جدوى؛ فقد أشار علينا كلهم بلزوم الوقوف في الطابور الطويل، وخشينا أن تفوتنا الرحلة ثم جاءنا بعضهم، وشرحنا لهم المشكلة فأخذوا بنا إلى بعض المكاتب الفارغة في الصالة و استكملنا إجراءات السفر خلال نصف ساعة ثم اتجهنا إلى بوابة الرحلة رقم 435 على الخطوط الجوية الهندية. وقضينا ما تبقى من وقت ركوب الطائرة و إقلاعها على الساعة السادسة تماما أمام البوابة، حتى أعلن المذيع الاستعداد لركوب الطائرة فركبناها و أخذنا مقاعدنا فيها، وتحركت الطائرة على الوقت المحدد وسارت قليلا على المدرج ثم ارتفعت شيئا فشيئا في كبد السماء حتى استوت في سيرها فقدموا فطورا خفيفا، فما إن فرغنا من الفطور حتى أعلن المذيع قرب نزول الطائرة على مطار «راجا بهوج» بـ«بهوبال». وكنا ننظر إلى الترع والحياض التي تتخلل هذه المدينة وكأنها جزر في المحيط، والمطار متواضع لا تتردد إليها ليلا ونهارا إلا بعض الرحلات التي تعد على أصابع اليد، وقفت الطائرة وفتح بابها فنزلنا من الطائرة، وخرجنا من المطار، فإذا نحن بالمفتي أبي الكلام الذي أزوره أول مرة في حياته، رجل متوسط القامة، يزين وجهه لحية كثة واشتعل رأسه شيبا، ويعلوه عمامة تزيده مهابة وجلالا. فأخذ بنا بسيارة خاصة إلى المدينة العريقة، وهو يحدثنا عن المدينة و حكومتها الإسلامية السابقة وأمجادها ونشاطاتها.وقد وهب الله تعالى المدينة حسنا طبيعيا ساحرا، وكنا نمشي على الطريق المعوج وعلى يسارنا جبال وعلى اليمين ترعة من الترعات المنتشرة في هذه المدينة التي تزيدها بهاء وحسنا وخلابة. فلاتنقضي ترعة إلا ويتلوها ترعة أخرى حتى وصلنا إلى فندق في وسط المدينة أخبرونا بأنه كان ينزل فيه كبار علماء ديوبند لدى زيارتهم لهذه المدينة. تركنا الشيخ أبو الكلام  في الفندق لنأخذ قسطا من الراحة بعد سفر أرهقنا، فأوينا إلى الفراش ونمنا بعض النوم الذي أذهب عنا بعض عناء السفر. حتى عاد إلينا المفتي أبوالكلام ونجلاه ليأخذونا إلى بيته على مقربة من الفندق، فصحبناهم و وصلنا إلى البيت، وهو عبارة عن طابقين، يستخدم الطابق الأرضي لمدرسة صغيرة حديثة الإنشاء، يتلقى فيها شباب المدينة العلوم الدينية، فاجتمعنا بهم وبمجموعة من أقارب الشيخ وأهل المدينة، وتحدث زميلنا الشيخ منير الدين إلى الطلبة وأتحفهم بنصائح غالية، ثم صعدنا إلى الدور الأول حيث يقيم الشيخ و عائلته، ودخلنا قاعة الاجتماع التي يتخذها الشيخ لأعماله الروتينة والاجتماعات مع الوافدين والقادمين، وتناولنا الفطور وتبادلنا أطراف الحديث مع الحضور من أهل المدينة وبعض الطلبة الدارسين في الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند، ثم اتجه بنا الشيخ إلى بعض المساجد، الذي أقيم فيه ورشة عمل لتربية الشباب على مواجهة الأفكار المنحرفة عن جادة أهل السنة والجماعة، ويعد الشيخ أبو الكلام واحدًا من أكفئهم وأكثرهم تأثيرًا في نفوس العامة. وتحدث إلى الحضور فضيلة الشيخ أبو الكلام، وخلفه كاتب هذه السطور، وأخيرًا ألقى الشيخ منير الدين كلمة قيمةً حول الموضوع المطروح. ثم أقيمت صلاة الظهر و تناولنا الغداء مع الحضور، وعُدنا إلى الفندق ورجع الشيخ إلى بيته، وفي الساعة الخامسة عاد إلينا ليأخذنا إلى بعض الأماكن التاريخية في المدينة فمر بنا بجامعها المعروف بـ«تاج المساجد»، وهو مسجد واسع بعيد الأطراف موسع الأكناف، ولازالت معالم التاريخ الإسلامي وعناية الحكومة المسلمة بالمساجد و إنشائها مسطورة على جبينه، ثم توجهنا إلى مصلاها الذي يعد من أوسع مصليات العيد في الهند وفعلًا استغربنا سعته، ودرنا حوله، والإعجاب يأخذ منا كل مأخذ، وأبوابه مغلقة، سأل الشيخ عن بوابه فقيل: إنه خرج لبعض حاجته، ودخلنا المسجد المجاور للمصلى، فعرفه بعض من كان بداخله فحف إلى لقائه، وعرَّفَه الشيخ بنا، وأعرب عن رغبتنا في دخول المصلى، فأرشدنا إلى باب جانبي يدخل بنا إلى المصلى من داخل المسجد فدخلنا منه إلى المصلى، وأمضينا بعض الوقت نتجول في أنحائه، ويحدثنا الشيخ أبو الكلام عن بعض الأحداث الطريفة حوله. ثم عدنا إلى الفندق وأعجلنا قرب موعد صلاة المغرب عن زيارة ضريح العلامة صديق حسن القنوجي المعروف بكثرة تصانيفه وتنوعها، فقد قيل لنا : إنه بني على مثواه ضريح شامخ.

