إشراقة

       عندما نتعامل مع الناس نتوقع أن يعاملونا معاملتَنا إيّاهم؛ ولكنهم في الأغلب لايعاملوننا على مانريد، وإنما يعاملوننا على مايَهْوَوْن هم، فكثيرًا ما يَحْدُثُ أنّنا نتصرف مع أحد ببشاشة وترحاب بالغين؛ ولكنه لايقابلنا بمثلهما؛ بل قد يقابل البشاشة بالعبوس والتجهم.

       وقد يَحْدُثُ أننا نصافي أحدًا ونُخْلِص له الودَّ؛ ولكنه لايكافئنا بمثل حبنا له، ولا ينزل على مستوانا من المصافاة، وقديمًا قال الشافعي – رحمه الله – يُعَبِّر عن هذه الحقيقة:

ومَا كُلُّ مَنْ تَهْـوَاهُ يَهْـوَاكَ قَلْبُــهُ

ولَا كُلُّ مَنْ صَافَيْتَهُ لَكَ قَدْ صَفَا

       إنّ الله خَلَقَ الناسَ على طبائع يختلف بعضُها عن بعض، وأرشدنا إلى المنهج الحكيم الذي رضيه لنا؛ لكي نعيش الحياةَ بسعادة وعافية وهدوء: «وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» (فصلت:34).

       مقابلةُ الإساءةِ بالإحسانِ هِي الحكمة الربّانية والوسيلة اللطيفة التي يمكن بها علاجُ كثير من المفاسد الاجتماعيّة التي تَنْخُرُ كيانَ المجتمع البشري وتُحَوِّل حياةَ أعضائه جحيمًا لا تُطَاق. ورغمَ ذلك قد نجد بعضَ الناس قد جُبِلُوا على ما لايمكننا إصلاحُه، فلا سبيلَ لنا معهم إلّا أن نصبر ونحتسب ونُفَوِّض الأمرَ إلى الله أو نتخلّى عنهم ونفارقهم فنتركهم وشأنَهم.

وقد كان نبينا –صلى الله عليه وسلم- يتحمل أخطاء الناس لآخر الحدود، ويتعامل معهم برفق ولين، ويظل في معاملته مع الناس – ولاسيّما المخطئين – «عقلانيًّا» لا «عاطفيًّا» ويملك قلوبهم بالعفو عنهم، ويتحمل الأذى في سبيل كسب قلوبهم والتأثير فيهم.

       جاءه –صلى الله عليه وسلم- أعرابي يستعينه في دية قتيل، فأعطاه النبي –صلى الله عليه وسلم- شيئًا، ثم قال له: «أحسنتُ إِليك؟».

       قال الأعرابي: لا، لا أحسنتَ ولا أجملتَ. فغضب بعض المسلمين وهمّوا أن يقوموا إليه، فأشار إليهم النبي –صلى الله عليه وسلم- أن كُفُّوا، ثم قام إلى منزله، ودعا الأعرابي إلى بيته، فقال له: «إنك جئتنا فَسَأَلْتَنَا فأعطيناك فقلتَ ما قلتَ» ثم زاده النبي –صلى الله عليه وسلم- مما وجده في بيته من المال، فقال: «أحسنتُ إليك؟». فقال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا.

       فقال –صلى الله عليه وسلم-: «إنك كنتَ جئتَنا فأعطيناك، فقلتَ ما قلتَ، وفي نفس أصحابي عليك من ذلك شيء، فإذا جئتَ فقل بين أيديهم ما قلتَ بين يديّ؛ حتى يذهب عن صدورهم».

       فلما جاء الأعرابي، قال –صلى الله عليه وسلم-: «إن صاحبكم كان جاءنا فسألنا فأعطيناه، فقال ما قال. وإنا قد دعوناه فأعطيناه، فزعم أنه قد رضي».

       ثم التفت إلى الأعرابي، وقال: «أكذلك؟».

       قال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا.

       فلما همَّ الأعرابي أن يخرج إلى أهله، أراد النبي منتهزًا الموقف أن يعطي أصحابه – رضي الله عنهم – درسًا في كسب القلوب وخطب ودّ الناس، فقال لهم: «إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة، فشردت عليه، فاتبعها النـاس – يعنـي يركضون وراءها ليمسكوها – وهي تهرب منهم فزعًا، ولم يزيدوها إلا نفورًا. فقال صاحب الناقة: خَلُّوا بيني وبين ناقتي؛ فأنا أرفق بها وأعلم بها. فتوجّه إليها صاحبُ الناقة، فأخذ لها من قُشَام الأرض، ودعاها، حتى جاءتْ واستجابتْ، وشَدَّ عليها رحلَها، واستوى عليها. ولو أني أطعتُكم حيث قال ما قال، دخل النارَ» (البزّار:8799).

