دراسات إسلامية
بقلم: الدكتور/ أحمد سحنون (المتوفى:1424هـ)
خلقُ المسلم كان خير دعوة إلى الإسلام فأصبح خلق المسلم اليوم منفرًا من الإسلام وحجة على الإسلام، ولكن ما ذنب الحسام إذا ما أحجم البطل. والحقيقة التي يجب أن لا تغيب عن البال هي أن المبادئ العظيمة إذا لم تعش في أشخاص وتتمثل في سير أفراد نسيها الناس واختفت من مسرح الحياة، والإسلام -وهو المثل الأعلى للمبادئ الإنسانية العظيمة- لو لم يعش في أشخاص أناس ويتمثل في سيرهم ويحيىٰ في سلوكهم لما بقي إلى اليوم، ذلك أن المبادئ الإنسانية والأخلاق العظيمة قدوة وعمل وليست مجرد أقوال تقال أو ألفاظ تكتب أو دعاوي يتبجح بها، وما دعا إلى مبدإ كالعمل به، وما نهى عن خلق قبيح كاجتنابه، لذلك يقول الله – تبارك وتعالى- على لسان نبيه شعيب -عليه السلام-: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا اَنْهٰكُمْ عَنْهُ﴾ [هود/88] فإذا أردنا لعصر الإسلام الذهبي عودة فلنتخلق بأخلاق عظماء الإسلام، والرسول –صلى الله عليه وسلم- يقول: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار كذلك». وشكا قوم إلى المسيح – عليه السلام- ذنوبهم فقال: «اتركوها تغفر لكم» والشاعر يقول:
وما المــرء إلا حيث يجعــل نفسه
ففي صالح الأعمال نفسك فاجعل
وإلى القارئ هذه الذخائر الغالية من الأخلاق العالية في ناحية واحدة من نواحي الخلق وهي سماحة النفس وسخاء اليد؛ لأن المقام لا يتسع لسائر النواحي ولأن كل ناحية من هذه النواحي ستأتي أمثلتها في موضعها إن شاء الله: جاء رجل إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- يسأله فأعطاه غنمًا بين جبلين فرجع إلى قومه وقال لهم: أسلموا؛ فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة. وأعطى صفوان بن أمية مئة من الإبل ثم مئة أخرى ثم مئة أخرى فكان صفوان يقول: كان محمد أبغض الناس إلي فما زال يعطيني حتى صار أحب الناس إلي. وهكذا كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يجعل من الدنيا وسيلة إلى الدين، ومن المال مناقذ من الضلال وهو –صلى الله عليه وسلم- قدوة لأمته في كرم الفعال وطيب الخلال فاقتدى به أصحابه وسار على منهاجه أتباعه فلم يكن المال في أيديهم إلا زلفى إلى الله وأداة إصلاح للمجتمع.
فهذا أبو بكر الصديق – رضي الله عنه- خرج من ماله لله ثلاث مرات وورد عليه في أول خلافته مال من بعض العمال فصبه في المسجد وأمر مناديًا ينادي: من كان له عند رسول الله دين أو عدة فليحضر، فجاء أبو أيوب وقال: إن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال لي: إن جاءني مال أعطيتك هكذا أو هكذا وهكذا وأشار بكفيه فقال له أبو بكر: فاذهب فخذ، قال: فحفنت حفنة فقال: عدها، فوجدت فيها خمس مئة دينار فقال: عد مثليها، فانصرفت بألف وخمس مئة، ثم قسم الباقي على المسلمين.
