دراسات إسلامية
بقلم: الأستاذ/ سيد محبوب الرضوي الديوبندي -رحمه الله-
(المتوفى 1399هـ / 1979م)
ترجمة وتعليق: محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري(*)
عام 1376هـ، وزيارة رئيس الجمهورية الهندية لدارالعلوم:
من أبرز أحداث هذا العام زيارة الدكتور/ راجندرا براشاد – رئيس الجمهورية الهندية- لدارالعلوم/ ديوبند، فقد زارها في 14/ذي الحجة 1376هـ (الموافق 13/يوليو عام1957م)، واستقبله على محطة ديوبند كل من الشيخ حسين أحمد المدني (1296-1377هـ/1879-1957م)، والشيخ حفظ الرحمن السيوهاروي (1318-1382هـ/1901-1962م)، والشيخ المقرئ محمد طيب (1315- 1403هـ/1897-1983م) -رئيس الجامعة-، والشيخ المفتي عتيق الرحمن العثماني (1319-1404 هـ/1901-1984م) بالإضافة إلى الشيخ عبد المنعم النمر والشيخ عبد العال العقباوي – من مندوبي المؤتمر الإسلامي-، وانطلقت سيارة رئيس الجمهورية من المحطة وآلاف من سكان ديوبند وضواحيها صفوف على جانبي الطريق استقبالا له، ولم تشهد المدينة منظرًا يماثله من قبل، فقد زُين الطريق كله إلى دارالعلوم/ديوبند بالأعلام الملونة، وسجل على أول بوابة صنعت بهذه المناسبة نص:
نفرش لك العيون والقلوب.
واصطف الطلاب داخل الحرم الجامعي صفوفا على جانبي الطريق، وقد تم توزيعهم على مجموعتين: مجموعة تمثل الطلاب المواطنين ومجموعة تمثل الوافدين من الدول الأخرى، وكان الطلاب المواطنون يمثلون كافة الولايات الهندية.
وتفقد سيادة رئيس الجمهورية دارالعلوم/ ديوبند بالتفصيل، وشاهد مبانيها، واطلع على النوادر من الكتب التي تشتمل عليها المكتبة العامة بالجامعة، و استمع إلى قصص تضحيات علماء ديوبند في سبيل تحرير البلاد، كما شاهد الحياة البسيطة في الطلاب والأساتذة، وركّز عنايته على ترجمة فارسية لمعاني القرآن الكريم، وكلّف كاتب هذه السطور قراءة بعض السطور من الترجمة الفارسية، وعقدت حفلة ترحيب بسيادة رئيس الجمهورية عقب زيـارة مـرافق الجامعــة، وقدم فيها رئيس الجامعـة كلمة التحية والترحيب بالضيف المبجل، و ردًا عليه قدّر رئيس الجمهورية دارالعلوم وثمّنها، وقال في كلمته التي ألقاها على الحضور:
«لم تقتصر خدمات عظماء دارالعلوم/ديوبند على سكان البلاد، بل كسبوا – بجهودهم ومساعيهم- من السمعة الطيبة ما جعل الطلاب الأجانب يفدون إليهم، ويتلقون العلوم عليهم، ثم رجعوا إلى بلادهم و نشـروا فيها ما تلقوه من العلوم. وآمل أن تواصلوا مسيرتكم هذه بنفس الإخلاص وحسن النيـة والعزيمــة التي عُرفتهم بها إلى اليوم، وأملي كبير أن تشهد دار العلوم هذه الرقي والازدهار مع مرور الأيام، وتستمر في خدمتها لا لهذه البلاد فحسب وإنما لغيرها من البلاد».
وقال سيادة رئيس الجمهورية لدى تناوله الشاي في المساء وهو يخاطب أعضاء دارالعلوم/ ديوبند:
«كان عظماء دارالعلوم يتلقون العلم للعلم، وقد سبق أمثالهم في الماضي ولكنهم قليلون، ممن كانوا يتلقون العلم للعلم فحسب، ويعلّمونه للعلم كذلك، وهؤلاء يكسبون من العز ما يفوق عزالملوك. وإن عظماء دارالعلوم يتأسون بأسوتهم، وأرى أن ذلك ليس خدمةً لدارالعلوم أو للمسلمين فحسب، وإنما هي خدمة للهند و للعالم كله.