       وفي الطائف لقي النبي –صلى الله عليه وسلم- أشد المواقف وأحرجها من قبيلة «ثقيف» التي خرج إليها يلتمس منها التأييد والنصرة؛ ولكنها قابلته بأشد ما يكون من الإساءة وصبّ الأذى؛ حيث أغرت به سفهاءهم فجعلوا يلاحقونه ويركضون وراءه يتناولونه بالسبّ ومُرّ القول ويصيحون به ويرضخون رجليه بالحجارة، حتى صارت قدماه تسيلان بالدماء، فلجأ إلى ظل نخلة وهو مُحَطَّمٌ مكسور البال، فرفع طرفه إلى السماء، وتضرع إلى ربه بأرقّ ما يكون من الكلمات: «اللهم إليك أشكو ضعفَ قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت ربّ الـمُسْتَضْعَفِين، وأنت ربّي، إلى من تَكِلُنِي؟ إلى بعيد يَتَجَهَّمُنِي، أم إلى عدوّ ملّكتَه أمري؟ إن لم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أبالي؛ ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تُنْزِل بي غضبَك، أو تُحِلَّ عليّ سخطَك. لك الْعُتْبَىٰ حتى ترضى، ولاحول ولا قوة إلا بك».

       وبينما هو كذلك فإذا بسحابة تُظِلّه، وإذا فيها جبريل، فيناديه: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شِئْتَ في شأنهم. وناداه ملك الجبال: السلام عليك يا رسول الله! يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، قد بعثني إليك ربك لتأمرني ما شئتَ. وجعل ملك الجبال يقول: إن شئتَ نطبق عليهم «الأخشبين»: وهي جبلان عظيمان في جانبي مكة، وظل ملك الجبال ينتظر أمره –صلى الله عليه وسلم- ولكنه لايزيد على أن يقول: «بل أستأني بهم، فإني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئًا» (كنزالعمال: 3613؛ مجمع الزوائد: 9851).

       إن السيرة النبوية تفيض بالمواقف الشديدة العصيبة التي عفا فيها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن المسيئين، ودعا لهم بالصلاح والهداية، المواقف التي لا يسع أحلمَ الحالمين غيره –صلى الله عليه وسلم- أن يحتملها ويصفح عمن أساء إليه هذه الإساءة البالغة.

       لقد ترك لنا –صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة في كل من القول والفعل، ويكفينا أن نتأسّى به لحدّ مستطاع، فنساهم في تحويل المجتمع جنة غنّاء وروضة مزهرة مسكونة بكامل السعادة والهناء.

       في إحدى محطّاتي التدريسية في مُقْتَبَل شبابي فوُجِئْتُ بطالب صغير السنّ مشاغب كثير التعرض لزملائه بما يلهيهم عن الاستماع للمحاضرات الدراسيّة، وكنتُ شديد المؤاخذة للطلاب على إغفالهم للاستماع وإهمالهم للاهتمام بالدراسة؛ ولكني لم أَسِرْ معه سيرتي مع عامة الطلاب لكونه جريئًا مُتَصَلِّبًا غير ملتزم بالأدب؛ وإنما جعلتُ لا ألتفت إليه خلال إلقاء المحاضرة وشرح الدرس، وما إن مضت أيامٌ حتى حضر الطالب غرفتي السكنية، وجعل يعتذر إليَّ بصدق عما بدر منه خلال الشهور الماضية منذ أن بدأ العام الدراسي وبدأتُ ألقي عليه وعلى زملائه الدرس في المادة الـمُخَصَّصَة، فما تناولتهُ بالملام وإنما قلتُ له: أنا أعفو عنك شريطةَ أن لا ترجع إلى ما كنتَ عليه. فتَغَيَّر الطالبُ من داخله، وتأثر تأثرًا بالغًا من صنيعي إليه لقاءَ موقفه المسيء الطويل الذي أزعجني كثيرًا، وقَدَّمَ بعد أيّام هدية غاليةً لم أرضَ أن أقبلها منه، إلّا أن عددًا من زملائه الـمُجِدِّين الذين ظِلْتُ أَلْـمَسُ فيهم الصلاحَ شفعوا له وأَصَرُّوا عليّ أن أقبلها حتى يكون ذلك داعيًا أفعل لِصلاحه المزيد في الأيام المقبلة.

       وفعلاً كان ما تَوَقَّعُوه؛ حيث إن الطالب تَحَسَّنَ جدًّا، وصَلَحَ ظاهره وباطنه، وصار من الطلاب المجتهدين، المهتمين بالدراسة، العاكفين على المذاكرة واستظهار الدروس، ومن وقت لآخر كان يدخل عليّ في غرفتي ويبدي ندامته على تصرفاته المسيئة الماضية، ويقول: إن عفو السيّد الأستاذ عن تقصيراتي التي كانت شنيعة جدًّا أَثَّر فيّ كثيرًا، وجَعَلَنِي أُغَيِّر منهجي في الحياة، وأفكر أن سيّدي منصهر في بوتقة المتأدبين الصلحاء الذين كانوا قد تعوّدوا التسامح والصفح والاحتمال وكظم الغيظ؛ حيث قَابَلَ إساءتي المتناهية بإحسانه غير المحدود، وما كنتُ أتصوّر أن مثله –الأستاذ- العامل بالانضباط والنظام، الملتزم بالمنهجيّة، سيعاملني معاملةَ العفو ولا يؤاخذني على تصرفاتي الخرقاء المسيئة المزعجة المتصلة!.

(تحريرًا في الساعة 12 من يوم الثلاثاء: 6/شوال 1437هـ الموافق 12/يوليو 2016م)

أبو أسامة نور

 nooralamamini@gmail.com

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالحجة  1437 هـ = سبتمبر 2016م ، العدد : 12 ، السنة : 40

Related Posts