       وتعشينا عند بعض معارف الشيخ أبي الكلام ، الذي تكلف كثيرا في صنع الطعام وإعداده لنا، ثم توجهنا إلى ساحة «العلامة إقبال» حيث أقيمت الحفلة، وهي ساحة بعيدة الأرجاء مترامية الأطراف، و وصلنا والساحة مملوءة شبابًا ورجالًا وأطفالًا ونساءً على فرش مبسطوطة، وكراسي مصفوفة  بترتيب وتنسيق فائقين، جاؤوا يستمعون لكلمات الضيوف. واستمعنا إلى تلاوة عطرة للقرآن الكريم تشرف بها بعض القراء المجيدين، وإلى مدائح للنبي صلى الله عليه وسلم، أثارت الحماس الديني في قلوب الحضور. وأعطيت الكلمةُ لكاتب هذه السطور فتحدث عن التسامح الديني في الإسلام والأخلاق النبوية السامية ومعاملته مع ألدّ أعدائه و حاجة المسلمين إلى التمسك بهذا الهدي النبوي في العصر الحاضر. ثم تحدث الشيخ/ منير الدين عما كان عليه علماء ديوبند من حب النبي صلى الله عليه وسلم، وعظيم احترامهم له، وضرب أمثلة حية على ذلك. وكان لكلمته وقع عظيم في قلوب الحضور،  فوجدتهم يلهجون بالثناء عليه. وانتهت الحفلة في الساعة الواحدة و رجعنا إلى الفندق، وأوينا إلى الفراش، وأخذنا بعض النوم، واستقيظنا صباحًا مبكرًا لنتوجه إلى المطار حيث كان موعد الرحلة الساعة السادسة صباحا، و ودعنا الشيخ أبو الكلام وأنجاله وأقاربه من الفندق و شيعنا بعض أقاربه إلى المطار، دخلنا المطار ففوجئنا بتأخر الطائرة عن موعده لنحو ثلاث ساعات، فاتخذنا من بعض مقاعدها المستطيلة سريرًا، وغفونا بعض الغفوة، وأطلعنا الشيخ أبا الكلام على الوضع، فسارع إلى المطار مع وجبة الفطور، فما إن دخل قاعة الانتظارحتى عرفه بعض سلطات المطار فخف إليه. فأخذنا إلى صالة كبار الشخصيات المريحة، وجلسنا فيها، وأحضروا لنا الشاي، وأخذنا قسطًا من الراحة. فلما أعلن استعداد الطائرة للرحيل توجهنا إلى صالة الانتظار العامة ثم ركبنا الطائرة، ووصلنا إلى مطار دهلي، وتوجهنا منه بقطار «ميترو» إلى محطة القطارات الجديدة، حيث كنا حجزنا مقاعدنا في قطار «جن شتابدي»، وتأخر القطار قليلًا عن موعده المحدد الساعة الثالثة و الثلث، وبلغنا ديوبند الساعة السادسة مساء، حاملين رصيدًا عطرًا من ذكريات الحكومات الإسلامية الماضية في الهند وآثارها و أمجادها. وحمدنا الله على السلامة.

*  *  *

الهوامش:

( 1 )      الشيخ أبو الكلام بن إسماعيل القاسمي من مواليد مدينة «بهوبال» عام1964م ، تلقى مبادئ العلوم في مدرسة «ترجمه والي مسجد». وتخرج في الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند عام 1983م وقرأ الحديث على كل من الشيخ السيد عابد علي وجدي الحسيني، والشيخ نصير أحمد خان شيخ الحديث بالجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ديوبند، وأخذ الإفتاء في الجامعة نفسها، وعمل مدرسا في بهوبال، و رأس تحرير مجلة «دين مبين». ويشغل حاليا منصب المفتي العام بولاية بهوبال بجانب الإمامة والخطابة في الجامع بها، ومن أجل أعماله تأسيس «مدرسة أبي طلحة» في بهوبال. ورياسة تحرير مجلة «نداء خديجة» الشهرية.

( 2 )      والشيخ قاسم القاسمي في الخمسينات من عمره أحد خريجي الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند، على صلة قوية بأساتذتها وعلمائها، كثير الإكرام لهم والترحيب بهم، يدير مدرسة في بعض المساجد المطلة على شارع المطار بالقرب منه في مدينة دهلي العاصمة، والمدرسة تتضمن الصفوف العربية الأولى بجانب قسم تحفيظ القرآن الكريم، لايلقى القادمَ إلا هشًا بشًا.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، المحرم – صفر  1438 هـ = أكتوبر – نو فمبر 2016م ، العدد : 1-2 ، السنة : 41

Related Posts