وإن العالم يعيش حالةً من القلق والاضطراب لما تفشى فيه من المادية، وفقدت القلوب راحتها وسكونها، والعلاج الحقيقي لهذا المرض إنما هي الروحانية، و أرى أن عظماء هـذه الدار يوفّرون للعالم أسباب الراحة والطمانينة هذه، وأرى أن الله تعالى إذا كان قدّر الإبقاء على هذه الدنيا فإن العالم يجب عليه أن ينتهج هذا المنهج نفسه، و عليه ستشهد الجهود العلمية التي يبذلها عظماء دارالعلوم الرقي و التطور، وسيستمر العمل على ذلك. لقد سُررت جدا بزيارتي لدارالعلوم، و أرجع حاملا ما أحمله، و أقدّم الشكر الجزيل إلى كافة مسؤولي دارالعلوم»(1).
وأعرب رئيس الجامعة عن انطباعاته عن رئيس الجمهورية الهندية بقوله:
«لقد وجدت رئيس الجمهورية الهندية شخصية محترمة تشغل منصبا محترما؛ بل وجدته رجلا زاهدا، و مشفقا متحليا بصفات العظماء، وإنسانا ملتزما بالدين والأخلاق».
وقامت الصحف الإنجليزية الهندية بتغطية زيارة رئيس الجمهورية الهندية لدارالعلوم، ويجدر بنا أن نسوق انطباعاتها وخاصة جريدة «هندوستان تائمس»-Hindustan Times- بنصّها عن دارالعلوم، فإنها-جريدة «هندوستان تائمس» تمثل في مقالها الميول التقدمية التي يحملها الأوساط المثقفة ثقافةً جديدةً، حيث قالت الجريدة:
«قَلَّ من يدّعي في الهند العلم والمعرفة بالمؤسسات التي لم تحظ بالدعاية والشيوع إلا الأقلّ من القليل، و لكنها دائبة في التأثير في الأفراد والأحداث من خلال عملها الصامت والمبدئي، و من هذه المؤسسات: المؤسسة الإسلامية: دارالعلوم في «ديوبند»، التي زارها رئيس الجمهورية الهندية. وتحتلّ دارالعلوم– بصفتها أكاديمية دينية- الدرجة الثانية بعد جامعة الأزهر في القاهرة في العالم الإسلامي، فليس عجيبا أن يشتغل وفد أزهري مكون من أستاذين بالتدريس في دارالعلوم/ديوبند منذ سنتين. والذين أسسوا دارالعلوم في «ديوبند» عام 1866م هم العلماء الذين ساهموا في حرب تحرير البلاد قبل ذلك بعشرة أعوام، و لعل تأسيس المدرسة يرجع إلى قيام الحكومة الأجنبية في البلاد، فإن قيادات دارالعلوم قد لعبوا دورا ناشطا في كافة الحركات الهادفة إلى تحرير البلاد. فمعظم القيادات في جمعية علماء الهند- وهم جماعة قوية للعلماء القوميين-كانوا قد تخرجوا في دارالعلوم/ديوبند، فلم تَعُقْ سياساتُ العصبة الإسلامية الموالية لبريطانيا ولافكرة «أمتين» أولي العزم من العلماء دون المساهمة في نشاطات الدور القومي؛ فقد عارضوا بريطانيا في عهد الخلافة، و وافقوا على ميول المؤتمر الوطني في الحرب العالمية الثانية عام 1940م. ولم تساهم هذه المؤسسة مساهمة فاعلة في حياة الدولة السياسية فحسب، وإنما نالت جهودها وأعمالها الدينية – بما فيها إعداد الكتب – حفاوةً وتشجيعًا من العالم الإسلامي. وحافظت على تقاليد الدراسات الإسلامية في مجال التعليم،كما عملت على إبقاء الرغبة في العربية والفارسية، و قامت بتطوير قضية الأردوية.