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضيق على نفسه ويوسع على المسلمين ويغمرهم بالعطاء وقول: إذا أعطيت فاغمر. ولما فتح العراق وجيء إليه من المال بما لم ير مثله قيل له: أدخله بيت المال، قال: لا ورب الكعبة لا يرى تحت سقف بيت المال حتى يقسم فغطى في المسجد بالأنطاع وحرسه رجال من أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فلما أصبح ورآى الذهب والفضة والياقوت والزبرجد بكى، فقال له بعض الصحابة: ما هذا يوم بكاء، ولكنه يوم شكر وسرور فقال: والله ما كثر هذا في قوم إلا رجع بأسهم بينهم ثم توجه إلى القبلة وقال: اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجا؛ فإني سمعتك تقول: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف/187] ثم قال لهم: أين سراقة؟ فأتى به أشعر الذراعين فأعطاه سواري كسرى وقال: ألبسهما، ففعل فقال: قل: الله أكبر، فقال: الله أكبر، فقال: قل الحمد لله الذي سلبهما كسرى لكفره وألبسهما أعرابيًا من بني مدلج لإيمانه ولم يعط سراقة شيئا زائدًا على السوارين؛ فإن فيهما غنى الدهر، وكان ذلك تصديقا لما تنبأ به –صلى الله عليه وسلم- إذ نظر يوما إلى ذراعي سراقة فقال له: كأني بك وقد لبست سواري كسرى فقال سراقة: ملك الملوك؟ قال: نعم، وقال عمر لما قسم تلك الأموال: إن الذي أدى إلينا هذا لأمين. فقال رجل: لما كنت أنت أمينًا كان الناس كلهم أمناء ولو رتعت لرتعوا قال: نعم. وهذا عثمان -رضي الله عنه- لما أراد –صلى الله عليه وسلم- غزو تبوك رغب الناس في النفقة في سبيل الله- قال عثمان: (علي مئة بعير بأقتابها وأحلاسها، ثم رغب –صلى الله عليه وسلم- في النفقة في سبيل الله فقال عثمان رضي الله عنه: وعلي مئة أخرى بأقتابها وأحلاسها ثم فعل ذلك في الثالثة فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذ ذاك ما على عثمان ما فعل بعد هذه، وكانت في المدينة بئر لرجل من اليهود لا يستقى منها أحد إلا بثمن فاشتراها عثمان بأربعين ألفًا وأباحها للمسلمين، وكان بجوار المسجد بيت فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: من اشتراه وزاده في المسجد فله الجنة، فاشتراه عثمان بعشرين ألفًا وأدخله في المسجد، وأصاب الناس قحط في خلافة أبي بكر فلما اشتد بهم الأمر جاؤوا إليه وقالوا: يا خليفة رسول الله، إن السماء لم تمطر والأرض لم تنبت فماذا نصنع؟ قال: انصرفوا واصبروا؛ فإني أرجو الله أن لا تمسوا حتى يفرج الله عنكم، فلما كان في آخر النهار ورد الخبر بأن عيرًا لعثمان جاءت من الشام فخرج الناس يتلقونها فإذا هي ألف بعير موسوقة برًا وزيتًا وزبيبًا فأناحت بباب عثمان فأقبل التجار فقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: إنك لتعلم ما نريد بعنا من هذا المال الذي وصل إليك، فإنك تعلم ضرورة الناس إليه قال: حبًا وكرامة كم تربحوني على شرائي؟ قالوا: الدرهم درهمين قال: أعطيت زيادة على هذا، قالوا: أربعة قال: أعطيت زيادة على هذا قالوا: خمسة قال: أعطيت أكثر من هذا قالوا: يا أبا عمرو، ما بقي في المدينة تجار غيرنا، وما سبقنا إليك أحد فمن ذا الذي أعطاك؟ قال: إن الله أعطاني بكل درهم عشرة أعندكم زيادة؟ قالوا: لا قال: فإني أشهد الله أنني جعلت ما حملت هذه العير صدقة لله على المساكين وفقراء المسلمين.
وهذا علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه-، وجد درعه عند نصراني فأتى به شريحًا قاضيه يخاصمه مخاصمة رجل من رعاياه- وهو خليفة- وقال: إنها درعي ولم أبع ولم أهب. فسأل شريح النصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب، فالتفت شريح إلى علي يسأله: يا أمير المؤمنين هل من بينة؟ فضحك علي وقال: أصاب شريح مالي بينة، فقضى شريح بالدرع للنصراني فأخذها ومشى وأمير المؤمنين ينظر إليه … إلا أن النصراني لم يخط خطوات حتى عاد يقول: أما أنا فأشهد أنها أحكام أنبياء، أميرالمؤمنين يدينني إلى قاضيه فيقضي عليه، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين اتبعت الجيش وأنت منطلق إلى صفين فخرجت من بعيرك الأورق فقال علي: أما إذا أسلمت فهي لك، وأمثال هذا كثيرة.
وهكذا كانت أخلاق المسلمين تغزو القلوب وتدعو إلى الإسلام، وهكذا كانت سماحة نفوسهم بما في أيديهم تأسر لهم نفوس الناس فتحبب إليهم الإيمان ويدخلون في دين الله أفواجًا، وهكذا- بعد أن كان المسلمون يضحون بكل شيء في سبيل الله وفي سبيل نشر دينهم- أصبحوا يضحون بكل شيء في سبيل أغراض دنياهم حتى بدينهم، ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [البقرة/16].
* * *
* *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالقعدة 1437 هـ = أغسطس – سبتمبر 2016م ، العدد : 11 ، السنة : 40