وغاية ما يمكن أن يُنقم من مدرسة دارالعلوم هو أنها لم تعد متطورة على المستوى الاجتماعي و المجال الأكاديمي، و ربما يُثنى على جمودها الكلاسيكي والرجعية إلا أنها إذاكانت تريد ممارسة تأثيرها الذي يجب أن تمارسه؛ فإنه يتطلب منها أن تعدِّل طريقتها ومنهجها بما يوافق الأوضاع الراهنة؛ فإن القومية (Nationalism) لبست لباسا جديدا، كما يجب أن يتم شرح الدين شرحا جديدا يتفق و الأوضاع الراهنة. وإن حركة دعوة مختلف القيادات الدينية لأتباعها إلى التناغم والتوافق فيما بينهم تستحق العناية والتركيز بصورة خاصة إلا أنه يجب أن لاتتحق هذه الجهود على أساس الاستدلال. ومن وظائف أمثال هذه المؤسسة المحترمة أن تعين على اتخاذ الخطوات العملية في سبيل نشرمبادئها ونظرياتها بصورة تحترم أصول كافة الأديان وعباداتها، وأن تشجع ذلك مراعية لنزعة القومية الجديدة المخلصة و الصحيحة(2).
وقامت جريدة «الجمعية»/دهلي بالتعليق على النصيحة المخلصة التي أسدتها جريدة «هندوستان تائمس» إلى دارالعلوم في حينه، وفيه غنية عن تعليق آخر عليها، و قالت الجريدة في تعليقها عليها:
«اتفق أن زار الدكتور/راجندرا براشاد –رئيس الجمهورية الهندية- دارالعلوم/ديوبند في الأيام الأخيرة، واستهدفت هذه الزيارة مشاهدة أكبر جامعة إسلامية: دارالعلوم/ديوبند، والاتصال بمركز العلوم هذا، الذي ظل قرنا من الزمان مصدرًا لحركة تحرير البلاد، فقد اطلع سيادة الجمهورية فيها على المكتبة، وشاهد بأم عينيه النوادر من المخطوطات، وتجاذب أطراف الحديث مع الأستاتذة الكرام، و ثَمَّنَ في كلمته خدمات دارالعلوم الممتدة، واعترف بمكانتها التاريخية الدينية الرفيعة، و رجع حاملا معه رصيدا من العواطف والمشاعر الطيبة.
وقد أولت جريدة «هندوستان تائمس» الشقيقة زيارة سيادة الرئيس القصيرة لدارالعلوم أهمية بالغة، واستفاضت في الثناء على ماضي دارالعلوم المجيد وتثمينه، واعترفت بحق بأن دارالعلوم/ديوبند من المؤسسات التي مارست التأثير على الأفــراد والأحــداث بخـدماتها الصامتة والمتواصلة بشكل دائم. و هي الجامعة الوحيـدة في الهند، التي تحتل أهمية أخص بعد جامعــة الأزهـر بالقاهـرة في العــالم الإسلامي. فإن مـن بُناتها مـن ساهمــوا في تحرير البلاد قبل ذلك بمدة طويلة، واحتضنوا كافة حركات التحرير. وجمعية العلماء -التي تشكل أقوى مؤسسة للعلماء القوميين- أعضاؤها الناشطون من نتاج هذه الدار ومن خريجيها، ولم تؤثر في هؤلاء العلماء سياسةُ العصبة الإسلامية الموالية للإنجليز، ولاحرفت نظريةُ «الأمتين» وجهة نظرهم. وقد سبق العلماء إلى الموافقـة على قرارا المؤتمر الوطني إبّان حركة تحـرير البلاد. وكل ما أعربت عنه الجريدة الشقيقة عن دارالعلوم/ ديوبند وجمعية علماء الهند في هذه السطور، تقوم على الأحداث والوقائع، و أعجبنا أن اعترفت بالوقائع والأحداث برحابة صدر.
ثم نصحت الجريدة الشقيقة دارَالعلوم/ديوبند بأن تتصف – بجانب استمرارها على الرجعية- بقدر من المرونة يعينها على التوصل إلى حلِّ القضايا المستجدة. وقالت الجريدة: «إن غاية ما يمكن أن يُنقم من دارالعلوم أنها لم تشهد تطورا ملحوظا على المستوى الاجتماعي والمجال الأكاديمي». و نرى أنه ليس مما ينقم من دارالعلوم/ديوبند، وإن الأخ يحق له أن يشير على أخيه وينبهه على بعض أخطائه، وانطلاقا من روح المواخاة هذه نقول: إن الرقي والرجعية قد يكونان من الكلمات ذات المعاني الإضافية و النسبية (Relative)؛ فقد ترى الجريدة الشقيقة الجمودَ في مواقف دارالعلوم وأدوارها، والواقع خلاف ذلك؛ فإن دارالعلوم /ديوبند دائبة في تحقيق الأهداف التي دفعت إلى إنشائها ولَشهد نطاقُ عملها توسعا وشيوعا، وخطت-دارالعلوم- خطوات حثيثة في مجال الرقي والازدهار لولا أن حدث تقسيم البلاد و أثرت تداعيات الأوضاع والأحداث على مواردها المالية، ولكن لم يحدث ما رجوناه، ونحن أكثر شعورا بذلك من الجريدة الشقيقة.
ومما نصحت الجريدة الشقيقة أن القومية أخذت تلبس لباسا جديدا، ويجب أن يتم شرح الدين و بيانه بصورة توافق الأوضاع الراهنة. ولعل الجريدة الشقيقة يعجبها أن تدرك أن المبادئ الإسلامية تنسجم مع كافة الأزمنة والعصور، ونحن غير مضطرين إلى شرح وبيان يعني مسخ الأصول والمبادئ ونفيها. و تشهد التجارب بأن ما تتضمنه المبادئ العالمية من المساواة والأخوة الإنسانية واحترام الآدمية، وما تتضمنه القوانين الشخصية من الطلاق والإرث وحقوق المرأة في التملك؛ كل ذلك من نتاج هدي الإسلام و إرشاداته. ولم يستطع غيرالمسلمين التاكيد على تجددهم وتنورهم إلا باتباع هذه الأصول والمبادئ الإسلامية. وأما التعبير الجديد عن الدين فإن غيرنا يحتاجون إليه دائما، والإسلام بذاته تعبير يحوي طبيعة كل زمن و عصر ويتقبلها، ويغطي حاجات المجتمع كلها.
وصدقت الجريدة الشقيقة في قولها بأن من واجب القيادات في كل دين أن يسعوا أكثر فأكثر لتحقيق التناغم والتوافق بين أتباع الأديان، وأن من واجب دارالعلوم وأمثالها من المؤسسات أن تقوم بنشر أفكارها مع احترام مبادئ كافة الأديان وأعمالها الدينية، مما يعين على تحقيق القومية الحقيقية الصحيحة المنسجمة مع النزعات الحالية. ومن الصعوبة بمكان معارضة هذه النصيحة، إلا أن القومية إذا لم يقتصر معناها على ما هو المعروف والمشهور؛ فإن علماء ديوبند ظلوا حملة لوائها والأمناء عليها. و في بداية عهد حركة تحرير البلاد –حين لم تتجاوز القومية مرحلة الطفل الرضيع- قام علماء ديوبند بتخطيط حكومتهم اختاروا «راجه مهندربرتاب» لرئاستها. ودَعُونَا نقول: إنه لم تحدث قومية خيرا وأنظف من هذه القومية ليومنا هذا، و لانثق بحدوث مثلها في المستقبل كل الوثوق. وسلكنا في الرد على إشارات الجريدة الشقيقة مسلك الإشارات نفسها آملين أن لايصعب فهمها عليها(3).
* * *
الهوامش:
(1) رئيس الجمهورية الهندية في دارالعلوم، ترتيب السيد محبوب رضوي ص27-32، الناشر:دارالعلوم/ديوبند.
(2) «هندوستان تائمس» بتاريخ 16/يوليو عام1957م.
(3) جريدة «الجمعية»/دهلي، بتاريخ 19/يوليو عام1957م.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالحجة 1437 هـ = سبتمبر 2016م ، العدد : 12 ، السنة : 40
(*) أستاذ التفسير واللغة العربية وآدابها بالجامعة.